خصائص الحرب المعلنة بعد الحادي عشر من سبتمبر
أعلن وزير الخارجية الأميركية كالين پاول مباشرة بعد الهجوم على مركز التجارة
العالمية وبناية البنتاغون: أنّ الولايات المتّحدة الأميركية في حرب ضدّ الإرهاب،
وعندما بيّن پاول مثل ذلك الموضوع ساد الجميع إحساسٌ هو أنّ الحرب ضدّ الإرهاب تشبه
الحروب ضدّ المجرمين ومهرّبي المخدّرات، وفي الواقع كانت تتشكل صورة لتعبئة كلّ
الإمكانات المتاحة للوقوف بوجه حملات خطرة استهدفت المجتمع.
ولكنّ استخدام كلمة «الحرب» ليس فقط أمراً حقوقياً صرفاً، بل له آثار ونتائج
أعمق وأخطر، فإعلان أنّ الدولة في حالة حرب يخلق فوراً الآثار النفسية للحرب، ويطرح
توقّعات ومطالب لاتّخاذ إجراءات عسكرية عاجلة ضدّ عدو معروف، ويرجّح أن يكون دولة
مخاصمة، ومن ثمّ يفضي إلى نتائج استثنائية وخطرة; إذ لا يُنظر إلى استعمال القوّة
على أنّها آخر طريق للحلّ بل الأول، وكلّما أُسرع في استخدامها كان أفضل; ممّا
سيجرّ العالم إلى حرب طاحنة يمكن أن تتأجّج نارها بأقلّ حجّة في دنيا مسلّحة بكلّ
الإمكانات الالكترونية.
والحرب التي أعلنتها أميركا ضدّها تختلف عن جميع الحروب السابقة، فهناك بنحو
رئيسي في تلك الحروب أهمية عظيمة لمعرفة العدو وتعريفه على أنّه كذلك، وتقييم
خصائصه وقوّته وقدراته من أجل تدوين استراتيجية الحرب، وعادة ما تكون الحروب
العالمية بين الدول ويُشخّص العدوّ وحلفاؤه، ولكن لهذه الحرب الجديدة ـ بصفتها
حرباً ضدّ الإرهاب ـ ظاهرة جديدة أيضاً، حيث لم يُعرّف فيها الإرهاب ولا
الإرهابيوّن.
ووسّع جورج بوش دائرة وامتداد هذه الخصومة بنحو يسهّل إدخال أيّ دولة أو مجموعة
أفراد في سلك العدو الذي يمكن أن يكون في قالب دول أو تجمّعات اجتماعية أو آحاد
أفراد المجتمع، ولا توجد علامات فارقة للتمييزبين العدو والصديق، واستناداً إلى ذلك
يجب على أميركا أن تسيء الظنّ بأيّ شخص وفي أيّ مكان; لأنّه ليس للإرهاب حدّ معيّن;
ولهذا السبب أوجدت أميركا لمواطنيها أعقد أوضاع السيطرة والتفتيش، وكلّ من لا يرضى
بالنظام الرسمي لأميركا يعتبر إرهابياً بالقوّة.
ملاحظة أُخرى بشأن الموضوع لها أهمية بالغة هي: نوع الأسلحة المستفادة في هذه
الحرب، ففي حين أنّ أميركا مجهّزة بأحدث وأعقد الأسلحة العسكرية المتطوّرة لمقابلة
الأسلحة العظيمة المشابهة لماصمّمته
وصنعته روسيا الاتحادية، فهم كإرهابيين نراهم قد واجهوا هذا النظام بأبسط
الامكانات وأكثرها تأثيراً في الوقت نفسه، وهم قادرون على إنزال ضربات مرعبة
بالنظام الأمني للعدوّ بقبولهم لخطر الموت حتى لأنفسهم.
إنّ تنفيذ حملات شبيهة بما حدث في الحادي عشر من سبتمبر يمكن أن يعطّل نظام
محطّات توليد الكهرباء ولا سيما مع وجود الشبكات المرتبطة ببعضها في بلد كأميركا،
أو الهجوم على محطة ذرّية يمكن أن يخلّف فاجعة أسوأ بكثير من كارثة تشرنوبيل بنحو
لا يمكن مقارنته معها.
ونظراً إلى أنّ أميركا تبحث عن عدوّها من بين المسلمين واختارت العالم الإسلامي
خصماً لها، فدراسة قوّة الطرفين وتقويمها بالأُسلوب السابق لا تعدّ أمراً عملياً;
لأنّ نسبة المقاتلات والغوّاصات والأُسطول البحري للقوّات البرية والجوية لطرفي
الحرب غير قابلة للمقارنة، كما يجب القيام بمقارنة غير متوازنة في براعة قدرات كلّ
طرف و دراستها و تقويمها.
أجرى پات بيوكاتن ـ الذي كان مستشاراً لرؤساء جمهورية أميركا أعواماً عديدة ـ
مثل تلك المقارنة وقوّم الموقف في قوله: إذا تصوّرنا بجدّية نشوب حرب حضارية بين
حضارة الغرب بقيادة أميركا وحضارة الإسلام فسيكون الخاسر فيها هو أميركا.
ويقول أيضاً: صحيح أنّ لأميركا قوّة وثروة، ولكنّهما لا يكفيان لهزيمة الإسلام،
ولا يمنعان من تفكّك أميركا كما لم يمنعا من تفكّك روسيا الاتحادية، ولم يمنعا من
هزيمة الامبراطورية الرومانية والإيرانية في مواجهتهما الأُولى للمسلمين; لأنّ
للمسلمين عاملي قوّة لا يقبلان الهزيمة، هما:
الأول: إيمان وعقيدة استمرّت 1400 عام، وهم مستعدّون بسهولة للتضحية بأرواحهم
في سبيلها. وإذا استطاع الغرب أن يهزم الفاشيّة والماركسيّة وسيطرة الطبقة العسكرية
في اليابان فهو لا يستطيع أن يهزم الإسلام; لأن الإسلام لا يُقهر.
الثاني: النفوس، ففي الوقت الذي يزداد نفوس المسلمين بنحو انفجاري يوماً بعد
يوم، يتناقص سكّان أُوروبا وأميركا ويتّجهون إلى الانقراض. وفي حين أنّ الغرب يقيم
الدنيا ويعقدها من أجل تعرّض حياة أحدهم إلى الخطر، لا يرى العالم الإسلامي الموت
نهاية للحياة ويفتح ذراعيه مستقبلا له وللشهادة; ولذلك لا تتمكّن أيّة قوّة من
مواجهتهم.
وكذلك إذا استمرّت أميركا بالسياسة التي اتّخذتها فستضطرّ إلى أن تهمل كلّ
الموازين والقوانين المصادق عليها في النظام الدولي، وأن تضعها تحت قدميها.وقد غضّت
البصر عملياً عن كثير من عهودها ومواثيقها حتى الآن، وهي في طريقها إلى الانزواء عن
أغلب المنظّمات العالمية والدولية.
ومن جملة إجراءات أميركا بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001م تعزيز أنظمتها
المخابراتية لتبرير المواجهة مع الإرهاب، ولم تمنح هذه الأجهزة امتيازات كثيرة
لتقويتها وتوسيعها فحسب، بل خصّصتها بقوانين خلاف السنن المتعارفة لتؤدّي أعمالها
ببال فارغ وحرية كبيرة، فمن حقّ هذه الأجهزة ـ في سبيل مواجهة الإرهاب ـ اعتقال أيّ
شخص تشكّ فيه وإلقاؤه في السجن وتعذيبه، والأدهى من ذلك: قتله أو إحالته إلى
المحاكم العسكرية(1).
في الواقع لقد أزاحت أميركا قناع ووجه النظام الديمقراطي عنها منذ الحادي عشر
من سبتمبر 2001م وأقامت نوعاً من الحكم الدكتاتوري لكي لا يسمح أحد لنفسه بالاعتراض
على إجراءات الدولة التعسّفية، ومن ثمّ الوقوف بوجهها.
إنّ تكرار المشاهد المرعبة لانهيار العمارات، وسقوط الأشخاص من الطوابق العليا
للأبنية بنحو تقشعرّ له الأبدان، وإبادة آلاف البشر في جبل من الدخان والنار إلى
جانب الوجوه التي يعصرها الألم لأقارب وأعزّاء ضحايا الكارثة، وتضحية رجال الإطفاء
وآلاف المتطوّعين المجهولي الاسم والعنوان لإسعاف الجرحى ونجاة المدفونين تحت
الأنقاض العظيمة، هذا من جانب، وعرض التلفزيون المتتابع لصور المتّهمين بارتكاب هذه
الجريمة من جانب آخر، مع التعليقات المسمومة لأُولئك الذين وجدوا للتوّ فرصة تفريغ
أحقادهم الدفينة، إن كلّ ذلك أثار موجة كراهية ضد المسلمين و ضد كلّ من يشابههم
بمعالمهم أو بأزيائهم. وممّا ساعد بنحو قاطع على إيجاد هذا الجوّ المسموم هو أُولى
التصريحات والخطابات للمسؤولين الرئيسيين في الدولة ومنهم جورج بوش.
والنتيجة: بدأت في الأيام الأُولى بعد وقوع الحادثة سلسلة هجمات على متاجر
العرب وعلى المسلمين والهنود والباكستانيين وخاصّة السيخ لأنّ أزياءهم وطريقة لفّ
عمائمهم شبيهة بزي أُسامة بن لادن، وقُتل بالرصاص ثلاثة أشخاص في الأقل إثر اشتعال
الحقد الجماهيري، وتعرّضت المساجد وعدّة محلاّت للعمل إلى هجوم وانتهاك، وطغا جوّ
من الخوف والرعب على التجمّعات السكنية للمسلمين والعرب في مختلف المدن الاميركية،
ولم يتجرّأ على مغادرة المنازل النساء بحجابهن الإسلامي والرجال بزيّهم العربي
والسيخ، وسُجلت في الأسابيع الأُولى وفق آخر إحصائية زهاء 700 حالة اعتداء واستخدام
للعنف ضدّ المسلمين والعرب والمنتسبين إلى بلدان الشرق الأوسط وآسيا الجنوبية.
وتسعى أميركا باستثمار الفرصة، واغتنام هذه الكارثة على أنّها حرب ضدّ أميركا
لا جريمة ضدّ الشعب الأميركي، وبحجّة مكافحة الإرهاب، تسعى وراء الأهداف المزدوجة
الآتية:
1 ـ على الصعيد الداخلي: تحاول أميركا التعتيم على الخلافات العميقة التي
تتصاعد حدّتها في المجال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي بإشاعة الخوف والرعب من
عدوّ أجنبي، وإثارة الإحساس بالخطر واحتمال توجيه ضربة إلى الناس، وبالتظاهر بأنّ
أميركا هي منقذ ومجير وقائد كلّ الناس بغضّ النظر عن طبقاتهم وألوانهم وأديانهم
وقومياتهم.
وتحاول أن تدعو الشعب إلى نبذ الخلافات الطفيفة مثل: البطالة وعدم التأمين على
الأعمال وقلّة الأُجور ومخصّصات الأغلبية الساحقة للشعب، هذا من جانب، وتركّز
الثروات ورؤوس الأموال الأُسطورية وتكديسها في حيازة طبقة صغيرة من جانب آخر،
والإبادة التدريجية للبيئة، والظلم العنصري للملوّنين واتّساع الفقر بينهم، وغيرها،
وفي المقابل تحويل اهتمامهم إلى مسائل أساسية كأمن البلاد والدفاع عن الجنس
الأميركي والحضارة الغربية في مواجهة الأجانب، أو على حدّ تعبير جورج بوش الابن:
الوحوش الذين لا يطيقون رؤية تطوّر أميركا وحرّيتها وديمقراطيتها وهم عازمون ـ
انطلاقاً من عقدهم وحسدهم ـ على سلب الحرية والعيش الرغيد من هذا البلد(1).
جورج بوش الذي لم يكن يتجرّأ على أن تطأ قدماه مدينة نيويورك حتى بداية سبتمبر
2001م، وقف على أنقاض جنوب منهتن بعد تلك الحادثة بصفته بطلا لسكّان هذه المدينة،
وصفّق له العمال والمتطوّعون لإسعاف المتضررين، ولوّحوا له بأعلامهم.