وهكذا كان شديد النكير على تلك البوادر المضلّلة ، وحارب بدعة تقليد غير أهل البيت عليهم السلام من المذاهب المنسوبة إلى البعداء عن ينابيعه نسبيّاً وحتّى سببيّاً ، أولئك الذين روَجت الحكومات والدول الظالمة فقههم ، لأنهم كانوا مسالمين لهم ، ومنضوين تحت ضلالهم ، من المتّكئين على آرائك الخلافة المزعومة .وهذا الذي حذّر الرسول الأكرم منه في أحاديث مستفيضة ، أوردنا نصوصها في كتاب - تدوين السنة الشريفة - وتحدّثنا عن دلالتها (82) .وقد تمكَن الإمام زين العابدين عليه السلام من توضيح معالم فقه أهل البيت عليهم السلام وإرساء قواعده ، وإغناء معارفه ، وتزويد طلاّبه وتربيتهم ، حتّى أقرّ كبارُ العلماء بأنّه - الأفقه - من الجميع ، وفيهم عدّة من فقهاء البلاط ووعّاظ السلاطين :قال أبو حازم :ما رأيت هاشميّاً أفضل من علي بن الحسين ، وما رأيتُ أحداً كان أفقهَ منه (83) .
(80) بصائر الدرجات ، للصفار ( ص 32 ) .(81) إكمال الدين ( ص 324 ب 31 ح 9 ) .(82) لاحظ الصفحات ( 352 359 ) و ( 425 ) من :تدوين السنة الشريفة .(83) تاريخ دمشق الحديث ( 45 ) مختصر تاريخ دمشق ( 17 :240 ) وسير أعلام النبلاء ( 4 :394 ) وكشف الغمة ( 2 :80 ) .
ص114
ومثله قال الزهري محمد بن مسلم بن شهاب (84) .وقال الشافعي إمام المذهب :إن علي بن الحسين أفقه أهل البيت (85) .وإذا لم يكن للحكّام المسيطرين ، باسم الخلافة الإسلامية ، نصيب من علم الشريعة وفقه الدين ، بل كانت أعمالهم مخالفة لأحكام الله وسنّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
وإذا كان فقهاء البلاط ، وأصحاب المذاهب ، يفخرون بالتلمذ عند علماء أهل البيت عليهم السلام (86) .فإن إعلان الإمام السجاد عليه السلام عن حقيقة مذهب أهل البيت الفقهي وتبيين موقعيَته المتقدّمة على جميع المذاهب الفقهيّة ، والدعوة إلى الالتزام به ، هو نسف عملي لقواعد الخلافة المزعومة التي كان المتّكىء على أريكتها من أجهل الناس بالفقه ، وكل الناس أفقه منه حتّى المخدّرات في الحجال
وكذلك هو تقويض لأعمدة التزوير التي رفعت فساطيط المذاهب الرسميّة المدعومة من قبل دار الخلافة ، و التي تبعها الهمج الرعاع من العوام أتباع كلّ ناعق .
(84) تاريخ دمشق ( الحديث 37 ) وسير أعلام النبلاء ( 4 :389 ) وصفوة الصفوة ( 2 :99 ) .(85) رسائل الجاحظ ( ص 106 ) وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ( 15 :274 ) عن الرسالة للشافعي في خبر الواحد .(86) كان أبو حنيفة إمام المذهب يقول :- لولا العامان لهلك النعمان - يشير إلى العامين اللذين حضر فيهما عند الإمام الصادق عليه السلام ، وكان قبل ذلك قد أخذ من الإمام الباقر عليه السلام وأخيه زيد الشهيد .انظر الإمام جعفر الصادق ، للجندي ( ص 162 ) والنظم الإسلامية ، لصبحي الصالح ( ص 209 ) وموقف الخلفاء العباسيين لعبد الحسين علي أحمد ( ص 37 ) ولاحظ شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ( 15 :274 ) وموقف الخلفاء ( ص 31 ) عن الشكعة في الأئمة الأربعة ( ص 52 ) وعن أبي زهرة في :أبو حنيفة ( 72 ) .
ص115
وأخيراً :في إعمار الكعبة المعظّمة .وللإمام موقف عظيم يدلّ على المراقبة التامّة لما يجري ، مع التصدّي لاعتداءات الحكَام الظلمة على الرموز الأساسية للدين ، وهو :موقفه من إعادة تعمير الكعبة ، في ما رواه الكليني و الصدوق ، بسندهما عن أبان بن تغلب ، قال :لما هَدم الحجّاج الكعبة ، فرّق الناسُ ترابها ، فلمّا جاءوا إلى بنائها وأرادوا أن يبنوها ، خرجتْ عليهم حيّة ، فمنعتْ الناسَ البناء حتّى انهزموا .فأتوا الحجّاج ، فأخبروه ، فخاف أن يكون قد مُنع بناءَها ، فصعد المنبر ، وقال :اُنشد الله عَبْداً عنده خبرُ ما ابتُلينا به ، لما أخبرنا به .قال :فقام شيخ فقال :إن يكن عندَ أحَدٍ علم ، فعند رجُلٍ رأيته جاء إلى الكعبة ، وأخذ مقدارها ، ثم مضى .فقال الحجّاج :مَنْ هو ? .قال :عليّ بن الحسين ..قال :مَعْدِنُ ذلك ، فبعثَ إلى علي بن الحسين ، فأخبره بما كان من منع الله إيّاه البناء .فقال له علي بن الحسين :يا حجّاج عمدتَ إلى بناء إبراهيم ، وإسماعيل 8 وألْقيتَه في الطريق و انتهبه الناسُ ، كأنك ترى أنه تُراث لك .إصعد المنبر ، فأنشد الناسَ أنْ لا يبقى أحد منهم أخذ منه شيئاً إلاّ ردّه .قال :ففعل ، فردّوه ، فلمّا رأى جميع التراب ، أتى علي بن الحسين فوضع الأساس ، وأمرهم أن يحفروا .قال :فتغيّبت عنهم الحيّة ، وحفروا حتّى انتهى إلى موضع القواعد .فقال لهم علي بن الحسين :تنحوْا ، فتنَحَوْا ، فدنا منها فغطّاها بثوبه ، ثم بكى ، ثم غطّاها بالتراب ، ثم دعا الفعلة ، فقال :ضَعُوا بناءكم .فوضعوا البناء ، فلمّا ارتفعت حيطانه ، أمر بالتراب فاُلقي في جوفه .
ص116
فلذلك صار البيت مرتفعاً يُصْعَدُ إليه بالدرج (87) .فالمراقبة واضحة في أخذ الإمام - مقادير الكعبة - لئلاّ تضيع المعالم الأثريّة لأكبر محورٍ لرحى الدين ، وهي الكعبة الشريفة .وإذا كانت تلك المراقبة تتمّ في ظرف ولاية مثل الحجّاج الملحد السفّاح الناصب لاَل محمد العداء المعْلَن ، فلن تخفى أهميّتها ، ودلالتها القاطعة على التحدّي .ومواجهة الحجّاج بمثل ذلك الكلام - كأنّك ترى أنه تراث لك - تصّدٍ لانتهاكه لحرمة الكَعْبة المعظّمة ، والتلاعب بها حسب رغباته الخاصة .وأهم ما في الأمر جرّ الحجّاج إلى التصريح بأن الإمام - هوَ مَعْدِن ذلك - وهي شهادة لها وقعها في الإلزام و الإبكات للخصم اللدود .وأخيراً :نزول الإمام عليه السلام إلى القواعد وَحْدَه وربطه لنفسه بها بذلك الشكل أمام أعين الناظرين ، إثبات لحقّه في إقامتها دون غيره .وهل كلّ ذلك يتهيّأ إلاّ من التدبير العميق ، والتخطيط الدقيق ، ممّن يحمل هدفاً سامياً في قلب شُجاع ، لا يملكه في تلك الظروف الحرجة ، شخص غير الإمام السجّاد زين العابدين عليه السلام .
(87) نقله ابن شهر آشوب في المناقب ( 4 :152 ) ، عن الكافي وعلل الشرائع للصدوق .
ص117
الفَصْلُ الثالِث النِضَالُ الاجتماعيّ والعَمَلِيّ
أولاً :في مجال الأخلاق والتربية .ثانياً :في مجال الإصلاح وشؤون الدولة .ثالثاً :في مجال مقاومة الفساد .وأخيراً :مع كتاب - رسالة الحقوق - .
ص119
إنّ من أهمّ أهداف الرجال الإلهيين إصلاح المجتمع البشريّ ، بتربيته على التعاليم الإلهية ، ولابدّ للمصلح أن يمرّ بمراحل من العمل الجادّ والمضني في هذا الطريق الشائك :1- أنْ يربّي جيلا من المؤمنين على التعاليم الحقّة التي جاء بها ، والأخلاق القيّمة التي تخلّق بها ، لكي يكونوا له أعواناً على الخير .2- أن يدخل المجتمع بكلّ ثقله ، ويحضر بين الناس ، ويواجه الظالمين والطغاة بتعاليمه ، ويبلّغهم رسالات الله .3- أن يقاوم الفساد ، الذي يبثّه الظالمون في المجتمع ، بهدف تفكيكه وشلّ قواه ، وتفريغه من المعنويات ، وإبعاده عن فطرته السليمة المعتمدة على الحقّ والخير والجمال ، لئلاّ يصنعوا منه آلةً طيّعةً تُستخدم حسب رغباتهم وطوع إرادتهم .وقد كان للإمام زين العابدين نشاط واسع في كلّ هذه المجالات ، حتّى عُدَ بحقّ وجدارة في صدر المصلحين الإلهيين ، بالرغم من تميّز عصره بتحكّم طغاة بني أمية على الأمّة ، وعلى مقدّراتها وباسم الخلافة الإسلامية ، التي تقتل مَنْ يعارضها وتهدر دمه بعنوان الخروج على الإسلام .إنّ مقاومة الإمام زين العابدين عليه السلام في مثل هذا الظرف ، بل وتمرير خططه ، وإنجاح مهمّاته وأهدافه ، مع قلّة الأعوان والأنصار ، يعد معجزةً سياسية تحقّقت على يد هذا الإمام العظيم ، الذي سار على خطى جدّه الرسول الأعظم ، في خلقه العظيم .وقد عقدنا هذا الفصل الثالث للوقوف على أوجه نشاطه العملي في تلك المجالات الاجتماعية :
ص120
أوّلاً :في مجال الأخلاق والتربية .ضرب الإمام زين العابدين أروع الأمثلة في تجسيد الخلق المحمّدي العظيم في التزاماته الخاصة ، وفي سيرته مع الناس ، بل مع كلّ ما حوله من الموجودات .فكانت تتبلور فيه شخصيّة القائد الإسلامي المحنّك الذي جمع بين القابليّة العلميّة الراقية ، والفضل والشرف السامق ، والقدرة على جذب القلوب وامتلاكها ، ومواجهة المشاكل والوقوف لصدّها بكلّ صبر وتودّةٍ وهدوء
فالصبر الذي تحلّى به ، بتحمّله ما جرى عليه في كربلاء ، وفي الأسر ، ممّا لا يحتاج إلى برهان وذكر .ومثابرته ومداومته على العمل الإسلامي ، بارزة للعيان ، وهذا الفصل يُمَثل جزءاً من نشاطه السياسيّ والاجتماعيّ الجادّ .وحديث مواساته للإخوان ، والفقراء والمساكين والأرامل والأيتام ، بالبذل
والعطاء والإنفاق ، مما اشتهر عند الخاص والعام ، وسيأتي الكلام حول ذلك كله .وحُنُوّه وحنانه على الرقيق ، وعلى الأقارب والأباعد ، بل على أعدائه وخصومه ، مما سارت به الركبان .وأخبار عبادته وخوفه من الله وإعلانه ذلك في كلّ مناسبة ، ملأت الصحف ، حتّى خصّ بلقب - زين العابدين ، وسيّد الساجدين - .ومن أمثلة خلقه الرائع :العفو :.وقد تناقل المؤلّفون حديث هشام بن إسماعيل الذي كان أميراً على مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، للامويّين ، فعزلوه ، وقد كان منه أو بعض أهله شي يُكره ، تجاه الإمام زين العابدين عليه السلام ، أيام كان أميراً ، فلمّا عُزل اُوقف للناس ، فكان لا يخاف إلاّ من الإمام أن يؤاخذه على ما كان منه .فمرّ به الإمام ، وأرسل إليه :- استعن بنا على ما شئتَ - .
ص121
فقال هشام :( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) سورة الأنعام ( 6 )].[ الاَية ( 124 ) (88) .وبهذا ، تمكَن الإمام من جذب قلوب الناس ، حتّى ألدّ الأعداء ، فكان سبباً لانفتاح الجميع على أهل البيت عليهم السلام ومذهبهم ، بعد أنْ انغلقوا عنهم ، واعتزلوهم بعد وقعة كربلاء .ولقد ظهرت ثمرة تلك الأخلاق والجهود ، في يوم وفاة الإمام عليه السلام ، فقد خرج الناس كلّهم ، فلم يبق رجل ولا امرأة إلاّ خرج لجنازته بالبكاء والعويل ، وكان كيوم مات فيه رسول الله (89) .وكان من أطيب ثمرات هذه الجهود أن مهّدت الأرضيّة للإمام محمد بن علي ، الباقر عليه السلام كي يتسنّم مقام الإمامة بعد أبيه زين العابدين ، ويقوم بتعليم الناس معالم دينهم ، وتتكوّن المدرسة الفقهيّة الشيعيّة على أوسع مدى وأكمل شكل وأتقنه .ومن أبرز الجهود التي بذلها الإمام زين العابدين عليه السلام في تحرّكه القياديّ هو ما قام به من جمع صفوف المؤمنين ، والتركيز على تربيتهم روحيّاً ، وتعليمهم الإسلام ، وإطْلاعهم على أنقى المصادر الموثوقة للفكر الإسلامي ، ومن خلال روافده الثرّة الغنيّة ، بهدف وصل الحلقات ، كي لا تنقطع سلسلة عقد الإيمان ، ولا تنفرط اُسس العقيدة .وبهدف تحصين العقول والنفوس من الانحرافات التي يثيرها علماء السوء الذين كانوا يبعدون الناس عن الإسلام الحقّ ، ويكدّرون ينابيعه وروافده بالشبه والأباطيل .وتعدّ هذه البادرة من أهم معالم الحركة عند الإمام زين العابدين ، وأعمقها أثراً وخلوداً في مقاومة الدولة الحاكمة ، التي استهدفت كل معالم الإسلام ، بغرض القضاء عليه ، وإبادته ، والعودة بالأمة الى الجاهلية الأولى بوثنيّتها ، وفسادها ، وجهلها .
(88) تاريخ دمشق .الحديث ( 111 ) ومختصره لابن منظور ( 17 :243 ) وانظر صوراً أخرى للقصة في بحار الأنوار ( 46 :94 و 167 ) وشرح الأخبار ، للقاضي ( 3 :260 ) وكشف الغمة ( 2 :100 ) وتاريخ الطبري ( 5 :216 ) وتاريخ اليعقوبي ( 2 :280 و 283 ) .(89) الإمام زين العابدين ، للمقرم ( ص 412 ) .
ص122
فراح الإمام يدعو الأمة الى التفكير والتدّبر :فمن أقواله عليه السلام :الفكرة مرآة تري المؤمن حسناته وسيئاته (90) .ويدعو الى العلم والفضل والحكمة :فقال عليه السلام :سادة الناس في الدنيا :الأسخياء ، وفي الاَخرة :أهل الدين ، وأهل الفضل والعلم ، لأنّ العلماء ورثة الأنبياء (91) .وقال عليه السلام :لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المُهَج وخوض اللُجَج .إن الله أوحى إلى دانيال :إنّ أمقت عبيدي إليّ الجاهل ، المستخفّ بحقّ أهل العلم ، التارك للاقتداء بهم ، وإنّ أحبَ عبيدي إليّ التقي ، الطالب للثواب الجزيل ، الملازم للعلماء ، التابع للحكماء (92) .وكان عليه السلام يحثّ الأمة والشباب منهم خاصة على طلب العلم ، فكان إذا نظر إلى الشباب الذين يطلبون العلم أدناهم إليه ، فقال :مرحباً بكم ، أنتم ودائع العلم ، أنتم صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار آخرين (93) .وكان إذا جاءه طالب علم قال :مرحباً بوصيّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (94) .ويدعو الأمة إلى المراقبة الذاتيّة لنفسها ، لتتحصّن من اجتياح وسائل التزوير والخداع ، ونفوذ نفثات الشياطين .فيقول عليه السلام :ليس لك أن تقعد مع مَنْ شئت ، لأنّ الله تعالى يقول في الأنعام (الآية68) :( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتّى يخوضوا في حديثٍ غيره ، وإمّا يُنْسِيَنّكَ الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين).وليس لك أن تتكلّم بما شئت ، لأنَ الله يقول في الإسراء (الآية36 ):ولا تقف ما
(90) تاريخ دمشق ( الحديث 138 ) ومختصره لابن منظور ( 17 :254 ) .(91) تاريخ دمشق ( الحديث 85 ) ومختصره لابن منظور ( 17 :239 ) .(92) الوافي ، للفيض الكاشاني ( 1 :42 ) .(93) بلاغة علي بن الحسين 7 ( ص 171 ) .عن الأنوار البهية ، للقمي .(94) الخصال ، للصدوق ( ص 517 ) .
ص123
ليس لك به علم ) وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :