البُعد التربوي والاخلاقي
مناسك
الحج ومراسمه ما هي إلاّ دورة تدريبية تربوية للنفس والروح والبدن على السواء
لصنع انسان الحياة الحرّ في فكره وإرادته وفي حركة الحياة من حوله غير منقاد
لأعداء الله شياطين الانس والجنّ كبيرهم وصغيرهم .
فالافعال العبادية والتروك والالتزامات ، كلّ هذه التعابير الجسدية
والنفسية وسيلة من وسائل انتظام الخُلق وسموه ككيان روحي فكري أخلاقي عبادي
متميز ، ولهذا نجد الامام(رضي الله عنه) اهتم بهذا الجانب; لأنه الوسيلة
الناجعة لارتقاء المسلم الأبعاد الأخرى ، فقد جاء عنه(قدس
سره):
«في المواقيت الإلهية والمقامات المقدسة ، في جوار
بيت الله المليء بالبركات ، راعوا آداب الحضور في الساحة المقدسة للعليّ
العظيم ، وحرّروا قلوبكم أيها الحجاج الأعزاء من جميع الارتباطات
المتعلقة بغير الله . . .» 11 .
وفي محل
آخر بيّن الامام(رضي الله عنه) أنّ الحجاج الحقيقين الواعيين المعتبرين
يرجعون الى أوطانهم حاملين الأخلاق المفروضة عليهم بالحج وكأنها ملكة تأصلت
بروحهم والتصقت بتصرفاتهم ، فيقول(رضي الله عنه):
«وبنبذهم ما يمايزهم من اللون والقومية والأصل ، يعودون
الى أرضهم وبيتهمالأول ، وبمراعاتهم للأخلاق
الاسلامية الكريمة ، وتجنبهم للجدال ومظاهر الزينة ، يجسدون صفاء
الأخوة الاسلامية ومظهر وحدة الأمّة المحمدية» 12 .
ففي الحج يتعود المسلم الإلفة ، والتعارف عن طريق السفر
والاختلاط ، فتنمو لديه الروح الاجتماعية ، وتتهذب ملكاته
الأخلاقية ، عن طريق هذه الممارسة التربوية ، والتفاعل البشري
الرائع ، الذي يشهده في الحج ، بأرقى درجات الالتزام ،
والاستقامة السلوكية ، من خلال المناسك والمراسم الشرعية . وكثير
ما يتغير الانسان الى الأفضل ، فهو يربي ـ أي الحج ـ النفس على السلوك
الصالح ويقضي على النوازع السلبية لدى الانسان المسلم الملتزم الصادق مع الله
ومع نفسه ، فيتعود الحاج على الصبر ، واحتمال المشاق
والصعاب ، اضافة الى تعوده من خلال المعاشرة على حسن الخلق والصدق
واتساع الصدر للمجاملة والنقاش أو المجادلة والحوار مع الحجاج الآخرين ،
ويتعود اللطف ، والتواضع ، واللين ، وحسن المحادثة ،
والتعاطف ، والكرم ، والامتناع عن: الكذب ، والخصومة والغيبة
والنميمة والتكبر ، والعظمة ، والجدال وغيرها حيث قال تعالى:
{فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}13 .
وهذه
النواهي في الحج تساهم في بناء شخصية المسلم ، وتعمل على اعادة
تنظيمها ، وتصحيح مسيرتها في الحياة ، وتسد وجهتها ومسارها الى
الله تعالى . . . وتزرع في النفس مكارم الاخلاق وتقودها الى
استقامة السلوك ، وحسن المعاشرة . . .
فقد قال
الامام الخميني(قدس سره) مخاطباً الحجاج حاثاً على مكارم الاخلاق:
«أخرجوا من قلوبكم غير حب الله ونوّروها بأنوار التجليات
الالهية ، حتى تكون الأعمال والمناسك في سيرها الى الله مليئة بمضمون
الحج الابراهيمي وبعده بالحج المحمدي ، وبمقدار تخفيف الحمل من أفعال
الطبيعة يسلم الجميع من أوزار المنى والمنية ، وبحمل ثقل معرفة الحق
وعشق المحبوب تعودون الى أوطانكم ، وتجلبون للأصدقاء هدايا النعم
الإلهية الأزلية بدل الهدايا المادية الفانية ، وبقبضات مليئة بالقيم
الاسلامية التي بعث لأجلها الأنبياء العظام من ابراهيم خليل الله الى محمد
حبيب الله صلى الله عليهم وآلهم أجمعين . . .» 14 .
وقال في مكارم الأخلاق وتربية
النفس ايضاً:
« . . . تلتحقون بالرفاق عشّاق
الشهادة . هذه القيم والدوافع التي تحرّر الانسان من أسر النفس الأمارة
بالسوء ، وتنجّي من الارتباط بالشرق والغرب ، وتوصل الى شجرة
الزيتون المباركة اللاشرقية واللاغربية» 15 .