نعم .فعزّوه ، وتعجّبوا من صبره .فقال :إنّا أهل بيت نطيع الله في ما نحب ، ونحمده في ما نكره (31) .ونتمكّن من استخلاص الهدف الأساسي من كلّ هذه الإثارات لقضيّة كربلاء وشهدائها خصوصاً ذكر أبيه الإمام الشهيد عليه السلام من خلال الحديث التالي.:قال عليه السلام لشيعته :عليكم بأداء الأمانة ، فو الذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً ، لو أن قاتل أبي الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام ائتمنني على السيف الذي قتله به ، لأديته إليه (32) .ففي الوقت الذي يُشير فيه إلى مأساة قتل الحسين عليه السلام ، ويذكّر بقتله ، ليُحيي معالمها في الأذهان ، فهو يؤكّد بأغلظ الأيمان على أنّ أمراً - مثل أداء الأمانة - يوجِبُه الإسلام ، هو فوق العواطف والأحاسيس الشخصيّة .وهو يُوحي بأنّ الإمام الحسين عليه السلام إنما قتل من أجل تطبيق كلّ المبادىء التي
(29) قاله مسرف بن عقبة لما استباح المدينة ، انظر في ما مضي من كتابنا هذا ( ص 71 ) .( 30) قاله الزهري لعبد الملك ، انظر ( ص 212 ) في ما يأتي .( 31) تاريخ دمشق ومختصره لابن منظور ( 1 :240 ) .(32 ) أمالي الصدوق ( ص 128 ) المجلس ( 43 ) .
ص187
جاء بها الإسلام ، والتي بعث بها جدّه النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن الإمام زين العابدين يُريد الاستمرار على تلك المبادىء والخطط التي أنار الحسين الشهيد عليه السلام معالمها بوقود من دمه الطاهر .وهو في الوقت ذاته ، يرفع من قيمة البكاء أن يكون من أجل أمور مادّية ولو كانت الدنيا كلها :.ففي الخبر أنّه عليه السلام نظر إلى سائل يبكي !.فقال عليه السلام :لو أنّ الدنيا كانت في كفّ هذا ثمّ سقطت منه ما كان ينبغي له أن يبكي (33) .
(33 ) كشف الغمة ( 2 :106 ) عن كتاب نثر الدرر للاَبي .
ص188
ثالثاً :التزام الدعاء .ومن أبرز المظاهر الفذّة في سيرة الإمام زين العابدين عليه السلام الأدعية المأثورة عنه ، فقد تميّز ما نقل عنه بالكثرة ، والنفس الطويل ، والشهرة التداول ، لما تحتويه من أساليب جذّابة ومستهوية للقلوب ، تتجاوب معها الأرواح والنفوس ، وما تضّمنته من معان راقية تتفاعل مع العقول والأفكار .وقد كان للأدعية التي أصدرها أبعاد فكرية واسعة المدى ، بالنصوص الحاسمة القضايا عقائدية إسلامية ، كانت بحاجة إلى البتّ فيها بنصّ قاطع ، بعد أن عصفت بالعقيدة ، تيّارات الإلحاد ، كالتشبيه والجبر والإرجاء ، وغيرها مما كان الأمويون وراء بعثها وإثارتها وترويجها ، بهدف تحريف مسيرة التوحيد والعدل ، تمهيداً للردّة عن الإسلام ، والرجوع إلى الجاهلية الأولى .وفي حالة القمع والإبادة ، ومطاردة كلّ المناضلين الأحرار ، وتتبع آثارهم وخنق أصواتهم ، كان قرار الإمام زين العابدين عليه السلام باتّباع سياسة الدعاء ، أنجح وسيلة لبثّ الحقائق وتخليدها ، وأمن طريقة ، وأبعدها من إثارة السلطة الغاشمة ، وأقوى أداة اتصال سريّة مكتومة ، هادئة ، موثوقة.كما كانت لنصوص الأدعية أصداء قويّة في ميادين الأدب ، الذي له وقع كبير في نفوس الشعوب ، وخاصة الشعب العربي ، وله تركيز كثير في قرارات أذهان الناس وذاكرتهم .ولقد ا ستخدم الأئمة عليهم السلام تأثير الأدب في الناس ، فكانوا يهتمّون بذلك ، سواء في تطعيم ما يصدرونه ، بألوان زاهية من الأدب العربي الراقي ، نثراً وشعراء ، كما كانوا يبعثون الشعراء على نظم القضايا الفكرية ، والحقّة ، في أشعارهم ، ويروّجونها بين الناس .ولقد استثار الأئمة عليهم السلام على طول خط الإمامة شعراء فطاحل من المتشيّعين ، للنظم في قضايا عقيدية تؤدي إلى تثبيت الحق والدعوة إلى الإسلام من خلال مذهب أهل البيت عليهم السلام ، حتّى اشتهر عنهم الحديث - من قال فينا بيتاً من
ص189
الشعر ، بنى الله له بيتاً في الجنّة - .ولقد كان لهذا التوجيه أثر آخر ، وهو انتشال الأدب وخاصة الشعر من مهاوي الرذيلة والمجون والاستهتار الذي سقط فيه والاُدباء وخاصة الشعراء في تلك العصور المظلمة ، التي كادت تؤدّي إلى ضياع جهود جبّارة من ذوق الشعراء وفنّهم في متاهات الأغراض الفاسدة ، وكذلك جهود الأمّة في سماع ذلك الأدب الماجن ، ونقله وضبطه وتداوله .وقد أثّرت جهود الأئمة عليهم السلام بتعديل ذلك المجرى ، للسير في السُبل الاَمنة ، والأغراض الشرعيّة ، والتزام الأدب الهادف المؤدّي إلى رفع المستوى الخلقيّ والفكريّ والثقافيّ .ولقد أثرى الإمام زين العابدين عليه السلام الأدب العربي :بمادّة غزيرة من النصوص الموثوقة ، بشكل الأدعية التي تعدّ من أروع أمثلة الأدب العربي في النثر (34) .وامتازت بين مجموع ما رُوي عن الإمام زين العابدين من الأدعية ، تلك التي ضمّنها - الصحيفة السجادية - التي تتلألأ بين أدعيته ، لأنّها من تأليف الإمام نفسه ، وإملائه ، فلذلك فتح العلمأ لها مجالاً خاصاً في التراث الإسلامي ، وأغدق عليها المبدعون بأجمل ما عندهم من مهارات في الخطّ والزخرفة ، وأولاها الداعون عناية فائقة في الالتزام والأداء ، والعلماء في الشرح والرواية ، فلنتحدث عنها في الصفحات الأخيرة من هذا الفصل .
(لاحظ مقال :من أدب الدعاء في الإسلام ، مجلة تراثنا ، العدد ( 14 ) السنة الرابعة ( 1409 ) ( ص 30 ) .
ص190
وأخيراً :مع الصحيفة السجّادية هدفاً ومضموناً .أوّلاً :مع الصحيفة هدفاً .إنّ التشيّع ، وفي عصر الإمام زين العابدين عليه السلام خاصةً كان يواجه صعوبات بالغة الشدّة ، حيث كان الظلم مستولياً على كلّ المرافق والمقدّرات ، ولم يكن بالإمكان القيام بأيَة مقاومة إيجابية ، أو محاولة .فآخر ثورة تلك التي أعلنها الإمام الحسين عليه السلام في صدّ التعدّي الغاشم ، كان قد قضي عليها ، وعلى جميع عناصرها بشكل دمويّ ، وبقي منهم - غلام - فقط ، وهو - الإمام زين العابدين عليه السلام - .وكانت الأوضاع الاجتماعية تسير باتجاهٍ خطر ، خطورة الإجهاز على أساس النهضة ، وإخماد روح الوثبة الإسلامية ، بل القضاء على كلّ تفكير من هذا القبيل ، وتناسيه إلى الأبد .وأبرز نموذج لهذه المشكلة ، أنّ الإمامة وهي الجهاز الوحيد الباقي من كل مرافق الحكومة الإسلامية العادلة أصبحت على شُرُف التناسي عن الأذهان ، لأنّ نظام الحكم الأموي استولى على كلّ أجهزة الإعلام من المنبر ، والمحراب ، والمسجد ، واشترى ذمم كلّ ذوي النفوذ في الرأي العام من قاض وحاكم ووالٍ ، وأصبحت كلّ الإمكانات في قبضة - الخلافة - وفي خدمة - الخليفة - !.أما الإمام زين العابدين ، فقد بقي وحيداً في مواجهة المشكلات ، مع أنّ الإرهاب والذعر كان يتحكّم في الرقاب ، ويستولي على النفوس .في مثل هذه الظروف أصبح - الدعاء - ملجأ للإمام وللإمامة ، لا ، بل موقعاً اتّخذه الإمام زين العابدين عليه السلام للصمود والهجوم :.- صمود ماذا ?
- صمود ذلك الفكر ، وذلك الهتاف ، وذلك الإيمان ، الذي جنّدت الدولة الأمويّة كلّ الإمكانات في العالم الإسلامي ضدّه .- والهجوم على مَن ? -
ص191
- للهجوم على سلطة تمكنّت من كلّ قواعد القدرة ، وسلبت من الأمة كلّ إمكانات المقاومة.فكان الدعاء هو سلاح النضال ومعنى ذلك :أنّه إذا طوّقت مقاومة ، أو فكرة ، أو نضال ، وأدّت بها الظروف إلى مثل ما حصل في - كربلاء - إذ تعرّض كلّ رجالها للإبادة الدامية ، ولم يبق سوى رجل - واحد - ووقع كلّ النساء والصغار في الأسر ، وتحت القيود ، وإذا لم تبق أيّة إمكانيّة للعمل المسلّح ، والدفاع عن الحق بالقوّة ، فإنّ هذا الرجل الوحيد لا تسقط عنه المسؤوليّة .إنّه مسؤول أن يدرّب الأمة على القناعة بأن على عاتقه إحياء الفكرة ، وتحريك الأحاسيس ، والدفاع عن ذلك الحق ، ولو بلسان الدعاء ، وجعل الرسالة مستمرّة ولو بالأمل والرجاء ، ونقلها كذلك إلى الأجيال .إنّ الإمام زين العابدين عليه السلام :.وإن كان قد فقد إمكانات التضحية والنضال المستميت إلى حدّ الشهادة ، كما فعل أبوه الإمام الحسين عليه السلام في كر بلاء .وفقد إمكانات العمل الاجتماعي الحرّ ، كما قام به ابنه الإمام الباقر وحفيده الإمام الصادق عليهما السلام .لكنّه لم يفقد فرصة المقاومة من طريق هذه الحربة النافذة في أعماق أشلا النظام الحاكم ، والقابلة للتغلغُل في أوساط المجتمع الفاسد ، والسارية مع كلّ نسيم ، والممكنة في كلّ الظروف ، والتي اسمها - الدعاء - .وإن قيل :إنّ هذا هو من أضعف فروض النضال والجهاد ?.قلنا :نعم ، لكنّ الدعاء أمر ضروري حتّى لو كان الإنسان في غير هذه الحال ، فلو كان بإمكانه النضال والمقاومة ، بأشكال أخر ، أقوى وأقدر ، فإنّ من المستحيل استغناؤه عن الدعاء ، وليس بالإمكان أن يمنع من هذا النضال ، ولو كان أضعف ، فلابّد له أن يكون قادراً على عملية الدعاء ، وأن يُضمر في نفسه الارتباط بربّه ، وأن يُعلن عن أفكاره وعقائده بأسلوب المناجاة والدعاء ، ويعبّر عن آماله وآلامه ، ومكنون نفسه ، وأن يُبرز هتافاته ، وأن يطالب برغباته المهضومة ، والمغصوبة
ص192
.على أن من الضروريّ لكل مناضل أن يركّز معتقداته ، ويحدّد مواقعه الفكرية ويحصّن أصول دينه ، حتّى يكون على بصيرةٍ من أمره ، فيوحي إلى ذاته بالحقّ ، ويوصي نفسه بالصبر عليه ، بالدعاء .وليس في المقدور لأيّة سلطة حاكمة أن تسلبه هذه القدرة ، أو أن تحاسبه على هذه الإرادة .وفي مثل هذا التركيز والتحديد يكمن سرّ خلود الإنسان عندما يكون مهدّداً بالإبادة ..والنطق بالدعاء وسيلة للإعلان عن المعتقدات وتبليغ الرسالات وتنمية الشعور بالمسؤوليات ، في أحلك الظروف وأحرجها ، وبثّ روح النضال والمقاومة ، وتوثيق الرابطة الفكرية ، وتأكيد التعهّدات الاجتماعية ، وتثبيت العواطف الصالحة ، حبّاً بالتولي والإعلان عنه ، وبغضاً بالتبري وإبدائه ، وتعميق الوعي العقائدي بين الأمّة ، وتهيئة الأجواء روحياً وفكرياً وجسميّاً للإعداد للمسؤوليّات الكبرى ، كلّ ذلك في ظروف جُندت فيه القوى المضادّةُ ، للقضاء على الأهداف كلّها .إنّ الإمام في مثل ذلك عليه أن يخطّط للعمل ، عندما لا يستطيع المؤمن من القيام بأي عمل ، حتّى الموت الشريف ، بعزّة وكرامة ، حيث لا طريق إلى اختيار الشهادة كسلاح أخير ، لأنّ الشهادة أيضاً تحتاج إلى أرضيّة وظروف مؤاتية ، ومعركة ، كي يتسنّى للشهيد أن يفجّر بدمه الوضع ، ويكسر الصمت ، وإلاّ فهو الموت الصامت غير المؤثّر ، المهمل الذي لا يستفيد منه إلاّ العدوّ .والإمام زين العابدين عليه السلام أصبح قدوة للنضال في مثل هذه الظروف بكل سيرته ، ووجوده ، ومصيره ، وسكوته ، ونطقه ، وخلقه ، ورسم بذلك منهاجاً للعمل في مثل هذه الأزمات .إنّه رسم الإجابة عن كلّ الأسئلة التي تطرح :عن العمل ضدّ إمبراطورية ضارية ، مستحوذة على كل المرافق والقدرات ?وعن الصمت الثقيل القاتل ، المطبق ، الذي يستحيل فيه التفوّهُ بكلمة الحقّ ، كيف يمكنُ أنْ يُكْسَر? .وعن اُسلوب شخصي لعرض جميع الطلبات والقيم والعواطف ? .
ص193
إن الصحيفة السجادية هي :.كتاب الجهاد عند الوحدة .وكتاب التعبير عند الصمت.وكتاب التعبئة عند النكسة .وكتاب الهتاف عند الوجوم .وكتاب التعليم بالشفاه المختومة .وكتاب التسلّح عند نزع كلّ سلاح .وهو قبل هذا وبعده ، كتاب - الدعاء - ..إنّ الدعاء كما يقول الدكتور الفرنسي الكسيس كارل :- تجل للعشق والفاقة - وقد أضاف الإسلام إلى هذين :- التوعية - ..وفي مدرسة الإمام زين العابدين عليه السلام يأخذ الدعاء بُعداً رائعاً هو تأثيره الاجتماعي الخاص .وبكلمة جامعة :إن الدعاء في مدرسة الإمام زين العابدين في الوقت الذي يعدّ كنزاً لأعمق التوجهات ، وأحرّ الأشواق ، وأرفع الطلبات منهاج يتعلّم فيه المؤمن تخطيطاً متكاملاً للوجود والتفكير والعمل ، على منهج الإمامة وبقيادة حكيمة تستلهم التعاليم من مصادر الوحي .ثانياً :مع الصحيفة السجّادية مضموناً :.إن الحديث عن هذا الكتاب العظيم وأثره العلميّ والدينيّ عقيدياً وحضارياً وأثره الاجتماعي يحتاج إلى تفرّغ وتخصّص ، وإلى وقت ومجال أوسع من هذا الفصل ، ولا ريب أن النظر فيه سيوقف القارئ على مقاطع رائعة تدلّ على مفردات ما نقول بوضوح وصراحة .وإذا أخذ الإنسان بنظر الاعتبار ظروف الإمام زين العابدين عليه السلام وموقعه الاجتماعي وقرأ عن طغيان الحكام وعبثهم ، وقارن بين مدلول الصحيفة ومؤشّرات التصرّفات التي قام بها أولئك الحكام ، اتضح له أنّ الإمام قد قام من خلالها بتحدّ صارخ للدولة ومخططاتها التي استهدفَتْ كيان المجتمع الإسلامي لتزعزعه .
ص194
وإذ لا يسعنا الدخول في غمار هذا البحر الزخّار لاقتناص درره فإنّا نقتصر على إيراد مقطعين من أدعية الصحيفة ، يمثّلان صورة عمّا جاء فيها ، ممّا تبرز فيه معالم التصدّي السياسيّ الذي التزمه الإمام عليه السلام بمنطق الدعاء
المقطع الأول :دعاؤه لأهل الثغور :.إنّ الإمام ، لكونه الراعي الإلهي ، المسئول عن رعيتّه وهي الأمّة ، يكون الحفاظ على وجود الإسلام ، من أهمّ واجباته التي يلتزمها ، فلا بدّ من رعاية شعائره ،واستمرار مظاهره ، ومتابعة مصالحه العامة ، وتقديمها على غيرها من المصالح الخاصّة بالأفراد ، أو الأعمال الجزئيّة الفرعيّة ، فالحفاظ على سمعة الإسلام وحدوده ، أهمّ من الالتزام بفروع الدين وواجباته ومحرّماته ، إذا دار الأمر بينه وبينها .ففي سبيل ذلك الهدف العام السامي ، لابدّ من تجاوز الاهتمامات الصغيرة ، والمحدودة ، بالرغم من كونها في أنفسها ضرورات ، لابدّ من القيام بها في الظروف العاديّة ، لكنها لا تعرقل طريق الأهداف العامة الكبرى .فالإسلام :كدين ، ليس قائماً بالأشخاص ، ولا يتأثّر بتصرفاتهم الخاصّة ، في مقابل ما يهدّده من الأخطار الكبيرة ، فكريّة أو اجتماعية أو عسكرية ، فإذا واجه الإسلام خطر يهدّد التوحيد الممثل بكلمة - لا إله إلا الله - أو الرسالة المتجليّة في - محمّد رسول الله - فإن الإمام يتجاوز كل الاعتبارات ويهبّ للدفاع عن هذين الركنين الأهمّ ، وحتّى لو كان على حساب وجود الإمام نفسه ، أو عنوان إمامته ، فضلاً عن مصالحه الخاصة ، وشؤونه وصلاحياته .ومن هذا المنطلق ، يمكن تحديد المواقف الهامّة للأئمة من أهل البيت عليهم السلام :.فسكوت الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام عن مطالبته بحقّه ، ولجو الإمام الحسن المجتبى عليه السلام إلى توقيع كتاب الصلح مع معاوية ، وتضحية الإمام الحسين الشهيد عليه السلام بنفسه في كر بلاء.كلّ ذلك نحدّده على أساس متّحد ، وهو رعاية المصلحة الإسلامية العامة ، والحفاظ على كيان الإسلام لئلاّ يمسّه سوء .وبهذا أيضاً نميّز وقوف الإمام زين العابدين عليه السلام للدعاء لأهل الثغور .ومَنْ هم أهل الثغور في عصره ? .
ص195
ليس للدعاء تاريخ محدّد ، حتّى نعرف الفترة التي اُنشىء فيها الدعاء بعينها ، إلاّ أنها لا تخرج من مجمل الفترة التي عايشها الإمام زين العابدين عليه السلام من سنة ( 61 ) إلى سنة ( 94 ) ولم تخرج عن حكم واحد من الخلفاء الأمويين .وحتّى لو فرضنا إنشاءه في فترة حكم - معاوية بن يزيد بن معاوية - الذي عرف بولائه لأهل البيت عليهم السلام ، على قصرها ، فلا ريب أنّ نظام الحكم وأجهزة الدولة كافَة ، وعناصر الإدارة ورموز السلطة لم تتغير ، وخاصة أهل الثغور الذين هم حرس الحدود ، لم يطرأ عليهم التغيير المبدئي ، في تلك الفترة القصيرة بتبدّل الخليفة .ومن المعلوم :أن الذين يتجهون إلى حدود الدولة الإسلامية ، وهي أبعد النقاط عن أماكن لرفاه والراحة ، ليسوا إلا من سواد الناس ، ويمكن أن يكون اختيارهم لتلك الجهات البعيدة دليلاً على ابتعادهم عن التورّطات التي انغمس فيها أهل المدن في داخل البلاد .ومع ذلك ، يبقى التساؤل :عن دعاء الإمام عليه السلام بتلك القوّة ، وذلك الشمول ، وبهذه اللهجة ، وهذا الحنان ، لحرس الحدود ، وهم جز من جيش الحكومة الفاسدة ، ووحدة من وحدات كيان الدولة الظالمة ?.إنّ الحقيقة التي عرضناها سابقاً ، هي الجواب عن هذا التساؤل ، لأنّ مصلحة الإسلام ، ككلّ ، مقدّمة على كلّ ما سواه من أمور الإسلام سواء فروع الدين ، أو عناوين الأشخاص ، أو مصالح الاَخرين حتّى الجماعات المعيّنة .ثمّ إنّ هذا الدعاء بنفسه دليل مُقنع على انّ الإمام زين العابدين عليه السلام لم يكن كما شاء أن يصورّه الكتّاب الجدد متخلّياً عن مركزه القيادي والسياسي ، كإمام يرعى مصلحة الإسلام ، والأمة الإسلامية .فمن خلال أوسع جبهاتها ، وهي الحدود الإسلامية ، المهدّدة دائماً ، بلا شكّ ، من قبل الدول المجاورة الحاقدة على الإسلام الذي قهرها ، واستولى على مساحات من أراضيها ، فرض الإمام عليه السلام رعايته واهتمامه ، وبشكل الدعاء الذي لا يثير الحكّام .وحرس الحدود أنفسهم ، مهما كانت هواياتهم ، لايُعَدّون أنصاراً للحكومة ، بقدرما هم محافظون على الأرض الإسلامية ، وكرامة الإسلام ، فإنّهم مدافعون عن ثغوره ، ومراقبون لحماية خطوط المواجهة الإمامية :وهو أمر واجب على كل مسلم أن يبذل
ص196
جهداً في إسناده ودعمه وتسديد القائمين به ، بكل شكل ممكن .وهذا هو الذي استهدفه الإمام زين العابدين عليه السلام في دعائه لأهل الثغور ، فهو ينبّه الناس إلى خطورة هذا الواجب ويهيّج الأحاسيس تجاه الثغور وحمايتها .ومهما كان الحكّام في الداخل ، يعيثون فساداً ، فإنّهم لا محالة زائلون ، ومهما جدّوا في التقتيل والظلم والإجرام ، والتخريب فإنّهم لن يتمكّنوا من القضاء على كل معالم هذا الدين ، الذي يعدّ المسلمون الحفاظ عليه من واجباتهم .والإمام عليه السلام وإن كان معارضاً للنظام الأموي ، ويجدّ في فضحه وتزييف عمله والكشف عن سوء إدارته ، ويحكم على القائمين به بالخروج عن الحق والعدل ، وهو لا يزال ينظر إلى مصارع شهداء كر بلاء بعيون تملؤها العَبْرة ، لكنه يدعو بصوت تخنقه العَبْرة كذلك لأهل الثغور الإسلامية ، وباللهجة القوية القاطعة لكلّ عذر .وبالنبرة الحادة ذاتها التي يدعو بها لزوال حكم الظالمين ، يدعو لاستتباب الأمن والعدل والصلاح على أرض الإسلام .فلنقرأ معاً هذا الدعاء العظيم :.اللهمّ :صلّ على محمّد وآله ، وحصّن ثغور المسلمين بعزّتك ، وأيّد حماتها بقوّتك ، وأسبغ عطاياهم من جِدَتك .اللهمّ :صلّ على محمّد وآله ، وكثّر عدّتهم ، واشحذ أسلحتهم ، واحرس حوزتهم ، وامنع حومتهم ، وألّف جمعهم ، ودبّر أمرهم ، و واتر بين مِيَرهم ، وتوحّد بكفاية مؤنهم ، و اعضدهم بالنصر ، و أعنهم بالصبر ، والطف لهم في المكر .اللهمّ :صلّ على محمّد وآله ، وعرّفهم ما يجهلون ، وعلّمهم ما لايعلمون ، وبصّرهم ما لا يبصرون .اللهمّ :صلّ على محمّد وآله ، وأنسهم عند لقائهم العدوّ ذكر دنياهم الخدّاعة الغرور ، وامحُ عن قلوبهم خطرات المال الفتون ، واجعل الجنّة نصب أعينهم ، ولوّح منها لأبصارهم ما أعددتَ
ص197
فيها من مساكن الخلد ، ومنازل الكرامة ، والحور الحسان ، والأنهار المطّردة بأنواع الأشربة ، والأشجار المتدلية بصنوف الثمر ، حتّى لا يهمّ أحد منهم بالإدبار ، ولا يحدّث نفسه عن قرنه بفرار .اللهمّ :افلل بذلك عدوّهم ، واقلم عنهم أظفارهم ، وفرّق بينهم وبين أسلحتهم ، واخلع وثائق أفئدتهم ، وباعد بينهم وبين أزودتهم ، وحيّرهم في سبلهم ، وضلّلهم عن وجههم ، واقطع عنهم المدد ، وانقص منهم العدد ، واملأ أفئدتهم الرعب ، واقبض أيديهم عن البسط ، واخزم ألسنتهم عن النطق ، وشرّد بهم مَن خلفهم ، ونكّل بهم مَن ورائهم ، واقطع بخزيهم أطماع من بعدهم .اللهمّ :عقّم أرحام نسائهم ، ويبّس أصلاب رجالهم ، واقطع نسل دوابّهم وأنعامهم ، لا تأذن لسمائهم في قطر ، ولا لأرضهم في نبات .اللهمّ :وفّق بذلك محالّ أهل الإسلام ، وحصّن به ديارهم ، وثمّر به أموالهم ، وفرغّهم عن محاربتهم لعبادتك ، وعن منابذتهم للخلوة بك ، حتّى لايُعبد في بقاع الأرض غيرك ، ولا تعفّر لأحد منهم جبهة دونك .اللهمّ :اغز بكل ناحية من المسلمين على مَن بإزائهم من المشركين ، وأمددهم بملائكة من عندك مردفين ، حتّى يكشفوهم إلى منقطع التراب قتلاً في أرضك وأسراً ، أو يقرّوا بأنك أنت الله الذي لا إله إلاّ أنت ، وحدك لا شريك لك .اللهمّ :واعمُم بذلك أعداءك في أقطار البلاد ، من الهند ، والروم ، والترك ، والخزر ، والحبش ، والنوبة ، والزنج ، والسقالبة ، والديالمة ، وسائر أمم الشرك الذين تخفى أسماؤهم وصفاتهم ، وقد أحصيتهم ، بمعرفتك ، وأشرفت عليهم بقدرتك .اللهمّ :أشغل المشركين بالمشركين عن تناول أطراف المسلمين ، وخُذهم بالنقص عن
ص198
تنقيصهم ، وثبّطهم بالفرقة عن الاحتشاد عليهم
اللهمّ :أخْلِ قلوبهم من الأمنة ، وأبدانهم من القوّة ، وأذهل قلوبهم عن الاحتيال ، وأوهن أركانهم عن منازلة الرجال ، وجنّبهم عن مقارعة الأبطال ، وابعث عليهم جنداً من ملائكتك ببأس من بأسك ، كفعلك يوم بدر ، تقطع به دابرهم ، وتحصد به شوكتهم ، وتفرّق به عددهم .اللّهمّ :