فصل
وممّا يدلّ على عدم صحّة مذهبكم .ما رواه البيهقيّ(108) وابن عديّ وغيرهم ، عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: يحمل هذا العلم من كلّ خَلَف عدو له ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين.قال في (الآداب)(109) هنا : سألت أحمد عن هذا الحديث ، قال: صحيح ، إنتهى.قال ابن القيّم : هذا حديث روي من وجوه يشدّ بعضها بعضاً.ووجه الدليل منه: أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وصف حَمَلَة علمه الذي بعثه الله به أنّهم عدولٌ ، كلّ طبقة من طبقات الأمّة .وقد تقدّم مراراً : أنّ هذه الأفاعيل التي تجعلون مَنْ فعلها كافراً موجودةٌ في الأمّة وجوداً ظاهراً من أكثر من سبعمائة عام ، بل قد ذكر ابن القيّم أنّها ملأتالأرض ، وأخبر أنّ في الشام وغيره من بلاد المسلمين ، بل في كلّ بلد منها عِدّةٌ .وأخبر بأمور عظيمة هائلة تعمل عندها من السجود للقبور ، والذبح لها ، وطلب تفريج الكُرُبات ، وإغاثة اللهفان من أهلها ، والنذور ، وغير ذلك.ثمّ أقسم أنّه مقتصرٌ فيما حكى عنهم ، وأنّ فعلهم أعظم وأكثر ممّا ذكره ، وقال : لم نستقص ذكر بدعتهم ، وشرّهم .ومع هذا لم يجرِ عليهم ـ ولا أحدٌ من أهل العلم من طبقته ولا الطبقات قبله ولا بعده من جميع أهل العلم الذين وصفهم(صلى الله عليه وآله وسلم)بالعدالة ، وبحفظ الدين عن غلوّ الغالين ، وتأويل الجاهلين ، وانتحال المبطلين ـ لم يجرِ عليهم أحدٌ منهم الكفر الظاهر ، ولم يسمّوا بلاد المسلمين بلاد كفّار ، ولا غَزَوا البلاد والعباد وسمّوهم مشركين!!!هذا ، وهم القائمون بنصرة الحقّ ، وهم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة .بل ، ذكر ابن القيّم : أنّ هذه الأفاعيل ـ التي تكفّرون بها ، بل تكفّرون من لا يكفّر بها ، بل تزعمون أنّها عبادة الأصنام الكبرى ـ كثرت في بلاد الإسلام حتّى قال: فما أعزّ من تخلّص من هذا ، بل أعزّ من لا يعادي من أنكره!فذكر ; أنّ غالب الأمّة تفعله ، والذي لا يفعله ينكر على من أنكره ، ويعاديه إذا أنكره .فلو كان ما ذهبتم إليه حقّاً ، لكانت جميع الأمّة ـ والعياذ بالله ـ كلّها أشركت بالله الشرك الأكبر ، وحسّنت فعله ، وأنكرت على من أنكره من قبل زمن ابن القيّم .فحينئذ يردّ قولكم هذا الحديث ، والحديث الذي قبله ، والأحاديث التي تأتي إن شاء الله تعالى .وهذا بيّن واضحٌ لمن وُفّق ، والحمد لله.فصلوممّا يدلّ على بطلان مذهبكم :ما ورد في الصحيحين(110) عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)أنّه قال: لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحقّ ، لا يضرّهم من خذلهم ، ولا من خالفهم إلى يوم القيامة.قال الشيخ تقيّ الدين ـ لمّا ذكر هذا الحديث ـ : كانت هذه الأمّة كما أخبر به(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: لا تزال فيها طائفة منصورة ، ظاهرة بالعلم والسيف ، لم يصبها ما أصاب مَن قبلها من بني إسرائيل وغيرهم ، حيث كانوا مقهورين مع الأعداء .بل ، إن غلبت في قُطر من الأرض كانت في القطر الآخر أمّة ظاهرة منصورة .ولم يسلّط على مجموعها عدوّاً من غيرهم ، ولكن يقع بينهم اختلاف وفتن.قال: ومذهب أهل السُنّة والجماعة ظاهرون أهله إلى يوم القيامة ، وهم الذين قال فيهم النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): لا تزال طائفة من أمّتي ـ الحديث ، إنتهى.أقول: وجه الدلالة من هذا الحديث: أنّ هذه الطائفة التي ذكرها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)ظاهرة ، ليست بخفيّة .كما يُزعم عندكم!وأيضاً منصورة ليسوا بأذلاّء مختفين .وأيضاً ماخلت بلاد الإسلام منهم يوماً .وأيضاً ـ كما قال الشيخ ـ لم يسلّط عليهم الأعداء وتقهرهم.فإذا كانت هذه أوصافهم بنصّ الصادق المصدوق ، فكيف؟ وهذه الأمور التي تكفّرون بها ملأت بلاد الإسلام من أكثر من سبعمائة عام؟وأنتم تزعمون أنّ هذه عبادة غير الله .وأنّ هذه الوسائط المذكورة في القرآن .ومع هذا لم يذكر في زمن من الأزمان أنّ أحداً قال ماقلتم ، أو عمل ما عملتم .بل ما تجدون ما تحتجّون لشبهتكم إلاّ أنّ عليّاً قتل من قال : «أنت الله» ، وأنّ الصدّيق قاتل أهل الردّة.أو بعبارة مجملة: يعرف كلّ من له ممارسة في العلم ، أنّ مفهومكم هذا منها ضحكة .فالحمد لله على زوال الالتباس والاشتباه.أما والله ، إنّ هذا الحديث وحده يكفي في بطلان قولكم ـ لو كان ثَمّ أذُنٌ واعية ـ .نسأل الله أن ينقذكم من الهلكة ، إنّه جوادٌ كريم.
فصل
وممّا يدلّ على بطلان مذهبكم :ما في الصحيحين(111) عن أبي هريرة(رضي الله عنه) ، عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: رأس الكفر نحو المشرق ، وفي رواية: الإيمان يمانيّ ، والفتنة من هاهنا ، حيث يطلع قَرْن الشيطان .وفي الصحيحين(112) أيضاً ، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه ، عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)أنّه قال وهو مستقبل المشرق ـ : إنّ الفتنة هاهنا.وللبخاريّ(113) عنه مرفوعاً: اللهمّ بارك لنا في شأمنا ويمننا ، اللهمّ بارك لنا في شأمنا ويمننا ، قالوا: وفي نجدنا ، قال الثالثة: هناك الزلازل ، والفتن ، ومنها يطلع قرن الشيطان .ولأحمد(114) من حديث ابن عمر مرفوعاً: اللهمّ بارك لنا في مدينتنا ، وفي صَاعِنا ، وفي مُدّنا ، ويَمَننا ، وشأمنا ، ثمّ استقبل مطلع الشمس ، فقال: هاهنا يطلع قرن الشيطان ، وقال: من هاهنا الزلازل والفتن . إنتهى.أقول: أشهد أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لَصادقٌ ، فصلوات الله وسلامه وبركاته عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، لقد أدّى الأمانة ، وبلّغ الرسالة.قال الشيخ تقيّ الدين: فالمشرق عن مدينته(صلى الله عليه وآله وسلم) شرقاً ، ومنها خرج مسيلمة الكذّاب الذي ادّعى النبوّة ، وهو أوّل حادث حدث بعده ، واتّبعه خلائق ، وقاتلهم خليفته الصدّيق ، إنتهى.وجه الدلالة من هذا الحديث من وجوه كثيرة نذكر بعضها :منها : أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ذكر أنّ الإيمان يمانيّ ، والفتنة تخرج من المشرق ، ذكرها مراراً.ومنها : أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) دعا للحجاز وأهله مراراً ،وأبى أن يدعو لأهل المشرق ، لمِا فيهم من الفتن خصوصاً نجد.ومنها : أنّ أوّل فتنة وقعت بعده(صلى الله عليه وآله وسلم) وقعت بأرضنا هذه(115) .فنقول: هذه الأمور التي تجعلون المسلم بها كافراً ، بل تكفّرون من لم يكفّره ملأت مكّة ، والمدينة ، واليمن من سنين متطاولة ، بل بلغنا أنّ ما في الأرض أكثر من هذه الأمور في اليمن ، والحرمين.وبلدنا هذه هي أوّل ما ظهر فيها الفتن ، ولا نعلم في بلاد المسلمين أكثر من فتنها قديماً وحديثاً .وأنتم الآن مذهبكم : أنّه يجب على العامّة اتّباع مذهبكم ، وأنّ من اتّبعه ـ ولم يقدر على إظهاره في بلده وتكفير أهل بلده ـ وجب عليه الهجرة إليكم ، وأنـّكم الطائفة المنصورة .وهذا خلاف هذا الحديث.فإنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أخبره الله بما هو كائنٌ على أمّته إلى يوم القيامة .وهو(صلى الله عليه وآله وسلم)أخبر بما يجري عليهم ومنهم .فلو علم أنّ بلاد المشرق ـ خصوصاً نجد بلاد مُسَيْلمة! ـ أنّها تصير دار الإيمان! وأنّ الطائفة المنصورة تكون بها! وأنّها بلادٌ يظهر فيها الإيمان ويخفى في غيرها! وأنّ الحرمين الشريفين واليمن تكون بلاد كفر تُعبد فيها الأوثان! وتجب الهجرة منها!لأخبر بذلك ، ولدعا لأهل المشرق ـ خصوصاً نجد ـ ولدعا على الحرمين واليمن ، وأخبر أنّهم يعبدون الأصنام ، وتبرّأ منهم .إذ لم يكن إلاّ ضدّ ذلك ، فإنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) عمّ المشرق ، وخصّ نجد بأنّ منها يطلع قرن الشيطان ، وأنّ منها وفيها الفتن ، وامتنع من الدعاء لها .وهذا خلاف زعمكم .وإنّ اليوم ـ عندكم ـ الذين دعا لهم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)كفّار!والذين أبى أن يدعو لهم ، وأخبر أنّ منها يطلع قرن الشيطان ، وأنّ منها الفتن هي بلاد الإيمان ، تجب الهجرة إليها .وهذا بيّنٌ واضحٌ من الأحاديث إن شاء الله.