.- (74)
ولقد تكلّم فيه شيخ أهل الجرح والتعديل يحيى بن معين بكلام خشن حول قتل الزهري لغلامه وقال :إنه ولي الخراج لبعض بني اُمية (75) .وقال يحيى بن معين في معرفة رجاله :هجا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وكان أعمى :الزُهرْيَ وصالح بن كيسان ، ومعاوية بن عبد الله بن جعفر ، في بيت واحد فقال :ليس بإخوان الثقات ابنُ مسلم ***ولا صالح ولا الطويل معاويهْ (76)
فنفى ابن معين الوثاقة عن الزهري على لسان الشاعر ، وهو لو لم يوافق عليه ولم يعتقده لم ينقله أو لردّ عليه ، لكنه لم يفعل .وقال القاسم بن محمّد :أليس كان بنو أمية وأتباعهم يلعنون عليّاً عليه السلام على المنابر ، وابن شهاب يسمع ويرى ، فماله ما يغضب ويُظهر علمه ? (77) .وقال السيّد مجد الدين المؤيّدي :أمّا كون الزهريّ من أعوان الظلمة فمما لا خلاف فيه ، وقد قدح فيه نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم .وابن شهاب ممن لا يعدّلون ، بطاعة بني أميّة ، وتلبيسه وتحريفه لمكان كثرة
(73 ) دفاع عن السنة ( ص 31 ) وانظر قصة حماد بن سلمة مع أمير البصرة ، في الجامع لأخلاق الراوي ( 1 :7 -568) وحلية الأولياء ( 6 :249 ) .( 74) الاعتصام ( 2 :258 ) والكلام بطوله في الإمامة والسياسة ( 2 :105 110 ) .( 75) انظر جامع بيان العلم للقرطبي ( 2 :160 ) وصرَح بأنه ترك الكلام الخشن لأنه لا يليق بمثله ، ولكن لم نجد ذكراً لمثل ذلك في رجال ابن معين ، ولعلّ الطابعين أيضاً تركوا ذلك رعاية لما يليق بالزهري ، وان كان فيه إساءة إلى ابن معين وإلى التراث بالخيانة فيه
( 76 ) معرفة الرجال ( 2 :50 ) رقم ( 80 ) .(77 )الاعتصام (2:260).
ص226
وفادته اليهم معروف ، وهو لسان بني أميّة (78) .وقال المؤيد بالله في شرح التجريد :الزهريّ عندنا في غاية السقوط (79) .واستعمل الإمام زين العابدين عليه السلام أساليب عديدة لإتمام الحجّة على الزهريّ ، ليعتبر به هو وأمثاله ، وكان التركيز عليه لكونه أكبر علماء البلاط ، وأعرفهم عند العوام :فمن أساليبه :إسماعهُ المواعظ في المناجاة .قال الزهريّ :سمعتُ علي بن الحسين سيّد العابدين يحاسب نفسه ويناجي ربّه ، ويقول :.حتّام إلى الدنيا غرورك :وإلى عمارتها ركونك ...? (80) .ولما سأله الزهري :أيّ الأعمال أفضل عند الله تعالى ? .فقال عليه السلام :ما من عمل بعد معرفة الله تعالى ومعرفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من بغض الدنيا ، وإن لذلك لشعباً كثيرة ، وللمعاصي شعباً :فأول ما عُصي الله به :الكبر ...ثم الحسد .فتشعّب من ذلك حب النساء ، وحب الدنيا ، وحبّ الرئاسة ، وحبّ الراحة ، وحبّ الكلام ، وحبّ العلوّ والثروة ، فصرن سبع خصال .فاجتمعن كلهنّ في حبّ الدنيا ، فقال الأنبياء والعلماء :- حبّ الدنيا رأس كل خطيئة - والدنيا دنياوان :دنيا بلاغ :ودنيا ملعونة (81) .ومنها :التنبيه الخاصّ :.قال المدائني :قارف الزهريّ ذنباً استوحش منه ، وهام على وجهه ، فقال له علي ابن الحسين :يا زهريّ ، قنوطك من رحمة الله التي وسعت كلّ شي أعظم عليك من ذنبك
(78 ) لوامع الأنوار ( ص 79 ) .(79 ) لوامع الأنوار ( ص 110 ) وقد ألّف سماحة السيد بدر الدين الحوثي حول ( الزهري ) كتاباً حافلاً في فصلين ، فليراجع
(80 )إلى آخر ما ذكره عليه السلام .(81 )الكافي ( 2 :130 ) المحجة البيضاء ( 5 :365 ) .
ص227
فقال الزهري :( الله أعلم حيثُ يجعل رسالته ) .[ الأنعام - 6 - الاَية - 124 - ]فرجع إلى ماله وأهله (82) .وكان يقول بعد ذلك :علي بن الحسين أعظم الناس عليَ منَة (83) .ومنها :التصغير والتهوين :.فحيثما كان الزهري وعروة بن الزبير ينالان من الإمام علي عليه السلام ، بلغ ذلك علي بن الحسين عليه السلام فجاء حتّى وقف عليهما ، وقال :أمّا أنت يا عروة ، فإنّ أبي حاكم أباك إلى الله فحكم لأبي على أبيك .وأمّا أنت يا زهريّ ، فلو كنت بمكة لأريتك كيرَ أبيك (84) .ومنها :التكذيب لتزلّفاته :.ففي الحديث أن الزهريّ قال لعلي بن الحسين عليه السلام :كان معاوية يُسكته الحلم ، وينطقه العلم
فقال الإمام عليه السلام :كذبتَ يا زهريّ ، كان يُسكته الحَصَر ، وينطقه البَطَر (85) .ومنها :الرسالة التي وجّهها الإمام عليه السلام إليه :.ويبدو أنّ الزهريَ لم يأبه بكلّ النصائح والتوجيهات السابقة ، فتوغّل في دوّامة الحكم الغاشم ، والتحق بالبلاط الشاميّ ، فلم يتركه الإمام عليه السلام ، بل أرسل إليه رسالة دامغة ، يصرّح فيها بكل أغراضه ، ويكشف له ، ولأمثاله ، أخطار الاتصال بالأجهزة الظالمة .وقد رواها العامة والخاصة ، ونصّ الغزّالي على أنها كتبت إلى الزهري - لما خالط السلطان - (86) .
(82 )مختصر تاريخ دمشق ( 17 :245 ) وكشف الغمة ( 2 :302 ) وبحار الأنوار ( 46 :7 ) .(83 )تاريخ دمشق ( الحديث 125 ) ومختصره لابن منظور ( 17 :246 ) .(84 )شرح نهج البلاغة ( 4 :102 ) .ب ( 3)
(85 )الاعتصام ( 2 :257 ) وانظر نزهة الناظر ( ص 43 ) وعن معاوية وكذب ما نسب إليه من صفة الحلم إقرأ ما نقل عن شريك لما ذكر عنده باحلم فقال :هل كان معاوية إلا معدن السفه؟!والله لقد أتاه قتل أمير المؤمنين -وكان متكئا فاستوى حاليا ثم قال :يا جارية غنيني بايوم قرت عيني يأنشأت تقول :ألا أبلغ معاوية بن حرب * فلا قرت عيون الشامتينا
أ في شهر الصيام فجعتمونا * بخير الناس طرا أحمعينا
قتلتم خير من ركب المطايا * وأفضلهم ومن ركب السفينا
فرفع معاوية عمودا كان بين يديه فضرب رأسها ونثر دماغها أين كان خلمه ذلك اليوم ؟!
نقل ذلك في الغدير (11 /79) عن نسخة مخطوطة من محاظرات الراغب الأصبهاني لكنه لم يوجد في مطبوعة المحاظرات !!!
(86 )إحياء علوم الدين ( 2 :143 ) وانظر المحجة البيضاء في إحياء الإحياء ( 3 :260 ) .
ص228
ورواها من أعلامنا ابن شعبة ، ونعتمد نسخته هنا (87) قال :.كتابه عليه السلام إلى محمّد بن مسلم الزُهْريّ ، يعظه :.كفانا الله ، وإيّاك ، من الفتن ، ورحمك من النار ، فقد أصبحتَ بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك ، فقد أثقلتك نِعمُ الله بما أصحّ من بدنك ، وأطال من عمرك ، وقامت عليك حجج الله بما حمّلك من كتابه ، وفقّهك من دينه ، وعرّفك من سنّة نبيه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فرضي لك في كلّ
نعمةٍ أنعم بها عليك ، وفي كلّ حُجّة احتجّ بها عليك الفرض بما قضى ، فما قضى إلاّ ابتلى شكرك في ذلك ، وأبدى فيه فضله عليك ، فقال :( لئن شكرتم لأزيدنّكم ، ولئن كفرتم إنّ عذابي لشديد ) .[ إبراهيم - 14 - الاَية - 7 - ]
فانظر :أيَ رجل تكون غداً إذا وقفت بين يدي الله فسألك عن نعمه عليك :كيف رعيتها ? وعن حججه عليك :كيف قضيتها ? .ولا تحسبنّ الله قابلاً منك بالتعذير ، ولا راضياً منك بالتقصير .هيهات هيهات ليس كذلك أخذ على العلماء في كتابه إذ قال :( لِتبِيّنُنَه للناس ولاتكتمونه) .[ آل عمران - 3 - الاَية - 187 - ]
واعلم أنّ أدنى ما كتمتَ ، وأخفّ ما احتملت أن آنست وحشة الظالم ، وسهّلت له طريق الغيّ بدنوّك منه حين دنوت ، وإجابتك له حين دُعيت !.فما أخوفني أن تبوء بإثمك غداً ، مع الخونة ، وأن تُسأل عمّا أخذت بإعانتك على ظلم الظلمة ، إنك أخذت ماليس لك ممَن أعطاك ، ودنوت ممّن لم يردَ على أحدٍ حقّاً ، ولم تردَ باطلاً حين أدناك ، وأحببتَ مَنْ حادَ الله !.أو ليس بدعائهم إيّاك حين دعوك جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم ، وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم ، وسلّما إلى ضلالتهم .داعياً إلى غيّهم ، سالكاً سبيلهم ، يُدخلون بك الشكَ على العلماء ، ويقتادون بك قلوب الجهّال إليهم .فلم يبلغ أخصّ وزرائهم ، ولا أقوى أعوانهم إلاّ دون ما بلغت من إصلاح فسادهم ،
(87)تحف العقول ( ص 274 ) والمحجة البيضاء ( 3 :260 ) .
ص229
واختلاف الخاصّة والعامّة إليهم .فما أقلّ ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك ، وما أيسر ما عمّروا لك في كَنَف ما خربّوا عليك ? .فانظر لنفسك ، فإنّه لا ينظر لها غيرك ، وحاسبها حساب رجل مسؤول .وانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيراً وكبيراً ? .فما أخوفني أن تكون كما قال الله في كتابه :( فَخَلَف من بعدهم خَلْف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيُغفر لنا) .[ الأعراف - 7 - الاَية - 169 - ].إنّك لست في دار مقام ، أنت في دارٍ قد آذنتْ برحيل ، فما بقاء المرء بعد قرنائه ?.طوبى لمن كان في الدنيا على وجلٍ ، يا بؤس مَن يموت وتبقى ذنوبه من بعده .إحذر فقد نُبّئتَ ، وبادر فقد اُجّلتَ .إنّك تعامل مَن لا يجهل ، وإنّ الذي يحفظ عليك لا يغفل .تجهّز فقد دنا منك سفر بعيد ، وداوِ دينك فقد دخله سقم شديد .ولا تحسب أني أردتُ توبيخك وتعنيفك وتعييرك ، لكنّي أردتُ أن ينعش الله ما فات من رأيك ، ويردّ إليك ما عزُب من دينك ، وذكرت قول الله تعالى في كتابه :( وذكّر فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين) .[ الذاريات - 51 - الاَية - 55 - ].أغفلتَ ذكر مَن مضى من أسنانك وأقرانك ، وبقيتَ بعدهم كقَرن أعضب .انظر :هل ابتلوا بمثل ما ابتليت به ? أم هل وقعوا في مثل ما وقعت فيه ? أم هل تراهم ذكرت خيراً أهملوه ? وعلمت شيئاً جهلوه ? .بل :حظيت بما حلّ من حالك في صدور العامّة ، وكلفهم بك ، إذ صاروا يقتدون برأيك ، ويعملون بأمرك ، إن أحللت أحلّوا ، وإن حرّمت حرّموا ، وليس ذلك عندك ، ولكن أظهرهم عليك رغبتهم في ما لديك ذهابُ علمائهم ، وغلبة الجهل عليك وعليهم ، وحبّ الرئاسة ، وطلب الدنيا منك ومنهم .أما ترى ما أنت فيه من الجهل والغرّة ? وما الناس فيه من البلاء والفتنة ? .قد ابتليتهم ، وفتنتهم بالشغل عن مكاسبهم ممّا رأوا ، فتاقت نفوسهم إلى أن يبلغوا من العلم ما بلغتَ ، أو يدركوا به مثل الذي أدركتَ ، فوقعوا منك في بحرٍ لا يدرك عمقه ، وفي
ص230
بلاء لا يقدّر قدره .