في رحاب المدينة المنوّرة
في فصل خاصّ يفرده بورتون
لزيارة قبر النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، يستهلّ الكتابة بالخوض في
موضوع المفاضلة بين مكّة والمدينة . فيقول: إنّ المسجد النبوي هو أحد
الحرمين ، وثاني الأماكن المقدّسة الثلاثة المعدّة للعبادة ، أمّا
الاثنان الآخران فهما; المسجد الحرام في مكّة ، والمسجد الأقصى في القدس
الشريف .
ثمّ يوضّح الفرق بين استحباب
(زيارة) الرسول(صلى الله عليه وآله) ووجوب فريضة الحجّ إلى بيت الله
الحرام . . ليستعرض الآراء حول منزلة المسجد النبوي ومكانته
الروحية ، خاصّة لدى المذاهب الإسلامية ، وأنّ الشرف الذي حظيت به
المدينة يعود إلى أنّ ثراها قد ضمّ رفات الرسول الأكرم(صلى الله عليه
وآله) ، ثمّ يعرج إلى تبيان موقف الوهابيّين قائلاً: «ولمّا كان
الوهابيّون من جهة اُخرى لا يعترفون بشفاعة الرسول يوم القيامة ،
ويعتبرون قبر الرسول قبراً مثل سائر القبور وشيئاً لا يُعتدّ به ،
ووسيلة للعبادة (الوثنية) التي يمارسها بعض المسلمين (الحمقى) ، فقد
نهبوا المبنى المقدّس بعنف ينطوي على التدنيس ، ومنعوا الزوّار القادمين
من البلاد النائية عن الدخول إلى المدينة>49 .
بعد هذه الإطلالة ، يشرع
في وصف مظهر الحرم النبوي الشريف ، فالمسجد متوازي الأضلاع يناهز
الأربعمائة وعشرين قدماً في الطول والثلاث مائة وأربعين في العرض ، وهو
مثل سائر المباني الدينيّة الإسلامية المعتادة مبنى فيه ساحة وسطى مكشوفة
تسمّى الصحن ، أو الحوش . . يحيط بها بهو له صفوف عديدة من
الأعمدة على شاكلة الأديرة الايطالية . والأروقة فيها سقوف
منبسطة ، لكنّها مقبّبة من فوق بقبب تشبه القبب الأسبانية نصف
التاريخية . . ويمتدّ على طول الجدار الشمالي القصير من داخله
الرواق المجيدي المسمّى باسم السلطان الحاكم (عبد المجيد) ، كما يشغل
الجدار الغربي الطويل رواق باب الرحمة ، والجدار الشرقي رواق باب
النساء ، ويستمدّ الرواق الأخير اسمه هذا من قربه من قبر السيّدة
فاطمة(عليها السلام)ويدخل النساء منه عندما يردن زيارة القبر
المطهّر .
ويحتضن الطول الداخلي للجدار
الجنوبي القصير صفّ الأعمدة الرئيس المحيط بالروضة ، أي الموضع المحتوي
على جميع ما هو مقدّس في الحرم . وهذه الأروقة الأربعة المقدّسة من
الخارج تحملها من الداخل أعمدة تختلف بعضها عن بعض في الشكل والمادّة .
وقد بُلّط الرواق الجنوبي الذي يقوم فيه الضريح بقطعة جميلة من الرخام الأبيض
المشغول بشغل التطعيم ، المغطّى هنا وهناك بالحصر الخشنة التي فُرش
فوقها السجّاد غير النظيف المتآكل بأرجل المؤمنين>50 .
ثمّ يستعرض المنائر في الحرم
الشريف ، ويبلغ عددها خمساً ، لكن منارة واحدة هي الشكيلية التي
تقوم في الزاوية الشمالية الشرقية من المبنى قد هُدّمت وما تزال تُبنى بشكل
جديد . أمّا المنائر الأربعة الاُخرى فهي; منارة باب السلام ،
منارة باب الرحمة ، المنارة السليمانية المسمّـاة باسم بانيها السلطان
سليمان القانوني ، والمنارة الرئيسية . ويقول بورتون: إنّ هذه
الأخيرة سُمّيت رئيسيّة; لأنّها مخصّصة لرؤوساء المؤذِّنين . .
وتعلّق بمنصّات المنارتين الأخيرتين مصابيح نفطية في الأعياد
والمناسبات ، مثل مناسبة وصول موكب الحجّ الشامي>51 .
أمّا الأروقة والأعمدة
المحيطة بالصحن المربّع المكشوف في الوسط أيضاً ، فيمضي في وصفها
بإسهاب ، مبدياً عدم إعجابه فيما راح يعدّدها: «ومن بين هذه الأعمدة
التي لا تستحقّ الثناء ، هناك ثلاثة لها شهرة في تاريخ الإسلام ،
ولذلك كُتبت أسماؤها عليها بالدهان ، وتتمتّع خمسة اُخرى بشرف التسميات
المشهورة ، فيسمّى الأوّل «المخلق» لأنّه لطّخ بالخلوق في مناسبة من
المناسبات . . ويقع هذا بالقرب من المحراب النبوي إلى يمين المكان
الذي يصلّي فيه الإمام ، كما يدلّ على البقعة التي كان الرسول
الأعظم(صلى الله عليه وآله) قبل اختراع المنبر يتّكئ فيها على «الاسطوانة
الحنانة» ويلقي خطبة الجمعة ، والعمود الآخر هو ثالث عمود من المنبر
وثالث من الحجرة ، ويسمّى «عمود عائشة» وكذلك «اسطوانة القرعة» لأنّ
الرسول على ما تقول بعض الروايات صرّح قائلاً: إنّ الناس حينما يعرفون قيمة
هذا المكان سوف يستعينون بالقرعة للصلاة فيه ، ويذكر في بعض الكتب باسم
«عمود المهاجرين» ، كما أنّ آخرين يسمّونه «المخلق»
كذلك .
وعلى بُعد عشرين ذراعاً من
عمود عائشة ، وعمودين من الحجرة ، وأربعة أعمدة من المنبر يقع
«عمود التوبة» أو عمود أبي لبابة ، وقد سمّي كذلك على إثر حادثة وقعت
لأبي لبابة أحد الأنصار . . أمّا الأعمدة التي تقلّ في شهرتها فهي
«اسطوانة السرير» التي كان من عادة النبيّ أن يجلس في موقعها للتأمّل فوق
سريره المتواضع المصنوع من جريد النخل . وتشير «اسطوانة علي» إلى المكان
الذي كان الإمام علي يصلّي فيه إلى جنب ابن عمّه النبيّ . وفي موقع
«اسطوانة الوفود» كان النبيّ(صلى الله عليه وآله)يستقبل الوفود والرسل
والمبعوثين من البلاد الاُخرى ، وتدلّ «اسطوانة التهجّد» على المكان
الذي كان النبي يمضي ليله فيه مصلّياً متهجّداً . وأخيراً «مقام
جبرائيل» الذي لم يجد بورتون تفسيراً لاسمه الآخر «مربعة
البعير» .
وتطلّ الأروقة الأربعة في
مسجد المدينة على صحن أوسط مكشوف متوازي الأضلاع في شكله . والشيء
الوحيد الذي يلفت النظر فيه سياج خشبي مربّع الشكل يحيط بتربة حسنة الارواء
تدعى «حديقة سِتّنا فاطمة» ، وتوجد فيها اليوم (أي يوم زيارة بورتون في
1853م) اثنتا عشرة شجرة يهدي خصيان المسجد تمرها إلى السلطان وعظماء
المسلمين . وتوجد بين النخلات بقايا لسدرة قديمة يُباع ثمرها بأسعار
عالية . أمّا البناية الصغيرة التي ذكرها بيركهارت قبل أربعين
سنة ، وقال : إنّها توجد بالقرب من هذا الموقع ، فقد هدّمت
قبل ثلاث أو أربع سنوات ، وكانت تسمّى «قبّة الزيت» أو «قبّة
الشمع»>52 .
وينهي بورتون فصله الطويل
الذي كرّسه لوصف الحرم الشريف (الفصل السادس عشر من الجزء الأوّل) بالتشكيك
في صحّة المكان الذي دُفن فيه النبي الأعظم ، مستنداً إلى أسباب
تافهة . ومن بينها أنّ الشيعة ربما نقلوه إلى مكان آخر ، حينما ظلّ
القبر المقدّس بعهدتهم قروناً عديدة! ومعلوم أنّ الأسباب التي اعتمدها والرأي
الذي رجّحه كلّها لا تستحقّ الرد لتهافتها ، إن لم تكن ذات غرض سيء>53 .