فصل
اعلم أن الشّبه إذا انتُزع من الوصف لم يَخْلُ من وجهين أحدهما أن يكون لأمرٍ يرجع إلى نفسه والآخر أن يكون لأمر لا يرجع إلى نفسه، فالأوّل ما مضى في نحو تشبيه الكلام بالعسل في الحلاوة، وذلك أنّ وجه التشبيه هناك أنّ كل واحد منهما يوجب في النفس لَذّة وحالة محمودةً، ويصادف منها قبولاً، وهذا حُكْمٌ واجب للحلاوة من حيث هي حلاوة، أو للعسل من حيث هو عسل، وأما الثاني وهو ما يُنتزع منه الشبه لأمرٍ لا يرجع إلى نفسه، فمثاله أن يتعدَّى الفعل إلى شيء مخصوص يكون له من أجله حُكمٌ خاصٌّ، نحوَ كونه واقعاً في موقعه وعلى الصواب، أو واقعاً غير موقعه، كقولهم هو كالقابض على الماء والراقم في الماء، فالشبهُ ها هنا منتزع مِمّا بين القَبْض والماء، وليس بمنزع من القبض نَفْسه، وذلك أن فائدة قبض اليد على الشيء أن يحصل فيها، فإذا كان الشيء مما لا يتماسك، ففعلك القبضَ في اليد لغوٌ وكذلك القصد في الرَّقْم أن يبقَى أثرٌ في الشيء، وإذا فعلتَه فيما لا يقبله، كان فعلُك كلا فعلٍ وكذلك قولهم: يضرب في حديد بارِدٍ و ينفخ في غَيْرِ فَحَمٍ، وإذا ثبت هذا فكل شَبهِ كان هذا سبيلهُ، فإنك لا تجد بين المعنى المذكور وبين المشَّبه إذا افردته، ملابسةً البتة، ألاتراك تَضْرِب الرّقم في الماء والقَبْضَ عليه، لأمور لا شبَهَ بينهما وبينها البتة، من حيث هُما رَقْمٌ وقبضٌ، وإذا قد عرفتَ هذا فالحمل في الآٍية من هذا القبيل أيضاً، لأنه تضمّن الشَّبه من اليهود، لا لأمرٍ يرجع إلى حقيقة الحمل، بل لأمرين آخرين: أحدُهما تعدّيه إلى الأسفار، والآخر اقتران الجهل للأسفار به، وإذا كان الأمر كذلك، كان قَطْعُك الحملَ عن هذين الأمرين في البُعد من الغرض، كقَطْعكَ القَبْض والرَّقْم عن الماء، في استحالة أن يُعقَل منها ما يُعقَل بعد تعدّيهما إلى الماء بوجه من الوجوه فاعرفه. فإن قلت: ففي اليهود شبهٌ من الحمل، من حيث هو حملٌ على حالٍ، وذلك أن الحافظ للشيءِ بقلبه، يُشبه الحاملَ للشيءِ على ظهره، وعلى ذلك يقال: حَمَلةُ الحديث، وحَمَلةُ العلم كما جاء في الأثر: يحمِلُ هذا العلمَ من كُلّ خَلَفٍ عُدولُهُ، ورُبَّ حَامِل فقهِ إلى مَن هو أفقه منه، فالجواب أن الأمر وإن كان كذلك، فإنّ هذا الشبه لم يُقصَد ها هنا وإنما قُصد ما يوجبه تعدِّي الحملِ إلى الأسفار، مع اقتران الجهل بها به، وهو العناء بلا منفعة، يُبيِّن ذلك: أنك قد تقول للرجل يحمل في كُمّه أبداً دفاتر علمٍ، وهو بليد لا يفهم، أو كسلان لا يتعلم: إن كان يحمل كُتُب العلم فالحمار أيضاً قد يحمل، تريد أن تُبطل دعواه أن له في حمله فائدة، وأن تسوَّيَ بينه وبين الحمار في فقد الفائدة مما يحمل، فالحمل ها هنا نفسه موجود في المشبَّه بالحمار، ثم التشبيه لا ينصرف إليه من حيث هو حملٌ، وإنما ينصرف إلى ما ذكرت لك من عدم الجدوى والفائدة، وإنما يُتَصوّر أن يكون الشَّبه راجعاً إلى الحمل من حيث هو حمل، حيث يوصف الرجل مثلاً بكثرة الحفظ للوظائف، أو جَهْد النفس في الأشغال المتراكمة، وذلك خارجٌ عن الغرض مما نحن فيه، ومن هذا الباب قولهم: أخذ القوسَ باريها، وذلك أن المعنى على وقوع الأخذِ في موقعه ووجودهِ من أهله، فلستَ تُشبّهه من حيث الأخْذُ نفسُه وجنسه، ولكن من حيث الحكمُ الحاصلُ له بوقوعه من باري القوس على القوس، وكذلك قولهم: ما زال يَفْتِل منه في الذِّرْوةِ والغارب الشبه مأخوذٌ ما بين الفتل وما تَعدَّى إليه من الذِّروة والغارب، ولو أفردته لم تجد شبهاً بينه وبين ما يُضرَب هذا الكلام مثلاً له، لأنه يُضرَب في الفِعْل أو القول يُصرَف به الإنسان عن الامتناع إلى الإجابة، وعن الإباء عليك مُرادك، إلى موافقتك والمصير إلى ما تريد منه، وهذا لا يُوجَد في الفتل من حيث هو فتلٌ، وإنما يوجد في الفتل إذا وقع في الشَّعر من ذروة البعير وغَاربه، واعلم أن هذا الشبه حُكْمُهُ واحدٌ، سواءٌ أخذته ما بين الفعل والمفعول الصريح، أو ما يجري مجرى المفعول، فالمفعول كالقوس في قولك: أخذ القوسَ باريها، وما يجري مجرى المفعول، الجارُّ مع المجرور، كقولك: الرَّقم في الماء وهو كمن يخطّ في الماء، وكذلك الحال، كقولهم: كالحادي وليسَ له بَعيرٌ، فقولك: وليس له بعير، جملة من الحال، وقد احتاج الشبه إليها، لأنه مأخوذ ما بين المعنى الذي هو الحدو، وبين هذه الحال، كما كان مأخوذاً بين الرقم والماء، وما بين الفتل والذروة والغارب، وقد تجد بك حاجةً إلى مفعول و إلى الجارّ مع المجرور كقولك: وهل يُجمَع السيفَان في غِمد، وأنت كمن يجمع السيفين في غِمد، ألا ترى أن الجمع فيه لا يُغني بتعدّيه إلى السيفين، حتى يُشترط كونه جمعاً لهما في الغمد? فمجموع ذلك كله يُحصِّل الغَرَضَ، وهكذا نحو قول العامّة: هو كثير الجَوْر على إلْفه، وقولهم: كَمُبْتَغِي الصَّيدَ في عِرِّيسةِ الأسد، لأن الصيدَ مفعول و في عِرِّيسةِ جارٌّ مع المجرور، فإذا ثبت هذا ظهر منهُ أنه لا بدَّ لك في هذا الضرب من الشَّبَه من جملة صريحة أو حكم الجملة، فالجملة الصريحة قولك: أخذَ القوسَ باريها وحكم الجملة أن تقول: هذا منك كالرَّقم في الماء، و كالقابض على الماء، فتأتي باسم الفاعل، وذَاك أنّ المصدر واسمَ الفاعل ليسَا بجُملتين صريحاً ولكن حكم الجملة قائم فيهما، وهو أنك أعملتهما عَمَل الفعل، ألا ترى أنك عدَّيتهما على حسب ما تعدَّى الفعل? وخصائص هذا النوع من التمثيل أكثر من أن تضبط، وقد وقفتك على الطريقة،دو، وبين هذه الحال، كما كان مأخوذاً بين الرقم والماء، وما بين الفتل والذروة والغارب، وقد تجد بك حاجةً إلى مفعول و إلى الجارّ مع المجرور كقولك: وهل يُجمَع السيفَان في غِمد، وأنت كمن يجمع السيفين في غِمد، ألا ترى أن الجمع فيه لا يُغني بتعدّيه إلى السيفين، حتى يُشترط كونه جمعاً لهما في الغمد? فمجموع ذلك كله يُحصِّل الغَرَضَ، وهكذا نحو قول العامّة: هو كثير الجَوْر على إلْفه، وقولهم: كَمُبْتَغِي الصَّيدَ في عِرِّيسةِ الأسد، لأن الصيدَ مفعول و في عِرِّيسةِ جارٌّ مع المجرور، فإذا ثبت هذا ظهر منهُ أنه لا بدَّ لك في هذا الضرب من الشَّبَه من جملة صريحة أو حكم الجملة، فالجملة الصريحة قولك: أخذَ القوسَ باريها وحكم الجملة أن تقول: هذا منك كالرَّقم في الماء، و كالقابض على الماء، فتأتي باسم الفاعل، وذَاك أنّ المصدر واسمَ الفاعل ليسَا بجُملتين صريحاً ولكن حكم الجملة قائم فيهما، وهو أنك أعملتهما عَمَل الفعل، ألا ترى أنك عدَّيتهما على حسب ما تعدَّى الفعل? وخصائص هذا النوع من التمثيل أكثر من أن تضبط، وقد وقفتك على الطريقة، فهذا أحد الوجوه التي يكون الشَّبه العقلي بها حاصلاً لك من جملة من الكلام، وأظنّه من أقوى الأسباب والعِلَل فيه، وعلى الجملة، فينبغي أن تعلم أن المثَل الحقيقي، والتشبيه الذي هو الأوْلَى بأن يسمَّى تمثيلاً لبُعده عن التشبيه الظاهر الصريح، ما تجدُه لا يحصل لك إلا من جملة من الكلام أو جملتين أو أكثر، حتى إنّ التشبيه كلما كان أوغل في كونه عقليّاً محضاً، كانت الحاجة إلى الجملة أكثر، ألا ترَى إلى نحو قوله عزَّ وجلَّ: "إنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَِّا يَأْكُلُ النَّاسُ والأنْعَامُ حَتَّى إذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنُّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أتَاهَا أمْرُنَا لَيْلاً أوْ نهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْس" "يونس:42"، كيف كثُرت الجُمل فيه? حتى إنك تَرَى في هذه الآية عَشْرَ جمل إذا فُصِّلت، وهي وإن كان قد دخل بعضُها في بَعْض حتى كأنها جملةٌ واحدة، فإن ذلك لا يمنعُ من أن تكون صُور الجمل معنا حاصلةً تشير إليها واحدةً واحدةً، ثم إنّ الشَبَه مُنْتَزع من مجموعها، من غير أن يمكن فَصْلُ بعضها عن بعض، وإفرادُ شطر من شطر، حتى إنك لو حذفت منها جملةٌ واحدةٌ من أيّ موضع كان، أخلَّ ذلك بالمغزى من التشبيه، ولا ينبغي أن تعدَّ الجُمل في هذا النحو بعَدِّ التشبيهات التي يُضَمّ بعضها إلى بعض، والأغْراض الكثيرة التي كل واحدٍ منها منفردٌ بنفسه، بل بعدّ جُمَلٍ تُْنسَق ثانيةٌ منها على أوَّلةٍ، وثالثةٌ على ثانية، وهكذا، فإنّ ما كان من هذا الجنس لم تترتّب فيه الجمل ترتيباً مخصوصاً حتى يجب أن تكون هذه سابقةً وتلك تالية والثالثة بعدهما، ألا ترى أنك إذا قلت: زيد كالأسد بأساً، والبحر جُوداً، والسيفِ مضاءً، والبدرِ بَهَاءً، لم يجب عليك أن تحفظ في هذه التشبيهات نِظاماً مخصوصاً? بل لو بدأتَ بالبدر وتشبيهه به في الحسن، وأخّرتَ تشبيهه بالأسد في الشجاعة، كان المعنى بحاله، وقولُهُ:
النَّشْرُ مِسْكٌ والوجوهُ دنـا
نيرُ وأطْرَافُ الأكُفِّ عَنَمْ
نيرُ وأطْرَافُ الأكُفِّ عَنَمْ
نيرُ وأطْرَافُ الأكُفِّ عَنَمْ
كما أَبْرقَتْ قوماً عِطَاشَاً غمامةٌ
فلما رَجَوها أقْشَعَتْ وتَجَلَّـتِ
فلما رَجَوها أقْشَعَتْ وتَجَلَّـتِ
فلما رَجَوها أقْشَعَتْ وتَجَلَّـتِ