فصل
وممّا يدلّ على بطلان مذهبكم :ما روى مسلم(120) في صحيحه عن جابر بن عبدالله ، عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: إنّ الشيطان قد أيس أن يعبده المصلّون في جزيرة العرب ، ولكن في التحريش بينهم .وروى الحاكم(121) ـ وصحّحه ـ وأبو يعلى ، والبيهقيّ عن ابن مسعود ، قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ الشيطان قد يئس أن تُعبد الأصنام بأرض العرب ، ولكن رضي منهم بما دون ذلك ، بالمحقّرات ، وهي الموبقات .وروى الإمام(122) أحمد ، والحاكم ـ وصحّحه ـ وابن ماجة عن شدّاد بن أوس ، قال سمعتُ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: أتخوّف على أمّتي الشرك .قلت: يا رسول الله ، أتشرك أمّتك بعدك؟ قال: نعم ، أما إنّهم لا يعبدون شمساً ، ولا قمراً ، ولا وثناً ، ولكن يراؤون بأعمالهم ، إنتهى.أقول: وجه الدلالة منه ـ كما تقدّم ـ أنّ الله سبحانه أعلم نبيّه من غيبه بما شاء ، وبما هو كائنٌ إلى يوم القيامة ، وأخبر(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ الشيطان قد أيس أن يعبده المصلّون في جزيرة العرب.وفي حديث ابن مسعود : أيس الشيطان أن تُعبد الأصنام بأرض العرب .وفي حديث شدّاد: أنّهم لا يعبدون وثناً .وهذا بخلاف مذهبكم .فإنّ البصرة وما حولها ، والعراق من دون دجلة ـ الموضع الذي فيه قبر عليّ وقبر الحسين رضي الله تعالى عنهما ـ .وكذلك اليمن كلّها .والحجاز كلّ ذلك من أرض العرب .ومذهبكم أنّ المواضع كلّها عُبد الشيطان فيها ، وعُبدت الأصنام ، وكلّهم كفّار ، ومن لم يكفّرهم فهو عندكم كافر .وهذه الأحاديث تردّ مذهبكم .هذا ، ولا يقال: إنّه قد وُجد بعض الشرك بأرض العرب زمن الردّة .فإنّ ذلك زال في آن يسير ، فهو كالأمر الذي عَرَض ، لا يعتدّ به ، كما [لو[ أنّ رجلا أو أكثر من أهل الكفر دخل أرض العرب ، وعَبَد غير الله في موضع خال ، أو خُفْيةً .فأمّا هذه الأمور التي تجعلونها شركاً أكبر وعبادة الأصنام! فهي ملأت بلاد العرب من قرون متداولة .فتبيّن بهذه الأحاديث فساد قولكم : إنّ هذه الأمور هي عبادة الأوثان الكبرى .وتبيّن أيضاً بطلان قولكم: إنّ الفرقة الناجية قد تكون في بعض أطراف الأرض ، ولا يأتي لها خبرٌ .فلو كانت هذه عبادة الأصنام ، والشرك الأكبر لقاتل أهلَه الفرقةُ الناجيةُ المنصورون الظاهرون إلى قيام الساعة .وهذا الذي ذكرناه واضحٌ جليٌّ ، والحمد لله ربّ العالمين.ومن العجب أنّكم تزعمون : أنّ هذه الأمور ـ أي القبور ، وما يعمل عندها ، والنذور ـ هي عبادة الأصنام الكبرى .وتقولون: إنّ هذا أمر واضحٌ جليٌّ ، يُعرف بالضرورة حتّى اليهود والنصارى يعرفونه!فأقول ـ جواباً لكم عن هذا الزعم الفاسد ـ : سبحانك هذا بهتانٌ عظيم .قد تقدّم ـ مراراً عديدةً ـ أنّ الأمّة بأجمعها على طبقاتها من قُرب ثمانمائة سنة ملأت هذه القبورُ بلادَها ، ولم يقولوا : هذه عبادة الأصنام الكبرى .ولم يقولوا : إنّ من فعل شيئاً من هذه الأمور فقد جعل مع الله إلهاً آخر .ولم يجروا على أهلها حكم عُبّاد الأصنام ، ولا حكم المرتدّين أيّ رِدّة كانت.فلو أنّكم قلتم: إنّ اليهود ـ لأنّهم قومٌ بُهت ، وكذلك النصارى ، ومن ضاهاهم في بَهت هذه الأمّة من مبتدعة الأمّةِ ـ يقولون: إنّ هذه عبادة الأصنام الكبرى .لقلنا : صدقتم ، فما ذلك من بهتهم ، وحسدهم ، وغلوّهم ، ورميهم الأمّة بالعظائم بكثير .ولكنّ الله سبحانه وتعالى مُخزيهم ، ومظهر دينه على جميع الأديان بوعده : {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون}(123) .ولكن أقول: صدق رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث دعا للمدينة وما حولها ، ولليمن ، وقال له من حَضَره: ونجد ، فقال: هناك الزلازل والفتن .أما والله ، لفتنة الشهوات فتنةٌ ، والظلمة التي يعرف كلّ خاصّ وعامّ من أهلها أنّها من الظلم والتعدّي، وإنّها خلاف دين الإسلام، وأنّه يجب التوبة منها ، أنّها أخفّ بكثير من فتنة الشبهات التي تضلّ عن دين الإسلام، ويكون صاحبها من {الأخسرين أعمالا الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً}(124).وفي الحديث الصحيح(125): هلك المتنطعون ـ قالها ثلاثاً ـ .فإنّا لله وإنّا إليه راجعون .أنقذنا الله وإياكم من الهلكة ، إنّه رحيمٌ.
فصل
وممّا يدلّ على بطلان مذهبكم :ما أخرجه الإمام أحمد(126) ، والترمذيّ ـ وصحّحه ـ والنسائي ، وابن ماجة من حديث عمرو بن الأحوص ، قال سمعتُ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في حجّة الوداع: ألا إنّ الشيطان قد أيس أن يُعبد في بلدكم هذا أبداً ، ولكن ستكون له طاعة في بعض ما تحقّرون من أعمالكم ، فيرضى بها .وفي صحيح الحاكم(127) عن ابن عبّاس أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) خطب في حجّة الوداع ، فقال: الشيطان قد أيس أن يُعبد في أرضكم ، ولكن يرضى أن يُطاع فيما سوىذلك ، فيما تحقّرون من أعمالكم ، فاحذروا أيّها الناس ، إنّي تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لم تضلّوا أبداً ، كتاب الله وسُنّة نبيّه ، إنتهى.وجه الدلالة: أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أخبرفي هذا الحديث الصحيح أنّ الشيطان يئس أن يُعبد في بلد مكّة ، وأكّد ذلك بقوله: (أبداً) لئلاّ يتوهّم متوهّمٌ أنّه حدث ثم يزول .وهذا خبرٌ منه(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهو لا يخبر بخلاف ما يقع .وأيضاً بُشرى منه(صلى الله عليه وآله وسلم) لأمّته ، وهو لا يبشّرهم إلاّ بالصدق .ولكنّه حذّرهم ما سوى عبادة الأصنام ، لا ما يحتقرون .وهذا بيّن واضحٌ من الحديث.وهذه الأمور التي تجعلونها الشرك الأكبر وتسمّون أهلها عُبّاد الأصنام أكثر ما تكون بمكّة المشرّفة .وأهل مكّة المشرّفة ـ أُمراؤها ، وعلماؤها ، وعامّتها ـ على هذا من مدّة طويلة أكثر من ستمائة عام .ومع هذا هم الآن أعداؤكم ، يسبّونكم ويلعنونكم لأجل مذهبكم هذا! وأحكامهم وحُكّامهم جارية ، وعلماؤها وأمراؤها على إجراء أحكام الإسلام على أهل هذه الأمور التي تجعلونها الشرك الأكبر!فإن كان ما زعمتم حقّاً فهم كفّار كفراً ظاهراً .وهذه الأحاديث تردّ زعمكم ، وتبيّن بطلان مذهبكم هذا .وقد قال(صلى الله عليه وآله وسلم) في الأحاديث التي في الصحيحين(128) وغيرهاـ بعد فتح مكّة وهو بها ـ «لا هجرة بعد اليوم» .وقد بيّن أهل العلم أنّ المراد لا هجرة من مكّة .وبيّنوا أيضاً أنّ هذا الكلام منه(صلى الله عليه وآله وسلم) يدلّ على أنّ مكّة لا تزال دار إيمان .بخلاف مذهبكم ، فإنّكم توجبون الهجرة منها إلى بلاد الإيمان ـ بزعمكم ـ التي سمّـاها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بلاد الفتن .وهذا واضحٌ جليٌّ صريحٌ لمن وفّقه الله ، وترك التعصّب والتمادي على الباطل ، والله المستعان ، وعليه التكلان.