أشهد أنْ لا إله إلا الله , قال عليّ :شَهَد بها شعري وبَشَري ، ولحمي ودمي ، ومُخّي وعظمي .فلمّا قال :شهد أنّ محمّداً رسول الله التفتَ عليّ مِن أعلى المنبر إلى يزيد وقال :يا يزيد ، محمّد هذا جدّي أم جدّك ? فإنْ زعمتَ أنّه جدّك فقد كذبتَ .وإنْ قلتَ إنّه جدّي ، فَلِمَ قتلتَ عترته ?(87) .فأدّى كلام الإمام عليه السلام إلى أن تتبخّر كل الدعايات المضلّلة التي روّجتها السياسة الأموية ، والتي تركّزت على :أنّ الأسرى هم من الخوارج فبدّل نشوة الانتصار إلى حشرجة الموتى في حلوق المحتفلين.وفي التزام ا لإمام السجاد عليه السلام بذكر هويّته الشخصية فقط في هذه الخطبة ، حكمة وتدبير سياسيّ واعٍ ، إذْ لم يكن له في مثل هذا المكان والزمان ، أن يتطرّق إلى شي من القضايا الهامّة ، وإلا كان يمنع من الكلام والنطق ، وأمّا الإعلان عن اسمه فهي قضية شخصية ، وهو من أبسط الحقوق التي تُمنح للفرد وإنْ كان في حالة الأسر.لكنّ كلام الإمام لم يكن في الحقيقة إلا مليئاً بالتذكير والإيماء ، بل الكناية التي هي أبلغ من التصريح ، بنسبه الشريف ، واتصاله بالإسلام ، وبرسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم .وقد ذكَر الإمام عليه السلام بكل المواقع الجغرافية ، والمواقف الحاسمة والذكريات العظيمة في الإسلام ، وربط نفسه بكلّ ذلك ، فسرد وبِلُغةٍ شخصيّةٍ حوادث تاريخ الإسلام ، معبراً بذلك عن أنّه يحمل هموم ذلك التاريخ كلّه على عاتقه ، وأنّه حامل هذا العِبْ ، بكلّ ما فيه من قدسيّة ، ومع هذا فهو يقفُ أسيراً أمام أهل المجلس.وقد فهم الناسُ مغزى هذا الكلام العميق ، فلذلك ضجّوا بالبكاء فإنَ الحكّام
(87) مقتل الحسين ( 2 69 -71 ) ونقل عن كتاب ( كامل البهائيّ ) بنص متقارب نقله الحائري في بلاغة علي بن الحسين عليه السلام ( ص 106 -109 ) ونقل بعده نصّاً آخر للخطبة عن أبي مخنف فليُلاحظ .
ص5
الأمويّين إنّما حصلوا على مواقع السلطة من خلال ربط أنفسهم بالإسلام ، فكسبوا لأنفسهم قدسيّة الخلافة.وكان لجهل الناس الأثر الكبير في وصول الأمر إلى هذه الحالة ، أن يروا ابن الإسلام أسيراً أمامهم.ثمّ إنّ جهل أهل الشام بأهل البيت ، مضافاً إلى حقد الحكّام على أهل البيت عامّة ، وعلى الذين كانوا مع الحسين عليه السلام في كر بلاء خاصة ، كان يدعو إلى الاحتياط ، والحذر من أن ينقضَ يزيد على الأسرى في ما لو أحسَ بخطرهم ، فيُبيدهم.فكان ما قام به الإمام من تأطير خطبته بالإطار الشخصي مانعاً من إثارة غضبه وحقده ، لكن لم يَفُتِ الإمام اقتناص الفرصة السانحة لكي يبثّ من خلال التعريف ، بشخصه وهويته ، التنويه بشخصيته وبقضيته وبهمومه ، ولو بالكناية التي كانت حقاً أبلغ من التصريح .فلذلك لم يتعرّض الإمام عليه السلام لذكر مساوي الأمويّين ، ولم يذكر شيئاً من فضائحهم ، بالرغم من توقّع يزيد نفسه لذلك .وبذلك نجا من شرّ يزيد ، وبقي ليداوم اتّباع الهدف الذي من أجله قُتِلَ الشهداء بالأمس ، وأصبح هو يقود مسيرة الأحياء ، اليوم ، وغداً .وموقف آخر :في وسط ذلك الجوّ الخانق ، وفي عاصمة الحاكم المنتصر ، وفي حالة الأسر ، يرفع الإمام صوته ، ليُسمع الأذان التي أصمّها الضوضاء والصخب ، في ما رواه المنهال بن عمرو ، قال :دخلت على عليّ بن الحسين ، فقلتُ :كيف أصبحت ، أصلحك الله ?.فقال :ما كنتُ أرى شيخاً من أهل المصر مثلك لا يدري :كيف أصبحنا ?.قال :فأمّا إذا لم تدْرِ أو تعلم فأنا اُخبرك :أصبحنا في قومنا بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون ، إذ كانوا ( يذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ) .وأصبحنا :شيخُنا وسيّدنا يُتقرّب إلى عدوّنا بشتمه ، وبسبّه ، على المنابر
ص56
.وأصبحت قريش تعدّ (88) :أنّ لها الفضل على العرب ، لأنّ محمّداً منها ، لا يُعَد لها فضل إلا به ، وأصبحت العرب مقرّةً (89) لهم بذلك .وأصبحت العرب تعدّ(90) أن لها الفضل على العجم ، لأن محمداً منها ، لا يُعدّ لها فضل إلا به ، وأصبحت العجم مقرّةً(91)
فإنْ كانت العرب صدقت أنّ لها الفضل على العجم ، وصدقت قريش أنّ لها الفضل على العرب لأنّ محمّداً منها :إنّ لنا أهل البيت الفضل على قريش ، لأن محمداً منّا .فأضحوا يأخذون بحقّنا ، ولا يعرفون لنا حقّاً .فهكذا أصبحنا ، إن لم يُعلم :كيف أصبحنا ?
قال المنهال :فظننت أنَه أراد أن يُسمِعَ مَن في البيت(92)
ويصرّح في موقف مماثل يُسأل فيه عن الركب الذي هو فيه ، فيقول :إنا من أهل البيت ، الذين افترض الله مودّتهم على كل مسلمٍ ، فقال تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم :( قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في القُربى ومَن يقترف حسنةً نزد له فيها حسنا ) [ سورة الشورى 42 الآية 23 [ فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت (93) .إلى غير ذلك من المواقف التي كان لها أثر حاسم في تغيير سياسة يزيد تجاه هذا الركب المأسور ، حتّى أرجعه إلى المدينة.إنّ هذه المواقف لم تكن تصدر من قلب مُلىء رُعباً ، أو شخصٍ يفضّل السلامة ، أو يميل إلى الهدوء والراحة ، بَلْه المسالمة مع العدو أو الركون إلى الظالمين
(88) كذا الصواب وكان في المختصر :( بعد ) .(89) كذا الصواب وكان في المختصر :( معيرة ) .(90) كذا الصواب وكان في المختصر :( بعد ) .(91) كذا الصواب وكان في المختصر :( معيرة ) .(92) تاريخ دمشق ( الحديث 120 ) مختصر ابن منظور ( 17 :245 ) ورواه الحافظ محمد بن سليمان في مناقب أمير المؤمنين ( ج 2 ص 108 ) رقم ( 598 ) ولاحظ طبقات ابن سعد ( 5 :219 ) .ورواه السيد الموفق بالله في الاعتبار و سلوة العارفين ( ص 186 ) .(93) المستدرك على الصحيحين ، للحاكم ( 3 :172 ) .
ص57
إنّما صاحب هذه المواقف ذو روحٍ متطلّعة وثّابة هادفة ، إذا لم يُتَحْ له بعد كر بلاء أن يأخذ بقائمة السيف ، فسنان المنطق لا يزال في قدرته ، يهتك به ظلام التعتيم الإعلامي المضلّل.وقد اتّبع الإمام السجاد عليه السلام هذه الخطّة بحكمة وتدبير عن علم بالأمر ، وعمد له ، وكشف عن أنه انتهجه سياسة مدبرةً مدروسة .فلمّا سُئل عن :الكلام ، والسكوت أيهما أفضل ? لم يُدْل بما يعتبره الحكماء من :أن الكلام إذا كان من فضة فالسكوت من ذهب ، وإنّما قال :لكل واحدٍ منهما آفات ، وإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت .ولمّا سئل عن سبب ذلك مع مخالفته لاعتبار الحكماء المستقر في أذهان الناس من فضل السكوت ? قال :لأن الله عز و جل ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت ، وإنّما بعثهم بالكلام .ولا استُحقت الجنة بالسكوت .ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت .ولا توقيت النار بالسكوت .ولا يُجنّب سخط الله بالسكوت .إنما كلَه بالكلام وما كنت لأعدل القمر بالشمس.إنك تصف فضل السكوت بالكلام ، ولست تصف فضل الكلام بالسكوت (94)
وهكذا طبق الإمام عليه السلام هذه الحكمة البالغة ، وأدّى رسالته الإلهية من خلال خطبه وكلماته ومواعظه وأحاديثه ، في جميع المواقف العظيمة التي وقفها ، وهو في الأسر .وإذا كان الظالمون يعتدون على المصلحين والأحرار بالقتل والسجن ، فإنّما ذلك ليخنقوا كل صوت في الحناجر ، ولئلا يسمع الناس حديثهم وكلامهم (95) .
(94) الاحتجاج للطبرسي ( ص 315 ) .(95) لاحظ أن الحجاج ختم على مجموعة من الصحابة كي لا يسمعهم الناس ، في أسد الغابة ( 2 :471 ) ترجمة سهل الساعدي .
ص58
وإذا ذبح الحسين عليه السلام وقُتِلَ في كر بلاء ، فإنّ نداءاته ظلّت تدوي من حنجرة الإمام السجاد عليه السلام في مسيرة الأسرى ، وفي قلب مجالس الحكّام .وليس من الإنصاف ، في القاموس السياسي ، أن يوصف مَنْ يؤدّي هذا الدور ، بالانعزال عن السياسة ، أو الابتعاد عن الحركة والنضال.بل ، إذا كانت حركة الإمام الحسين عليه السلام سياسيةً ، كما هي كذلك بلا ريب فكما قال القرشي :إنّ الإمام زين العابدين عليه السلام من أقوى العوامل في تخليد الثورة الحسينية ، وتفاعلها مع عواطف المجتمع أحاسيسه ، وذلك بمواقفه الرائعة التي لم يعرف لها التاريخ مثيلاً في دنيا الشجاعة والبطولات أمّا خطابه في بلاط يزيد فإنه من أروع الوثائق السياسية في الإسلام(96) .وبرز الإمام زين العابدين عليه السلام على مسرح الحياة الإسلامية كألمع سياسي إسلامي عرفه التاريخ ، فقد استطاع بمهارةٍ فائقةٍ وهو في قيد المرض والأسر أن ينشر أهداف الثورة العظمى التي فجّرها أبوه الإمام الحسين القائد الملهم للمسيرة الإسلامية الظافرة ، فأبرز قيمها الأصلية بأسلوب مشرق كان في منتهى التقنين ، والأصالة ، والإبداع (97) .
(96) حياة الإمام زين العابدين ، للقرشي ( 1 :8 ) .(97) حياة الإمام زين العابدين ، للقرشي ( 1 :7 ) .
ص59
ثالثاً :في المدينة
رجع الإمام السجاد إلى المدينة :ليرى المدينة واجمةً ، موحشةً من أهله وذويه ، رجالات أهل البيت عليهم السلام ، والناس كذلك واجمون ، بعد أن رأوا ركْبَ أهل البيت يرجع ليس فيهم إلا عليَ بن الحسين عليه السلام ، وليس معه إلا أطفال ونساء!! أما الرجال فقد ذُبحوا على يد العصبة الأموية!؟
وإذا لم يتورّع آل اُمية من إراقة دم الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، هكذا ، وفي وَضَح النهار ، وهو مَن هو فمن سوف يأمن بغيهم وسطوتهم ?
إنّ الإمام السجاد عليه السلام ، وهو الوارث الشرعي لدماء كلّ المقتولين ، الشهداء الذين ذُبحوا في كر بلاء ، وهو الشاهد الوحيد على كلّ ما جرى في تلك الواقعة الرهيبة ، لابدّ أنّ عين الرقابة تلاحقه ، وتتربّص به ، وتنظر إلى تصرفاته بريبةٍ واتّهامٍ .والناس على عادتهم في الابتعاد والتخوّف من مواضع التهمة ، ومواقع الخطر قد تركوا علي بن الحسين ، وابتعدوا عنه ، حتّى مَنْ كان يعلن الحبَ لأهل البيت عليهم السلام قبل كر بلاء ، لم يكد يفصح عن ودّه بعد كر بلاء .وقد عبّر الإمام السجاد عليه السلام عن ذلك بقوله :ما بمكة والمدينة عشرون رجلاً يحبّنا (98)
وإذا كان عدد الملتزمين بالولاء الصادق لأهل البيت ، في عاصمة الإسلام قليلاً إلى هذا الحدّ ، فكيف بالبلدان القاصية عن مركز وجود أهل البيت عليهم السلام ?
وقد رجع الإمام السجاد عليه السلام حاملاً معه أعباءً ثقالا :فأعباء كر بلاء ، بمآسيها ، وذكرياتها ، وأتعابها ، وجروحها ، والأثقل من كلّ
ذلك ( أهدافها ) ونتائجها ، فقد هبط المدينة وهو الوحيد الباقي من رجال تلك المعركة ،
(98) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ( 4 :140 ) .ولاحظ الغارات للثقفي ( ص 573 ) وبحار الأنوار ( 46 :143 ) .
ص59
ثالثاً :في المدينة
رجع الإمام السجاد إلى المدينة :ليرى المدينة واجمةً ، موحشةً من أهله وذويه ، رجالات أهل البيت عليهم السلام ، والناس كذلك واجمون ، بعد أن رأوا ركْبَ أهل البيت يرجع ليس فيهم إلا عليَ بن الحسين عليه السلام ، وليس معه إلا أطفال ونساء!! أما الرجال فقد ذُبحوا على يد العصبة الأموية!؟
وإذا لم يتورّع آل اُمية من إراقة دم الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، هكذا ، وفي وَضَح النهار ، وهو مَن هو فمن سوف يأمن بغيهم وسطوتهم ?
إنّ الإمام السجاد عليه السلام ، وهو الوارث الشرعي لدماء كلّ المقتولين ، الشهداء الذين ذُبحوا في كر بلاء ، وهو الشاهد الوحيد على كلّ ما جرى في تلك الواقعة الرهيبة ، لابدّ أنّ عين الرقابة تلاحقه ، وتتربّص به ، وتنظر إلى تصرفاته بريبةٍ واتّهامٍ .والناس على عادتهم في الابتعاد والتخوّف من مواضع التهمة ، ومواقع الخطر قد تركوا علي بن الحسين ، وابتعدوا عنه ، حتّى مَنْ كان يعلن الحبَ لأهل البيت عليهم السلام قبل كر بلاء ، لم يكد يفصح عن ودّه بعد كر بلاء .وقد عبّر الإمام السجاد عليه السلام عن ذلك بقوله :ما بمكة والمدينة عشرون رجلاً يحبّنا (98)
وإذا كان عدد الملتزمين بالولاء الصادق لأهل البيت ، في عاصمة الإسلام قليلاً إلى هذا الحدّ ، فكيف بالبلدان القاصية عن مركز وجود أهل البيت عليهم السلام ?
وقد رجع الإمام السجاد عليه السلام حاملاً معه أعباءً ثقالا :فأعباء كر بلاء ، بمآسيها ، وذكرياتها ، وأتعابها ، وجروحها ، والأثقل من كلّ
ذلك ( أهدافها ) ونتائجها ، فقد هبط المدينة وهو الوحيد الباقي من رجال تلك المعركة ،
((98 شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ( 4 :140 ) .ولاحظ الغارات للثقفي ( ص 573 ) وبحار الأنوار ( 46 :143 ) .
ص60
فعليه أداء رسالتها العظيمة .وأعباء العائلة المهضومة ، المكثورة ، ما بين ثكالى وأرامل وأيتام ، ودموع لابدّ أن يكفكفها ، وعواطف مخدوشة ، وقلوب صغيرة مروَعة ، وعيون موحشة ، وجروح وأمراض وآلام ، تحتاج إلى مداراة ومداواة والتيام .ولابدّ أن يسترجع القوى.وأعباء الإمامة ، تلك المسؤولية الإهيّة ، والتاريخية الملقاة على عاتقه ، والتي لابدّ أن ينهض بها ، فيلملم كوادرها ويردم الصدمات العنيفة التي هزّ كيانها ، ويرأب الصدع الذي أصاب بناء نظام الإمامة الشامخ ، الذي يُمَثل الخط الصحيح للإسلام .ولقد حمل الإمام السجاد عليه السلام ، في وحدته ، كلّ هذه الأعباء ، وبفضل حكمته وتدبيره خرج من عهدتها بأفضل الأشكال .ففي السنين الأولى :وقبل كل هذه المهمّات الهائلة الثقال ، وبعدها :كانت ملاحقة الدولة ، أهمّ ما كان على الإمام السجاد عليه السلام أن يوقفها عند حد ، حتّى يتمكّن من أداء واجب تلك الأعباء الصعبة بشكل صحيح ومطلوب .ولابدّ أن أصابع الاتّهام كانت موجهةً إليه ما دام موجوداً في المدينة ، أو أي بلدٍ إسلامي آخر ، تلاحق حركاته وسكناته ، وتحصي أنفاسه وكلماته .الإجراء الفريد :فلذلك اتّخذ إجراءً فريداً في حياة الأئمة ، وبأسلوب غريب جدّاً ، لمواجهة الموقف ، ولإبعاد نفسه عن وجهة تلك الاتّهامات والملاحقات التي لا يمكن صرفها هي ولا تغيير وجهتها .فأبعد بذلك الإجراء الأخطار الموجهة إليه من الملاحقات ، وبدأ بعيداً عنها بالاستعداد لما يتوجّبه حمل تلك الأعباء ، ويتأهب للقيام بدوره ، كوارث لكربلاء ، وكمعيل كفيل لعوائل الشهداء ، وكإمام يقود الأمة ويحافظ على تعاليم السماء .كان ذلك الإجراء الفريد أنه اتخذ بيتاً من شَعْر في البادية ، خارج المدينة
ص61
قال ابن أبي قرّة في ( مزاره ) بسنده عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين عليه السلام ، قال :كان أبي علي بن الحسين عليه السلام ، قد اتّخذ منزله من بعد مقتل أبيه الحسين بن علي عليه السلام بيتاً من شَعْرٍ ، وأقام بالبادية ، فلبث بها عدّة سنين ، كراهيةً لمخالطة الناس(99) وملاقاتهم .وكان يصير من البادية بمقامه إلى العراق زائراً لأبيه وجدّه عليهما السلام ، ولا يُشْعَرُ بذلك من فعله(100) .إنه تصرّف غريب في طول تاريخ الإمامة ، لم نجد له مثيلا ، لكنه كما تكشف عنه الأحداث المتتالية عمل عظيم يَنُمّ عن حنكة سياسية ، وتدبير دقيق للإمام عليه السلام .فإذا كان الإمام عليه السلام يعيش خارج المدينة ، وكان ينزل البادية :فإن الدولة لا تتمكّن من اتهامه بشي يحدث في المدينة ، ويكون من العبث ملاحقته وملاحظته ، في محل مكشوف مثل البادية
وأمّا هو عليه السلام :فخير له أن يتخذ منتجعاً مؤقتاً بعيداً عن الناس ، حتّى تهدأ الأوضاع وتستقرّ ، وتعود المياه إلى مجاريها .وبعيداً عن الناس ، للاستجمام ، ولاستجماع قواه ، كي ينتعش مما أبلاه في سفره ذلك من النصب والتعب ، ليتمكّن من مداومة مسيره بعد ذلك بقوة وجدّ .وهو عليه السلام بحاجة بعد ذلك العناء والضنى إلى راحة جسدية ، وهدوء بال وخاطر ، حتّى يبلَ من مرضه أو يداوي جراحاته .ثم ، إن المدينة التي دخلها الإمام السجاد عليه السلام وهو غلام ابن ( 23 ) سنة أو نحو ذلك لم تكن لتعرف للإمام مكانته كإمام ، وهو بعد لم يعاشرهم ، ولم يداخلهم ، وما تداولوا حديثه ، ولم تظهر لهم خصائصه ، كي ينطلقوا معه كقائم بالإمامة .ولعدم وجود العدد اللازم من الأعوان والأنصار ، بالقدر الكافي لإعداد حركة
(99) يلاحظ أن كلمة ( الناس ) في حديث أهل البيت :خاصة يطلق على غير المعتقدين بالإمامة ، في أغلب الأحيان .(100) فرحة الغري ، لابن طاوس ( ص 43 ) الإمام زين العابدين ، للمقرّم ( ص 42 ) ولاحظ الكافي للكليني ، قسم الروضة ( ص 255 ) حيث جاء فيها حديث زيارة الإمام السجاد لقبر أمير المؤمنين عليه السلام ولقاء أبي حمزة الثمالي له ، فليلاحظ .
ص62
مستقلة يعلنها الإمام ، وحفاظاً على العدد الضئيل الباقي على ولائه للإمام .فقد بنى الإمام زين العابدين عليه السلام سياسته ، في ابتدأ إمامته على أساس الابتعاد عن الناس ، ودعوتهم إلى الابتعاد عنه عليه السلام .وقد أعلن الإمام عن هذه السياسة ، في أول لقاء له مع مجموعة من شيعته ومواليه في الكوفة ، عندما عرضوا عليه ولاهم ، وقالوا له بأجمعهم :نحن كلنا يابن رسول الله ، سامعون ، مطيعون ، حافظون لذمامك ، غير زاهدين فيك ولا راغبين عنك ، فمرنا بأمرك ، رحمك الله ، فإنّا حرب لحربك ، وسلم لسلمك ، لنأخذنّ تِرَتك وتِرَتنا ممن ظلمك وظلمنا .فقال عليه السلام :هيهات ...ومسألتي أن لا تكونوا لنا ولا علينا (101) .إن الإمام عليه السلام أخذ عليهم ، سائلا ، أن يأخذوا في تلك الفترة جانب الحياد تجاه أهل البيت عليهم السلام ، لا لهم ، ولا عليهم .إذ ، لو رأت السلطة أدنى تجمّع حول الإمام عليه السلام ، لاتّخذَت ذلك مبرراً لها أن تستأصل وجوده ومن معه ، فإنّ من الهيّن عليها قتل علي بن الحسين وهو ضعيف ، بعد أن قتلت الحسين عليه السلام وهو أقوى موقعاً في الأمة .كان مغزى هذا التدبير السياسي المؤقّت :أن لا يبقى الإمام عليه السلام داخل المدينة ، حتّى لا تلاحقه أوهام الدولة وتخمينات رجالها وحتّى يبتعد عن ظنونهم السيئة ، بل خرج إلى فضاء البادية المفتوح ، وخارج البلد ، يسكن في بيت من ( شَعْرٍ ) ليرفع عن نفسه سهام الريب ، ويدفع عن ساحته اهتمام رجال الدولة ، كوارث للشهداء .