..(10) .وكان منشأ اليأس والردّة :أنهم وجدوا الاَمال قد تبدّدت بقتل القائد ، وسبي أهله ، وظهور ضعف الحقّ وقلة أنصاره ، هذا من جهة .
(9) نقله الثعالبي في آخر كتاب ( ثمار القلوب ) بواسطة :علي جلال في ( الحسين ) ( 2 :195 ) .(10) اختيار معرفة الرجال ( رجال الكشي ) ( ص 123 ) رقم ( 194 ) .
73
ومن جهة أخرى ملأ الرعب قلوبهم لمّا وجدوا الدولة على هذه القوّة والجرأة والقسوة ، فكيف يمكن التصدي لها ، والإمام في مثل هذا الموقع من الضعف ، فليس التقرّب منه إلاّ مؤدّياً إلى الاتهام والمحاسبة ، فلذلك ابتعد الناس عن الإمام عليه السلام .لكن الإمام زين العابدين عليه السلام بخطته الحكيمة استفاد من هذا الابتعاد ، وقلبه إلى عنصر مطلوب ، ومفيد لنفسه ، وللجماعة الباقية من حوله على ولائه .حتّى أصبح ، بما ذكرنا من التصرفات ، في نظر رجال الحكم - خيراً لا شرّ فيه - .وبذلك التخطيط الموفّق حافظ الإمام عليه السلام ، لا على نفسه وأهل بيته من الإبادة الشاملة ، فقط ، بل تمكّن من استعادة قواه ، واسترجاع موقعه الاجتماعي بين الناس ، لكونه مواطناً صالحاً لا يُخاف من الاتصال به والارتباط به .لانه أصبح - عليّ الخير -(11) .وطبيعي أن يعود الناس ، وتعتدل سيرتهم مع الإمام حينئذ ، ولذلك قال الإمام الصادق عليه السلام في ذيل كلامه السابق :- ...ثم إن الناس لحقوا وكثروا -(12) .إن انفراط أمر الشيعة بعد مقتل الحسين عليه السلام وتشتت قواهم ، كان من أعظم الأخطار التي واجهها الإمام السجاد عليه السلام بعد رجوعه الى المدينة ، وكان عليه لأنه الإمام ، وقائد المسيرة أن يخطط لاستجماع القوى ، وتكميل الإعداد من جديد ، وهذا كان بحاجة إلى إعداد نفسي وعقيدي وإحيأ الأمل في القلوب ، وبثّ العزم في النفوس .وقد تمكّن الإمام السجاد عليه السلام بعمله الهادى الوادع من الإشراف على تكميل هذه الاستعادة ، وعلى هذا الإعداد ، والتمهيد ، بكل قوة ، وبحكمة وبسلامة وجدّ .وكما قد يكون تأسيس بنأ جديد ، أسهل وأمتن من ترميم بنأ متهرّى ، فكذلك ، إن بنأ فكرة في الأذهان الخالية من الشبهات ، والمليئة بالأمل بهذه الفكرة ، والجادّة في الالتفاف حولها ، والعزم على إحيائها ، هو أسهل ، وأوفر جهداً من محاولة ترميم فكرة أصاب الناس يأس منها ، وتصوّروا إخفاق تجربتها ، وهم يُشاهدون إبادة
(11) شرح نهج البلاغة ، لابن ابيالحديد ( 15 :273 ) .(12) اختيار معرفة الرجال ( الكشي ) ( ص 123 ) رقم ( 194 ) .
74
كبار حامليها ، وضعف أنصارها ، واستيلا المعارضين عليها ، فحرّفوا معالمها ، وشوّهوا سمعتها ، وزيّفوا أهدافها .فإن عامة الناس يقفون موضع الحيرة والشكّ من كل ما قيل وطرح وعرض ، ويحاولون الانسحاب والارتداد ، والوقوف على الحواشي ، ليروا ما يؤول إليه أمر القيادات المتنازعة.فقد مُنِيَ المسلمون بإخفاق ويأس ممّا في الإسلام من خطط تحرّرية ، ومخلّصة من العبودية والفساد ، وذلك لمّا رأوا الأمويين أعدأ هذا الدين قديماً ، ومناوئيه حديثاً قد استولوا على الخلافة ، وبدأوا يقتلون أصحاب هذا الدين من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والأنصار القدمأ له ، ويعيثون فساداً في أرض الإسلام بالقتل والفجور ، وكل منكر ، حرّمه الإسلام .وإذا كان صاحب الحقّ ، منحصراً في الإمام علي بن الحسين السجاد عليه السلام ، الذي قام النصّ على إمامته ، وهو وارث العترة ، وزعيم أهل البيت في عصره ، فهو الإمام الحامل لثقل الرسالة على عاتقه ، فلا بدّ أن يدبّر الخطّة الإصلاحية ، ليجمع القوى ، ويلملم الكوادر المتفرّقة ، ويعيد الأمل إلى النفوس اليائسة ، والرجأ إلى العيون الخائبة ، والحياة إلى القلوب الميّتة .إلى جانب مقاومته للأعدأ ، وتفنيد مزاعمهم واتّهاماتهم ، والكشف عن مؤامراتهم ودسائسهم ، وتبديد خططهم وأحابيلهم .إنّ أئمة أهل البيت عليهم السلام مع مالهم من مآثر العلم والمجد والإمامة ، التي أقرّ بها لهم جميع الاُمّة هم يهتمّون بغرز معاني النضال والجهاد في نفوس أبنائهم منذ نعومة أظفارهم ، ليرسَخوا في نفوسهم أمجاد الإسلام .والإمام عليه السلام قد استلهم الإسلام بكلّ ما له من معارف ومآثر علمية وعملية ، فأخذها من مصادرها الأمينة الموثوقة .وهم آباؤه الطاهرون .وكان في طليعة ما أخذ من المعارف هو مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسراياه ، كما في الحديث عن عبدالله بن محمّد بن عليّ ، عن أبيه .قال :سمعتُ عليّ بن الحسين يقول :
ص75
كنّا نُعلَم مغازي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسراياه كما نعلّم السورةَ من القرآن(13) .فتلقّن الإمام السجَاد عليه السلام أمثل صور الجهاد والنضال في سبيل الله ومن أجل الإسلام ، فرسمها في قرارة نفسه منذ الطفولة .وبعد أن رأى باُمّ عينيه في كربلاء بطولات أبيه الإمام الحسين عليه السلام وجهاد أصحابه الأوفيأ ، في سبيل إعلا كلمة الله ، لم يكن ليرفع اليدَ عن محاولة تطبيق تلك الصور الفريدة ، والتخطيط للوصول إلى نتائجها الغالية .ولقد بدأ الإمامُ السجّاد عليه السلام في الفصول التالية ، من جهاده وجهوده ، لتحقيق هذه الأهداف السامية .وحاولنا نحن بقدر وسعنا ، لجمع ما انتشر من أنبأ ذلك الجهاد ، وتلك الجهود ،
في المجالات العملية والعلمية ، بعون الله وتوفيقه .
(13) الجامع لأخلاق الراوي والسامع للخطيب البغدادي ( 2 288 ) رقم ( 1649 ) .
77
الفصل الثاني النضال الفكري والعلمي
أوّلاً :في مجال القرآن والحديث
ثانياً :في مجال الفكر والعقيدة
ثالثاً :في مجال الشريعة والأحكام
وأخيراً :في إعمار الكعبة المعظّمة
79
يكاد المؤرّخون لحياة الإمام السجاد عليه السلام ، لاسيما الدارسون الاجتماعيّون ، الذين يريدون إبعاد الإمام عن الحياة السياسية ، يتّفقون على أن الإمام عليه السلام :- انكبّ على الشؤون الدينية ، ورواية الحديث ، والتعليم -(14) وأنّ مهمّته كانت :- الانصراف إلى بثّ العلوم ، وتعليم الناس ، وتربية المخلصين ، وتخريج العلمأ والفقهأ ، والإشراف على بنأ الكتلة الشيعية -(15) .ولا ريب في أن الإمام السجاد عليه السلام قام بدور بليغ في هذه المجالات كلّها ، ولكن لم تكن قطّ هذه الأمور خارجة عن العمل السياسي ، أو بديلا عن العمل السياسي بل ، إن هذه الواجبات هي من أهم وظائف الأنبيأ والأئمة بل المصلحين السياسيين من البشر ،بأن يقوموا بها ، ويبلُغوا بالامم والشعوب إلى مستويات راقية فيها ، خاصة التعاليم الإلهية التي من أجلها بُعثوا ، ولها عُيّنوا ، وبتبليغها وبثّها كلّفوا ، وهم طريق معرفة الناس بها ، والأمنأ الوحيدون عليها .والتعليم الصحيح هو واحد من طرق النضال ، فكل مناضل يعلم بوضوح أن من
مقوّمات كل حركة سياسية ، هو تثقيف الجماهير ، وتوعيتها ، بالتعليم والتلقين ،
لتكون على علم بما يجري حولها وما يجب لها من حقوق وما عليها من واجبات .وقد سعى الحكّام الفاسدون على طول التاريخ إلى إبعاد الناس عن الحقّ ،
والتعاليم الأصيلة ، بطرق شتى :.
(14) معتزلة اليمن ( ص 17 18 ) .(15) الإمام السجاد عليه السلام لحسين باقر ( ص 13 -14 ) .
ص80
منها :التصدّي للذين يبلّغون رسالات الله ، بالضغط ، والأسر ، والتشريد ،
والحبس ، وحتّى القتل .ومنها :تزييف الأديان وتحريفها بالبدع والخرافات ، وبثّ التعاليم الباطلة ،
والعمل من أجل ترويجها .ومنها :منع تثقيف الناس ، حذراً من تنبّههم إلى ما هم عليه من خلل ونقص في
الحياة المادّية ، وما هم فيه من ذلّ ومهانة في الحياة المعنوية .ومنها :محاولة استيعاب أجهزة التعليم ، بوضع المناهج التعليمية المشبوهة
والمحرّفة .وهكذا تضييع جهود القائمين على التعاليم ، بشرأ الضمائر ، وغسل الأدمغة
والعقول ، وتفريغها من الرؤى الصائبة ، وملئها بالأفكار الفاسدة والمنحرفة .وقد استعمل معاوية هذا الأسلوب بكل جرأة لما استولى على أريكة الخلافة ،
فعمّم كتاباً على أقطار نفوذه ، يأمر فيه الولاة بوضع الأحاديث والروايات
واختلاقها ، وبثّها بين الناس في المدارس والمساجد والكتاتيب والبيوت ، ليربّي جيلا ناشئاً مشبّعاً بتلك التعاليم المزوّرة في صالح الأمويين ، والتي تعارض التعاليم الإسلامية الأصيلة(16) .فوجود المعلّمين المناهضين لتلك الخطط الهدّامة ، وتلك المناهج التعليمية الفاسدة ، يكون صدّاً سياسياً للأنظمة الحاكمة ، ويكون عملهم جهاداً ونضالاً سياسياً ، بلا ريب .وإنّ الحكومات الفاسدة ، من أجل تنفيذ خططها في تحريف الدين وإغوأ الناس وإبعادهم عن العلمأ المصلحين ، اصطنعت من علمأ السو رجالا مقنّعين بالعلم ، ملجمين بلباس الدين ، من العملا بائعي الضمائر ، ليكونوا وسائل لإقناع العامة بما تمليه الدولة عليهم من أحكام باطلة ، وقضايا منافية للحقّ ، وليصحّحوا للدول الظالمة تصرّفاتها الجائرة .
(16) لاحظ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ( 11 :44 -46 ) والاحتجاج للطبرسي ( ص 295 ) .ولاحظ كتابنا - تدوين السنة الشريفة - ( ص 475 ) .
ص81
فكان التصدّي لهؤلاء ، وفضح دسائسهم ، وإبطال استدلالاتهم ، والكشف عن سوء نيّاتهم ، من واجب الأئمة والمصلحين الإلهيين .وقد قام الإمام السجاد عليه السلام في عصره بأداء دور مهمّ في هذا الميدان الشائك بعد أن استلهم العلوم من مصادرها الأمينة الموثوقة وصار الدور إليه في قيادة الأمة ودلالتها إلى الحق والخير .فكان معلّماً للحقّ ، يبثّ الفضيلة ، ويدعو إلى الإسلام المحمّديّ الأصيل ، الذي توارثه عن آبائه ، والموصول بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأوثق السبل ، وأقرب الطرق .وأصبح لكونه حاملاً أميناً للتعاليم الإسلامية الرصينة ، وقائماً مخلصاً بالشؤون الدينية الحقّة سدّاً منيعاً في مواجهة كلّ انحراف وتزوير كان يبديه علمأ السو من وعّاظ السلاطين .ولا ريب في أنّ مواجهة الإمام السجاد عليه السلام للدولة في هذا النضال ، لابدّ أنّ تعدّ في قمّة أعماله السياسية ، ومن أخطر أوجه النضال السياسي في حياته الكريمة .وقد اخترنا مجالات ثلاثة عمل فيها الإمام عليه السلام ، لنقف على أوجه نشاطه فيها ، وهي :
ص82
أوّلاً :مجال القرآن والحديث .عاش الإمام السجاد عليه السلام ، فترة نشاطه إماماً للشيعة ، من سنة ( 61- 95 ) مدّة الثلث الأخير من القرن الأول .والقرن الأول بالذات هو فترة المنع الحكومي من رواية الحديث ونقله وكتابته وتدوينه ، قبل أن يُرفع هذا المنع بقرار من قبل الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز .وكانت عملية منع الحديث تدويناً ورواية بدأت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة ، واستمرّ عليها الحكّام الذين تسنّموا أرائك الخلافة بداً بأبيبكر ، ثم عمر الذي كان أكثر تشديداً ونكيراً على مَنْ كتب شيئاً من الحديث أو نقله ورواه ، بحيث استعمل كل أساليب القمع من أجل الوقوف دون تسرّب شي منه ، فحبس جمعاً من الصحابة من أجل روايتهم الحديث ، وهدّد آخرين بالضرب والنفي ، وأحرق مجموعة من الكتب التي جمعت حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .والتزم الحكّام من بعد عمر ، سنّة عمر وسياسته في منع تدوين الحديث وروايته ، وقد أعلن عثمان ومعاوية عن اتّباعهما لعمر في منع الحديث النبوي - إلاّ حديثاً كان على عهد عمر -(17) .وقد ظلّت سياسة عمر بمنع الحديث سارية المفعول ، حتّى بلغ الأمر إلى أن الحجّاج الثقفي سفّاك العراق قام بالاعتدأ على كبار صحابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فختم على أيديهم وأعناقهم ، حذراً من أن يحدّثوا الناسَ ، أو يسمع الناسُ حديثهم (18) .فلم يكن القيام بأمر رواية الحديث في مثل هذه الفترة بالذات ، وفي مثل هذه الأجواء أمراً سهلا ، ولا هيّناً .ولقد قاوم أئمة أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم هذه السياسة المخرّبة ضدّ أهمّ مصادر الفكر الإسلامي ، فكانوا إلى جانب كتابتهم للحديث ، وإيداعه المؤلّفات يبادرون
(17) لقد تحدثنا عن منع الخلفاء من كتابة الحديث وتدوينه ، ومن نقله وروايته ، بتفصيل في كتابنا ( تدوين السنة الشريفة ) المطبوع في قم سنة 1413 ه .(18) اُسد الغاية ، لابن الأثير ( 2 :472 ) ترجمة سهل الساعدي .
ص83
بحزم إلى رواية الحديث ونشره وبثّه ، على طول تلك الفترة.وقد عرفنا أنّ الإمام السجّاد كما قال ابن سعد :كان - ثقة مأموناً كثير الحديث عالياً رفيعاً ورعاً - (19) وقد أكثر من نقل الحديث وروايته حتّى أفاد علماً جمّاً ، كما قال النَسّابه العمري (20)
ولاريب في أن تصدي الإمام السجاد عليه السلام للوقوف في وجه المنع السلطوي ، وقيامه بأمر رواية الحديث ونقله ، ليس إلاّ تحدياً صارخاً لأوامر الدولة وسياستها !.ثم إنه عليه السلام كان يطبّق السنة ويدعو إلى تطبيقها والعمل بها فقد روي عنه أنه قال :إن أفضل الأعمال ما عمل بالسنّة وإن قلّ(21) .وكان يندّد بمن يستهزي بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويدعو عليه ويقول :ما ندري ، كيف نصنع بالناس ? إن حدّثناهم بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضحكوا ، وإن سكتنا لم يسعنا .ثم ندّد بمن هزأ من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (22) .وقد رُوِيتْ عن الإمام السجَاد عليه السلام مجموعة كبيرة من الأحاديث المسندة المرفوعة ، واُخرى موقوفة على آبائه عليهم السلام .وأمّا ما صدر منه من الحديث الذي يعتبر من عيون الحديث الذي يعتزّ به التراث الشيعي فكثير جداً ، ولذلك عدّ الحافظ الذهبي ، الإمام السجاد عليه السلام من الحفاظ الكبار وترجم له في طبقات الحفّاظ الكبار(23) .ومع كل هذا ، فأين موقع كلمةٍ قالها بعض النواصب أن الإمام عليه السلام كان - قليل الحديث - ? (24)
(19) تهذيب التهذيب ( 7 :305 ) .(20) المجدي في الأنساب ( ص 92 ) وتدوين السنة الشريفة ( ص 149 -152 ) .(21) المحاسن ، للبرقي ( ص 221 ) ح ( 133 ) .(22) الكافي ( 3 :234 ) الحديث 4 ، وبحار الأنوار ( 46 :142 ) وعوالم العلوم ( ص 85 وص 290 ) .(23) تذكرة الحفاظ ( 1 74 -75 ) .(24) قال ذلك الزُهْريّ ، كما في تهذيب التهذيب ( 7 :305 ) وقد كذّبَ الزهريَ قومُه ، كما أنّه متّهم في ما يقوله في أهل البيت ، لما سيأتي من عمالته للاُمويين ، لكنّ أمثال هذا المخذول قد حرموا أنفسهم من الاستمتاع بعلم أهل البيت :حيث تركوهم وصاروا إلى أصحاب الرأي والاجتهاد في مقابل النصّ ، فخسروا خسراناً مبيناً .
ص84
ثم إن محتوى الأحاديث المرويَة عن طريق الإمام السجاد عليه السلام ، وتلك المنقولة عنه تشكّل مجموعة من النصوص الموثوقة ، التي يطمئنّ بها المسلم ، فقد تمّ نقلها من مصدر أمين ، متصل بينابيع الوحي والرسالة ، وفيها ما يسترشد به المسلم ، ويعرف من خلاله مصالحه ، ويحدّد واجباته ، ويدفع عنه اليأس (25)، مثل روايته المرفوعة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :- انتظار الفرج عبادة - (26).فقد يكون الإنسان في مثل تلك الظروف الحرجة المأساوية معرضاً للقنوط ولكن بانتظار الفرج وتوقّع كشف الغمّ ، المستتبع للعمل من أجل ذلك والكون على استعدادٍ له ، والإعداد لحصوله ، هو أفضل وسيلة للنجاة من مأزق الياس ، وموت الخمول .ومع القرآن :.إن القرآن الكريم ، باعتباره الوحي الإلهي المباشر ، والمصدر الأساسي المقدّس بنصّه وفصّه ، والذي اتفقت كلمة المسلمين على حجيته وتعظيمه وتقديسه ، فهو الحجّة عند الجميع ، والفيصل الذي لا يردّ حكمه أحد ممن يلتزم بالإسلام ديناً وبمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّاً .ولذلك كانت دعوة أهل البيت عليهم السلام إلى الالتزام به ، والاسترشاد به وقرأته والحفاظ عليه ، دعوة صريحة مؤكدة .وفي الظروف التي عاشها الإمام زين العابدين عليه السلام ، كان الحكّام بصدد اجتثاث الحقّ من جذوره واُصوله ومنها القرآن ، بقتل أعمدته وحفظته ومفسّريه (27) .
(25) إنّ كتابنا هذا يحتوي على مجموعة كبيرة من الأحاديث التي رُويت عن الإمام السجّاد ,والتي استشهدنا بها ، تجدها مجموعة في فهرس الأحاديث في آخر الكتاب .(26) كشف الغمة ( 2 :101 ) ولاحظ الجامع الصغير ( 1 :108 ) .(27) مثل سعيد بن جبير ، ويحيى بن ام الطويل ، وميثم التمار ، وغيرهم من شهداء الفضيلة ، فلاحظ كتب التاريخ لتلك الفترة .
ص85
فكانت الدعوة إلى القرآن من أوجب الواجبات على الأئمة عليهم السلام مضافاً إلى ما ذكرنا من قدسيّة القرآن عند الجميع ، فلم يتمكّن الحكّام من منع تعظيمه وقرائته والدعوة إليه .فقام الإمام زين العابدين عليه السلام بجهد وافر في هذا المجال :ففي الحديث أنه قال :عليك بالقرآن ، فإن الله خلق الجنة بيده ، لبنة من ذهب ولبنة من فضّة ، وجعل ملاطها المسك ، وترابها الزعفران ، وحصاها اللُؤلؤ ، وجعل درجاتها على قدرآيات القرآن ، فمن قرأ منها قال له :- إقرأ وارق - ومن دخل الجنة لم يكن في الجنة أعلى درجة منه ، ما خلا النبيين والصديقين (28) .واُسْنِدَ عن الزهري قال :سمعت علي بن الحسين عليه السلام يقول :آيات القرآن خزائن العلم ، فكلّما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها(29) .وقال عليه السلام :من ختم القرآن بمكّة لم يمت حتّى يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويرى منزله في الجنة (30) .وكان يعبّر عن كفاية القرآن ، بتعاليمه الروحانية القيّمة ، بكونه مؤنساً للانسان المسلم ، يعني :أنّ الوحشة إنّما هي بالابتعاد عن هذه التعاليم حتّى لو عاش الإنسان بين الناس ، فكان يقول :لو مات مَنْ ما بين المشرق والمغرب ما استوحشتُ بعد أن يكون القرآن معي(31) .وهكذا يجدّ الإمام عليه السلام في تعظيم القرآن ، وتخليده في أعماق نفوس الأمة ، كما يسعى في التمجيد له عملياً وبأشكال من التصرفات :.فممّا يؤثر عنه عليه السلام :أنه كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن ، حتّى :أن السقّائين كانوا يمرّون ببابه ، فيقفون لاستماع صوته ، يقرأ...(32) .