مَا الحُبُّ إلاّ للحبيب الأوَّلِ - أسرار البلاغة نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

أسرار البلاغة - نسخه متنی

عبدالقاهر بن عبدالرحمن الجرجانی؛ تحقیق: محمد الفاضلی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

مَا الحُبُّ إلاّ للحبيب الأوَّلِ

ومعلومٌ أن العلم الأوّل أتى النفسَ أوّلاً من طريق الحواسّ والطباع، ثم من جهة النظر والرَّويَّة، فهو إذَنْ أمسُّ بها رَحِماً، وأقوى لديها ذِمَماً، وأقدم لها صُحْبة، وآكدُ عندها حُرمة وإذْ نقلتَها في الشيء بمَثَله عن المُدرَك بالعقل المحض وبالفكرة في القلب، إلى ما يُدرَك بالحواسّ أو يُعلَم بالطَّبع، وعلى حدّ الضرورة، فأنت إذن مع الشاعر وغير الشاعر إذا وقع المعنى في نفسك غيرَ ممثَّلٍ ثم مَثَّلَه كمن يُخبر عن شيء من وراء حجاب، ثم يكشف عنه الحجاب ويقول: ها هو ذا، فأبصِر تجده على ما وصفتُ. فإن قلت إن الأُنْس بالمشاهدة بعد الصفة والخبر، إنما يكون لزَوال الرَّيْب والشكّ في الأكثر، أفتقول إن التمثيل إنما أُنِسَ به، لأنه يصحّح المعنى المذكور والصفة السابقة، ويُثبت أن كونَها جائزٌ ووجودَها صحيحٌ غيرُ مستحيل، حتى لا يكون تمثيلٌ إلا كذلك، فالجواب إن المعاني التي يجيء التمثيل في عَقِبها على ضربين غريب بديع يمكن أن يخالَف فيه، ويُدَّعَى امتناعُه واستحالُة وجوده، وذلك نحو قوله:




  • فإن تَفُقِ الأنَامَ وأنت منـهـم
    فَإنَّ المِسكَ بعضُ دَمِ الغَزَالِ



  • فَإنَّ المِسكَ بعضُ دَمِ الغَزَالِ
    فَإنَّ المِسكَ بعضُ دَمِ الغَزَالِ



وذلك أنه أراد أنه فاق الأنام وفاتهم إلى حدٍّ بَطَل معه أن يكون بينه وبينهم مشابهةٌ ومقاربةٌ، بل صار كأنه أصلٌ بنفسه وجنسٌ برأسه، وهذا أمرٌ غريب، وهو أن يتناهى بعض أجزاء الجنس في الفضائل الخاصّة به إلى أن يصير كأنه ليس من ذلك الجنس، وبالمدَّعِي له حاجة إلى أن يصحّح دعواه في جواز وجوده على الجملة إلى أن يجيء إلى وجوده في الممدوح، فإذا قال: فإن المسك بعض دم الغزال، فقد احتجّ لدعواه، وأبان أن لما ادّعاه أصلاً في الوجود، وبرّأ نفسه من ضَعَة الكذب، وباعَدها من سَفَه المُقدِم على غير بصيرة، والمتوسِّع في الدعوى من غير بيّنة، وذلك أن المسك قد خرج عن صفة الدم وحقيقته، حتى لايُعَدُّ في جنسه، إذ لا يوجد في الدم شيء من أوصافه الشريفة الخاصة بوجه من الوجوه، لا ما قلّ ولا ما كثُر، ولا في المسك شيء من الأوصاف التي كان لها الدم دماً البتة. والضرب الثاني أن لا يكون المعنى الممثَّل غريباً نادراً يُحتاج في دعوى كونه على الجملة إلى بيّنة وحُجّة وإثبات، نظير ذلك أن تنفيَ عن فعل من الأفعال التي يفعلها الإنسان الفائدة، وتدَّعِيَ أنه لا يحصل منه على طائل، ثم تمثّله في ذلك بالقابض على الماء والرَّاقم فيه، فالذي مثّلتَ ليس بمنكرٍ مستبعَدٍ، إذ لا يُنكَر خطأ الإنسان في فعله أو ظنّه وأمله وطَلَبه، ألا ترى أن المَغْزَى من قوله:




  • فأصبحتُ من لَيْلَى الغداةَ كقابضٍ
    على الماءِ خَانَتْهُ فُروجُ الأصابِعِ



  • على الماءِ خَانَتْهُ فُروجُ الأصابِعِ
    على الماءِ خَانَتْهُ فُروجُ الأصابِعِ



أنَّه قد خاب في ظنّه أن يتمتّع بها ويَسْعَد بوصلها، وليس بمنكر ولا عجيب ولا ممتنع في الوجود، خارج من المعروف المعهود، أن يخيب ظنُّ الإنسان في أشباه هذا من الأمور، حتى يُستشهَدَ على إمكانه، وتُقام البيّنة على صدق المدَّعِي لوِجْدَانه، وإذا ثبت أن المعاني الممثَّلة تكون على هذين الضربين، فإن فائدة التمثيل وسببَ الأُنس في الضرب الأول بَيّنٌ لائح، لأنه يُفيد فيه الصِّحة وينفي الرَّيْب والشكَّ، ويُؤْمِن صاحبه من تكذيب المخالِف، وتهجُّم المنكرِ، وتَهَكُّم المعترض، وموازنتُه بحالة كَشْفِ الحجاب عن الموصوف المُخبَرِ عنه حتى يُرَى ويُبصرَ، ويُعلَم كونهُ على ما أثبتته الصِّفة عليه موازنةٌ ظاهرة صحيحة، وأمّا الضرب الثاني فإن التمثيل وإن كان لا يفيد فيه هذا الضرب من الفائدة، فهو يفيد أمراً آخَرَ يجري مجراه، وذلك أن الوصفَ كما يحتاج إلى إقامة الحجة على صحة وجوده في نفسه، وزيادةِ التثبيتِ والتقرير في ذاته وأصله، فقد يحتاج إلى بيانِ المقدار فيه، ووضعِ قياس من غيره يكشِف عن حَدّه ومبلغِه في القوة والضعفِ والزيادةِ والنقصانِ، وإذا أردت أن تعرفَ ذلك، فانظر أوّلاً إلى التشبيه الصريح الذي ليس بتمثيل، كقياس الشيء على الشيء في اللون مثلاً: كحنَك الغراب، تريد أن تُعرِّف مقدار الشدة، لا أن تُعرِّف نفس السواد على الإطلاق، وإذا تقرر هذا الأصل، فإن الأوصاف التي يُرَدُّ السامع فيها بالتمثيل من العقل إلى العيان والحسّ، وهي في أنفسها معروفةٌ مشهورة صحيحة لا تحتاج إلى الدلالة على أنها هل هي ممكنة موجودةٌ أم لا فإنّها وإن غَنِيَتْ من هذه الجهة عن التمثيل بالمشاهدات والمحسوسات، فإنها تفتقر إليه من جهة المقدارِ، لأن مقاديرَها في العقل تختلف وتتفاوت، فقد يقال في الفعل: إنه من حال الفائدة عل حدودٍ مختلفة في المبالغة والتوسط، فإذا رجعتَ إلى ما تُبصِرُ وتُحسّ عرفتَ ذلك بحقيقته، وكما يوزن بالقسطاس، فالشاعر لمّا قال: "كقابض على الماء خانته فروج الأصابع"؛ أراك رؤيةً لا تشكُّ معها ولا ترتاب أنه بلغ في خَيبة ظنّه وَبَوار سَعْيه إلى أقصى المبالغ، وانتهى فيه إلى أبعد الغايات، حتى لم يَحْظَ لا بما قلَّ ولا ما كثر، فهذا هو الجواب، ونحن بنوع من التسهُّل والتسامح، نقع على أن الأُنس الحاصل بانتقالك في الشىء عن الصفة والخبر إلى العيان ورؤية البصر، ليس له سببٌ سوى زَوَال الشكّ والرَّيْب، فأما إذا رجعنا إلى التحقيق فإنَّا نعلم أن المشاهدة تُؤثِّر في النفوس مع العلم بصدق الخبر، كما أخبر اللّه تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله: "قَالَ بَلَى ولَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي" "سورة البقرة: 62"، والشواهد في ذلك كثيرة، والأمر فيه ظاهرٌ، ولولا أن الأمر كذلك، لما كان لنحو قول أبي تمام:




  • وطُولُ مُقَامِ الَمَرْءِ في الحيِّ مُخْلِقٌ
    فإنِّي رَأَيتُ الشَّمْسَ زِيدَتْ محـبّةً
    إلى النّاس أنْ لَيْسَتْ عليهم بسَرْمَدِ



  • لِدِيبَاجتَيْهِ فاغْـتَـرِبْ تـتـجـدَّدِ
    إلى النّاس أنْ لَيْسَتْ عليهم بسَرْمَدِ
    إلى النّاس أنْ لَيْسَتْ عليهم بسَرْمَدِ



معنى، وذلك أنَّ هذا التجدُّد لا معنى له، إذا كانت الرؤية لا تفيد أُنْساً من حيث هي رؤية، وكان الأنس لنَفْيها الشَّكَّ والرَّيب، أو لوقوع العلم بأمر زائدٍ لم يُعْلَمْ من قبل، وإذا كان الأمر كذلك، فأنت إذا قلت للرجل أنت مُضيعٌ للحَزْم في سعيك، ومخطئٌ وجهَ الرشاد، وطالبٌ لما لا تناله، إذا كان الطَّلب على هذه الصفة ومن هذه الجهة، ثم عقّبْتَهُ بقولك وهل يحصل في كفِّ القابض على الماء شيء مما يقبض عليه?، فلو تركنا حديث تعريف المقدارِ في الشدة والمبالغة ونَفْي الفائدة من أصلها جانباً بقي لنا ما تَقْتَضيه الرُّؤية للموصوف على ما وُصف عليه من الحالة المتجدِّدة، مع العلم بصدق الصفة يُبيّن ذلك، أنه لو كان الرجل مثلاً على طرفِ نَهَرٍ في وقتِ مخاطبةِ صاحبهِ وإخباره له بأنه لا يحصل من سعيه على شيء، فأدْخل يده في الماء وقال: انظر هل حَصَل في كفيّ من الماء شيء? فكذلك أنت في أمرك، كان لذلك ضرب من التأثير زائد على القول والنطق بذلك دون الفعل، ولو أن رجلاً أراد أن يضرب لك مثلاً في تنافي الشيئين فقال: هذا وذاك هَلْ يجتمعان?، وأشار إلى ماء ونارٍ حاضرَين، وجدتَ لتمثيله من التأثير ما لا تجده إذا أخبرك بالقول فقال: هل يجتمع الماءُ والنار?، وذلك الذي تفعل المشاهدةُ من التحريك للنفس، والذي يجب بها من تمكُّن المعنى في القلب إذا كان مستفادهُ من العيان، ومتصرَّفهُ حيث تتصرَّف العينان وإلاّ فلا حاجة بنا في معرفة أن الماء والنار لا يجتمعان إلى ما يؤكده من رجوع إلى مشاهدة واستيثاق تَجْربة، وممّا يدلُّك على أن التمثيل بالمشاهدة يزيدك أُنْساً، وإن لم يكن بك حاجةٌ إلى تصحيح المعنى، أو بيان لمقدار المبالغة فيه، أنك قد تعبّر عن المعنى بالعبارة التي تؤدِّيه، وتبالغ وتجتهد حتى لا تدع في النفوس مَنْزَعاً، نحو أن تقولَ وأنت تصفُ اليوم بالطول: يومٌ كأطْول ما يُتوهَّم و كأنّه لا آخرَ له، وما شاكل ذلك من نحو قوله:




  • في لَيْلِ صُولٍ تَنَاهَى العَرْضُ والطُّولُ
    كأنَّمَا ليلُـهُ بـالـلَّـيْل مَـوْصُـولُ



  • كأنَّمَا ليلُـهُ بـالـلَّـيْل مَـوْصُـولُ
    كأنَّمَا ليلُـهُ بـالـلَّـيْل مَـوْصُـولُ



فلا تجد له من الأُنس ما تجده لقوله:

ويَومٍ كَظِلِّ الرُّمْح قَصَّر طُولَهُ

على أن عبارتك الأولى أشدُّ وأقوى في المبالغة من هذا فظِلّ الرُّمح على كل حال متناهٍ تُدرك العينُ نهايته، وأنت قد أخبرت عن اليوم بأنه كأنه لا آخرَ له، وكذلك تقول: يومٌ كأقصر ما يُتصوّر وكأنَّه ساعةٌ وكَلَمْحِ البَصَرِ وكلا ولاَ، فتجد هذا مع كونه تمثيلاً، لا يُؤْنسك إيناسَ قولهم: أيامٌ كأباهيم القَطَا، وقول ابن المعتزّ:




  • بُدِّلتُ من ليلٍ كظِلِّ حصـاةِ
    لَيْلاً كَظلِّ الرُمح غيرَ مُوَاتِ



  • لَيْلاً كَظلِّ الرُمح غيرَ مُوَاتِ
    لَيْلاً كَظلِّ الرُمح غيرَ مُوَاتِ



وقول آخر:




  • ظَلِلْنَا عند بابِ أبي نُعَيْمِ
    بيومٍ مِثْلِ سَالِفةِ الذُّبابِ



  • بيومٍ مِثْلِ سَالِفةِ الذُّبابِ
    بيومٍ مِثْلِ سَالِفةِ الذُّبابِ



وكذا تقول: فلانٌ إذا همَّ بالشيء لم يُزل ذاك عن ذكره وقلبه، وقَصَرَ خواطره على إمضاء عزمه، ولم يشغَله شيء عنه، فتحتاط للمعنى بأبلغ ما يمكن، ثم لا ترى في نفسك له هِزَّة، ولا تُصادف لما تسمع أرْيحيّةً، وإنما تسمَعُ حديثاً سَاذجاً وخبراً غُفْلاً، حتى إذا قلت:

إذا هَمَّ أَلْقَى بَيْنَ عَيْنيه عَزْمَهُ

امتلأت نفسك سروراً وأدركتك طرْبَة كما يقول القاضي أبو الحسن لا تملك دفعها عنك، ولا تَقُلْ إن ذلك لمكان الإيجاز، فإنه وإن كان يوجب شيئاً منه، فليس الأصْلَ له، بل لأنْ أراك العزمَ واقعا ًبين العينين، وفَتَحَ إلى مكان المعقول من قلبك باباً من العين، وها هنا إذا تأمّلنا مذهبٌ آخر في بيان السبَب المُوجِب لذلك، هو ألطفُ مأخذاً، وأمكنُ في التحقيق وأولى بأن يُحيط بأطراف الباب، وهو أنَّ لتصوير الشبه من الشيء في غير جنسه وشكله، والتقاط ذلك له من غير مَحِلّته، واجتلابه إليه من الشِّقِّ البعيد، باباً آخر من الظَّرف واللُّطف، ومذهباً من مذاهب الإحسان لا يخفى موضعه من العقل، وأُحْضِرُ شاهداً لك على هذا: أن تنظر إلى تشبيه المشاهدات بعضها ببعض، فإن التشبيهات سواءٌ كانت عامّية مشتركَة، أم خاصّية مقصورةً على قائلٍ دون قائِل تراها لا يقع بها اعتدادٌ، ولا يكون لها موقع من السامعين، ولا تهُزُّ ولا تُحرِّك حتى يكون الشبه مُقَرَّراً بين شيئين مختلفين في الجنس، فتشبيه العين بالنَّرجِس، عامّيٌّ مشترَكٌ معروف في أجيال الناس، جارٍ في جميع العادات، وأنت ترى بُعدَ ما بين العينين وبينه من حيث الجنس وتشبيهُ الثريّا بما شُبّهَت به من عُنقود الكرم المنوِّر، واللجام المفضَّض، والوِشاح المفصَّل، وأشباه ذلك، خاصّيٌّ، والتبايُن بين المشبَّه والمشبَّه به في الجنس على ما لا يَخْفَى، وهكذا إذا استقريت التشبيهات، وجدتَ التباعدُ بين الشيئين كلما كان أشدَّ، كانت إلى النفوس أعجب، وكانت النفوسُ لها أطرب، وكان مكانُها إلى أن تُحِدث الأريحيّة أقرب، وذلك أن موضعَ الاستحسان، ومكانَ الاستظراف، والمُثيرَ للدفين من الارتياح، والمتألِّفَ للنافر من المَسرة، والمؤلِّفَ لأطراف البَهْجة أنك ترى بها الشيئين مِثْلَيْن متباينين، ومؤتلفين مختلفين، وترى الصورة الواحدة في السماء والأرض، وفي خِلقة الإنسان وخِلال الروض، وهكذا، طرائفَ تنثالُ عليك إذا فصّلتَ هذه الجملة، وتتبّعت هذه اللَّحمة، ولذلك تجد تشبيهَ البَنَفْسَج في قوله:




  • ولازَوَرْدِيّةٌ تزهُو بزُرقـتـهـا
    كأنّها فوق قاماتٍ ضَعُفنَ بـهـا
    أوائلُ النار في أطراف كبريت



  • بين الرّياض على حُمْرِ اليواقيت
    أوائلُ النار في أطراف كبريت
    أوائلُ النار في أطراف كبريت



أغربَ وأعجبَ وأحقَّ بالوَلُوع وأجدرَ من تشبيه النرجس: بمداهن دُرّ حشوهن عقيق، لأنه أراك شبهاً لنباتِ غَضٍّ يَرِفُّ، وأوراقٍ رطبةٍ ترى الماءَ منها يشِفُّ، بلهَب نارٍ في جسمٍ مُسْتَوْلٍ عليه اليبسُ، وبَادٍ فيه الكَلَف. ومَبْنَى الطباع وموضوعُ الجِبِلَّة، على أن الشيء إذا ظهر من مكان لم يُعْهَد ظهوره منه، وخرج من موضعٍ ليس بمعدِنٍ له، كانت صَبَابةُ النفوسِ به أكثر، وكان بالشَّغَف منها أجدر، فسواءٌ في إثارة التعجُّب، وإخراجك إلى روعة المستغربِ، وُجودُك الشيءَ من مكان ليس من أمكنته، ووجودُ شيءٍ لم يُوجَد ولم يُعرَف من أصله في ذاته وصفته، ولو أنه شَبَّه البنفسج ببعض النبات، أو صادف له شبهاً في شيء من المتلوّنات، لم تجد له هذه الغرابة، ولم ينل من الحسن هذا الحظ، وإذا ثبت هذا الأصل، وهو أنَّ تصويرَ الشَّبه بين المختلفين في الجنس، مما يحرِّك قُوَى الاستحسان، ويُثير الكامن من الاستظراف، فإن التمثيل أخَصُّ شيء بهذا الشأن، وأسبقُ جارٍ في هذا الرهان، وهذا الصَّنيع صناعته التي هو الإمام فيها، والبادئ لها والهادي إلى كيفيتها، وأمرُه في ذلك أنك إذا قصدت ذكر ظرائفه، وعَدَّ محاسِنه في هذا المعنى، والبِدَعِ التي يخترعها بحِذْقِه، والتأليفاتِ التي يصل إليها برفقِه، ازدحمتْ عليك، وغمرتْ جانبيك، فلم تدرِ أيَّها تذكر، ولا عن أيِّها تعبِّر، كما قال:




  • إذا أتاها طالبٌ يَسْتَامُهـا
    تَكاثرتْ في عينه كِرَامُها



  • تَكاثرتْ في عينه كِرَامُها
    تَكاثرتْ في عينه كِرَامُها



وهل تشكُّ في أنه يعمل عمل السحر في تأليف المتباينين حتى يختصر لك بُعْدَ ما بين المشرق والمغرب، ويجمع ما بين المُشئِمِ والمُعْرِق، وهو يُرِيكَ للمعاني الممثَّلة بالأوهام شَبَهاً في الأشخاص الماثلة، والأشباح القائمة، ويُنطق لك الأخرس، ويُعطيك البيان من الأعجم، ويُريك الحياةَ في الجماد، ويريك التئامَ عين الأضداد، فيأتيك بالحياة والموت مجموعين، والماءِ والنارِ مجتمعين، كما يقال في الممدوحِ هو حياة لأوليائه، موت لأعدائه، ويجعل الشيء من جهةٍ ماءً، ومن أخرى ناراً، كما يقال:




  • أنا نارٌ في مُرْتَقَى نَظَرِ الحا
    سِدِ، ماءٌ جارٍ مع الإخوان



  • سِدِ، ماءٌ جارٍ مع الإخوان
    سِدِ، ماءٌ جارٍ مع الإخوان



وكما يجعل الشيء حُلواً مُرّاً، وصاباً عسلاً وقبيحاً حسَنَاً، كما قال:




  • حَسَنٌ في وجوه أعدائه أَقْ
    بحُ من ضَيْفه رأتْه السوامُ



  • بحُ من ضَيْفه رأتْه السوامُ
    بحُ من ضَيْفه رأتْه السوامُ



ويجعل الشيء أسود أبيضَ في حال، كنحو قوله:




  • له منظَرٌ في العين أبيضُ ناصعٌ
    ولكنّه في القلب أسودُ أسفـعُ



  • ولكنّه في القلب أسودُ أسفـعُ
    ولكنّه في القلب أسودُ أسفـعُ



ويجعل الشيء كالمقلوب إلى حقيقة ضدّه، كما قال:




  • غُرَّةٌ بُهْمَةٌ ألا إنما كُنْ
    تُ أغَرَّ أيَّام كنتُ بَهِيمَا



  • تُ أغَرَّ أيَّام كنتُ بَهِيمَا
    تُ أغَرَّ أيَّام كنتُ بَهِيمَا



ويجعل الشيء قريباً بعيداً معاً، كقوله: "دانٍ على أيدي العُفاةِ وشَاسِعٌ" وحاضراً وغائباً، كما قال:




  • أيا غائباً حاضراً في الفؤادِ
    سَلامٌ على الحَاضرِ الغائبِ



  • سَلامٌ على الحَاضرِ الغائبِ
    سَلامٌ على الحَاضرِ الغائبِ



ومشرّقاً مغرّباً، كقوله:




  • لَهُ إليكم نفسٌ مُـشـرِّقةٌ
    أن غابَ عنكم مُغَرِّباً بَدَنُهْ



  • أن غابَ عنكم مُغَرِّباً بَدَنُهْ
    أن غابَ عنكم مُغَرِّباً بَدَنُهْ



وسائراً مقيماً، كما يجيء في وصف الشعر الحسن الذي يتداوله الرواة وتتهاداه الألسن، كما قال القاضي أبو الحسن:




  • وجوّابةِ الأُفْقِ موقـوفةٍ
    تسيرُ ولَمْ تَبرحِ الحَضْرَةْ



  • تسيرُ ولَمْ تَبرحِ الحَضْرَةْ
    تسيرُ ولَمْ تَبرحِ الحَضْرَةْ



وهل يخفى تقريبه المتباعدين، وتوقيفه بين المختلفين، وأنت تجد إصابة الرجل في الحجّة، وحُسن تخليصه للكلام، وقد مُثِّلت تارةً بالهناء ومعالجة الإبل الجَرْبَى به، وأُخرَى بحزِّ القصّاب اللحم وإعماله السكّين في تقطيعه وتفريقه في قولهم "يَضَع الهِنَاء مَوَاضِع النُقْبِ ويصيب الحزَّ وويطبِّق المَفْصِل"، فانظر هل ترى مزيداً في التناكر والتنافر على ما بين طِلاَء القطران، وجنس القول والبيان ثم كرِّرِ النظر وتأمَّلْ كيف حصل الائتلاف، وكيف جاء من جمع أحدهما إلى الآخر، ما يأْنَس إليه العقل ويحمَده الطبع? حتى إنّك لربما وجدتَ لهذا المَثَل إذا وردَ عليك في أثناء الفصول، وحين تبيّن الفاضل في البيان من المفضول قبولاً، ولا ما تجدُ عند فَوْحِ المسك ونشْرِ الغَالية، وقد وقع ذكرُ الحزّ والتطبيق منك موقعَ ما ينفى الحزازات عن القلب، ويُزيل أطباقَ الوحشة عن النفس، وتكلُّفُ القول في أن للتمثيل في هذا المعنى الذي لا يُجارَى إليه، والباعَ الذي لا يُطاوَل فيه، كالاحتجاج للضَّرورات، وكفى دليلاً على تصرُفه فيه باليد الصَّنَاع، وإيفائه على غايات الابتداع، أنه يُريك العدمَ وجوداً والوجودَ عدماً، والميّت حيّاً والحيَّ ميّتاً أعني جَعْلَهم الرجلَ إذا بقي له ذكر جميلٌ وثناءٌ حَسَنٌ بعد موته، كأنه لم يمت، وجَعَلَ الذكرِ حياةٌ له، كما قال: "ذِكْرُ الفتَى عُمْرُه الثَّانِي"؛ وحُكْمَهُمْ على الخامِل الساقطِ القدرِ الجاهل الدنيء بالموتِ، وتصييرَهُمْ إياه حين لم يكن ما يؤثَر عنه ويُعْرَف به، كأنه خارجٌ عن الوجود إلى العدم، أو كأنه لم يدخل في الوجود، ولطيفةٌ أخرى له في هذا المعنى، هي، إذا نظرتَ، أعجبُ، والتعجُّب بها أحقُّ ومنها أوجب، وذلك جعلُ الموت نفسِه حياةً مستأنفة حتى يقال: إنه بالموت استكمل الحياة في قولهم فلان عاش حين مات، يُراد الرجل تحمله الأبيّةُ وكرم النفس والأنَفَة من العار، على أن يسخو بنفسه في الجود والبأس، فيفعل ما فعل كعب بن مامة في الإيثار على نفسه، أو ما يفعله الشجاع المذكور من القتال دون حَرِيمه، والصبر في مواطن الإباء، والتصميم في قتال الأعداء، حتى يكون له يومٌ لا يزال يُذكَر، وحديثٌ يعاد على مَرِّ الدهور ويُشْهَر، كما قال ابن نباتة:




  • بأَبِي وأمّـي كُـلُّ ذِي
    تَرْضَى بأن تَرِد الرَّدَى
    فَيُمِيتها ويُعيش ذِكْـرَهْ



  • نَفْسٍ تَعافُ الضَّيْمَ مُرَّةْ
    فَيُمِيتها ويُعيش ذِكْـرَهْ
    فَيُمِيتها ويُعيش ذِكْـرَهْ



وإنه لَيأتيك من الشيء الواحد بأشباهِ عِدة، ويشتقّ من الأصل الواحد أغصاناً في كل غصن ثَمَرٌ على حِدَة، نحو أن الزَّند بإيرائه يُعطيك شَبَه الجواد، والذكيِّ الفَطِنِ، وشَبَه النُجح في الأمور والظفر بالمراد وبإصلادِه شَبَه البخيل لا يعطيك شيئاً، والبليد الذي لا يكون له خاطر يُنتج فائدةً ويُخرج معنًى وشَبَه من يخيب سَعْيُه، ونحو ذلك ويعطيك من القمر الشهرة في الرجل والنباهة والعِزَّ والرفعة، ويعطيك الكمال عن النقصان، والنقصان بعد الكمال، كقولهم هلا نَمَا فعاد بدراً، يراد بلوغ النَجْل الكريم المبلغَ الذي يُشبِه أصلَه من الفضل والعقل وسائر معاني الشرفِ، كما قال أبو تمام:




  • لَهَفِي على تلك الشواهد مِنْهُما
    لَغدا سكونهما حجًى وصِباهما
    إنّ الهلالَ إذا رأيتَ نُـمُـوَّهُ
    أَيقنتَ أن سيصيرُ بدراً كاملاَ



  • لو أُمْهلَتْ حتى تَصِيرَ شمائلاَ
    كَرَماً وتلك الأريحيّة نـائلاَ
    أَيقنتَ أن سيصيرُ بدراً كاملاَ
    أَيقنتَ أن سيصيرُ بدراً كاملاَ



وعلى هذا المثل بعينه، يُضرَب مثلاً في ارتفاع الرجل في الشرف والعزّ من طبقة إلى أعلى منها، كما قال البحتري:




  • شَرَفٌ تزيَّدَ بالعراق إلى الذي
    مِثْلَ الهلال بدَا فلم يَبْرَحْ بـه
    صَوْغُ اللَّيالي فيه حتى أقمَرا



  • عهِدُوه بالبَيْضاء أو بِبَلَنْجَـرَا
    صَوْغُ اللَّيالي فيه حتى أقمَرا
    صَوْغُ اللَّيالي فيه حتى أقمَرا



ويعطيك شَبَه الإنسان في نَشْئِه ونَمائه إلى أن يبلغ حدَّ التمام، ثم تراجُعِه إذا انقضت مُدَّة الشباب، كما قال:




  • المرءُ مِثْلُ هلالٍ حين تُبصرهُ
    يَزدادُ حتّى إذا ما تَمَّ أعْقَبـه
    كَرُّ الجديدين نقصاً ثم يَنْمَحِقُ



  • يبدو ضئيلاً ضعيفاً ثم يَتَّسِقُ
    كَرُّ الجديدين نقصاً ثم يَنْمَحِقُ
    كَرُّ الجديدين نقصاً ثم يَنْمَحِقُ



وكذلك يتفرَّع من حالتي تمامه ونُقصانه فروعٌ لطيفة، فمن غريب ذلك قولُ ابن بابك:




  • وأعَرْتَ شَطْرَ المُلك ثَوْبَ كماله
    والبدرُ في شَطْر المَسافَةِ يكمُلُ



  • والبدرُ في شَطْر المَسافَةِ يكمُلُ
    والبدرُ في شَطْر المَسافَةِ يكمُلُ



قاله في الأستاذ أبي علي، وقد استوزره فخرُ الدولة بعد وفاة الصاحب وأبا العباس الضبيّ وخلع عليهما وقولُ أبي بكر الخوارزمي:




  • أراك إذا أيسرتَ خَيَّمتَ عندنـا
    فما أنت إلا البدرُ إن قَلَّ ضَوءهُ
    أَغَبَّ وإن زَادَ الضياءُ أقَـامَـا



  • مقيماً وإن أعسرتَ زُرتَ لِمَامَا
    أَغَبَّ وإن زَادَ الضياءُ أقَـامَـا
    أَغَبَّ وإن زَادَ الضياءُ أقَـامَـا



المعنى لطيف، وإن كانت العبارة لم تساعده على الوجه الذي يجب، فإن الإغباب أن يتخلل وقتَي الحضور وقتٌ يخلو منه، وإنما يصلح لأن يراد أن القمر إذا نقص نورُه، لم يُوال الطلوع كل ليلة، بل يظهر في بعض الليالي، ويمتنع من الظهور في بعض، وليس الأمر كذلك، لأنه على نقصانه يطلع كل ليلة حتى يكون السِّرارُ، وقال ابن بابك في نحوه:




  • كذا البدرُ يُسْفِـرُ فـي تِـمِّـه
    فإن خاف نَقْص المَحَاقِ انْتَقَبْ



  • فإن خاف نَقْص المَحَاقِ انْتَقَبْ
    فإن خاف نَقْص المَحَاقِ انْتَقَبْ



وهكذا يُنظر إلى مقابلته الشَّمسَ واستمداده من نورها، وإلى كون ذلك سببَ زيادته ونقصه وامتلائه من النور والائتلاق، وحصولهِ في المُِحَاق، وتفاوُتِ حاله في ذلك، فتُصاغ منه أمثَالٌ، وتُبَيَّن أشباهٌ ومقاييس، فمن لطيف ذلك قول ابن نباتة:




  • قد سَمِعْنا بالعِزِّ من آلِ سـاسـا
    والملوكِ الأُلَى إذا ضاع ذِكْـرٌ
    مَكْرُماتٌ إذا البليغُ تـعـاطَـى
    وإذا نحن لم نُضِفْـه إلـى مـد
    إن جمعنَاهُمَا أضرَّ بها الـجـم
    فهو كالشمس بُعْدُها يملأ البَـدْ
    ر وفي قُرْبها ُمحاقُ الهـلالِ



  • نَ ويُونانَ في العُصور الخوالِي
    وُجِدُوا في سـوائر الأمـثـالِ
    وَصْفَها لم يجدْهُ فـي الأقـوال
    حِكَ كانت نهايةً في الكـمـال
    عُ وضاعت فيه ضَياعَ المُحال
    ر وفي قُرْبها ُمحاقُ الهـلالِ
    ر وفي قُرْبها ُمحاقُ الهـلالِ



وغير ذلك من أحواله كنحو ما خرج من الشَّبَه من بُعده وارتفاعه، وقُرب ضَوئِه وشُعاعه، في نحو ما مضى من قول البحتري: "دانٍ على أيدي العفاة" البيتين. ومن ظهوره بكل مكان، ورؤيته في كل موضع، كقوله:




  • كالبدرِ من حيثُ التَفَتَّ رَأَيتَه
    يُهدَي إلى عينيك نوراً ثاقبَا



  • يُهدَي إلى عينيك نوراً ثاقبَا
    يُهدَي إلى عينيك نوراً ثاقبَا



في أمثال لذلك تكثر، ولم أعرِضْ لما يُشبَّه به من حيث المنظر، وما تُدركه العين، نحو تشبيهِ الشيء بتقويس الهلالِ ودقّته، والوجه بنوره وَبَهْجته، فإنّا في ذكر ما كان تمثيلاً، وكان الشَّبه فيه معنويّاً.

فصلٌ آخر

وإن كان مِمَّا مَضَى، إلا أن الأسلوب غيره، وهو أن المعنى إذا أتاك ممثَّلاً، في الأكثر ينجلي لك بعد أن يُحْوِجك إلى غير طلبه بالفكرة وتحريك الخاطرِ له والهِمَّة في طلبه، وما كان منه ألطف، كانت امتناعه عليك أكثر، وإباؤه أظهر، واحتجابُه أشدُّ، ومن المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه، كان نَيله أحلَى، وبالمزِيَّة أولى، فكان موقعه من النفس أجلّ وألطف، وكانت به أضَنَّ وأَشْغَف، ولذلك ضُرب المثل لكل ما لَطُف موقعه ببرد الماء على الظمأ، كما قال:

وهُنَّ يَنْبِذْنَ من قَوْلٍ يُصِبْنَ بِهِمَوَاقِعَ الماءِ مِنْ ذِي الغُلَّةِ الصَّادِي

وأشباه ذلك مما يُنال بعد مكابدة الحاجة إليه، وتقدُّم المطالبة من النفس به، فإن قلت فيجب على هذا أن يكون التعقيد والتعمية وتعمُّد ما يَكْسِب المعنى غمُوضاً، مشرِّفاً له وزائداً في فضله، وهذا خلافُ ما عليه الناس، ألا تراهم قالوا إن خَيْر الكلام ما كان معناه إلى قلبك أسبق من لفظه إلى سمعك، فالجواب إني لم أُرد هذا الحدَّ من الفِكْرِ والتعب، وإنما أردت القدر الذي يحتاج إليه في نحو قوله:

فإن المِسْكَ بعضُ دمِ الغَزَالِ

وقوله:




  • ومَا التأنيثُ لاِسْمِ الشمسِ عَيْبٌ
    وقوله:
    كأنَّك مُسْتَقيمٌ في مُحـالِ
    كأنَّك مُسْتَقيمٌ في مُحـالِ



  • ولا التذكيرُ فَخْرٌ للـهـلالِ
    رأيتُك في الذين أَرَى مُلُوكاً
    كأنَّك مُسْتَقيمٌ في مُحـالِ



وقول النابغة:




  • فإنَّك كاللَّيل الَّذِي هو مُـدْرِكـي
    وقوله:
    إذَا طَلَعتْ لم يَبْدُ منهنّ كَوْكَبُ
    إذَا طَلَعتْ لم يَبْدُ منهنّ كَوْكَبُ



  • وَإنْ خِلْتُ أنّ المُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ
    فإنك شمسٌ والملوكُ كواكـبٌ
    إذَا طَلَعتْ لم يَبْدُ منهنّ كَوْكَبُ



وقول البحتري:




  • ضَحوكٌ إلى الأبطال وهو يَرُوعهم
    وللسيف حدٌّ حين يَسْطُو وَرَوْنَـقُ



  • وللسيف حدٌّ حين يَسْطُو وَرَوْنَـقُ
    وللسيف حدٌّ حين يَسْطُو وَرَوْنَـقُ



وقول امرئ القيس: "بمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأوابد هَيْكَلِ" وقوله:




  • ثم انصرفتُ وقد أَصَبْتُ ولم أُصَبْ
    جَذَعَ البَصِـيرةِ قَـارِحَ الإقـدامِ



  • جَذَعَ البَصِـيرةِ قَـارِحَ الإقـدامِ
    جَذَعَ البَصِـيرةِ قَـارِحَ الإقـدامِ



فإنك تعلم على كل حالٍ أن هذا الضرب من المعاني، كالجوهر في الصَدَف لا يبرز لكَ إلاّ أن تشُقَّه عنه، وكالعزيز المُحْتجب لا يُريك وجهه حتى تستأذِن عليه، ثم ما كلُ فكر يهتدي إلى وجهِ الكَشْفِ عمَّا اشتمل عليه، ولا كُلّ خاطر يؤذَن له في الوصول إليه، فما كل أحد يفلح في شقّ الصَدَفة، ويكون في ذلك من أهل المعرفة، كما ليس كلُّ من دنا من أبواب الملوك، فُتحت له وكان:

مِنَ النَّفَرِ البِيضِ الَّذِينَ إذَا اعتَزَوْاوهابَ رجالٌ حَلْقَةَ البَابِ قَعْقَعُوا

أو كما قال:




  • تَفَتَّحُ أبوابُ الملوك لِوجهه
    بغير حِجَابٍ دُونَهُ أو تَملُّقِ



  • بغير حِجَابٍ دُونَهُ أو تَملُّقِ
    بغير حِجَابٍ دُونَهُ أو تَملُّقِ



وأما التعقيد، فإنما كان مذموماً لأجل أن اللفظ لم يرتَّب الترتيبَ الذي بمثله تحصُل الدَّلالة على الغرض، حتى احتاج السامع إلى أن يطلبَ المعنى بالحِيلة، ويسعى إليه من غير الطريق كقوله:




  • ولذا اسمُ أغطية العيون جفونُها
    من أنّها عَمَلَ السيوفِ عواملُ



  • من أنّها عَمَلَ السيوفِ عواملُ
    من أنّها عَمَلَ السيوفِ عواملُ



وإنما ذُمَّ هذا الجنس، لأنه أحوجك إلى فكر زائد على المقدار الذي يجب في مثله، وكَدَّكَ بسُوء الدَّلالة وأودع لك في قالب غير مستوٍ ولا مُمَلَّس، بل خشِنٍ مُضرّس حتى إذا رُمْتَ إخراجَه منه عَسُر عليك، وإذا خرج خرج مُشوَّه الصورة ناقصَ الحُسن، هذا وإنما يزيدك الطلبُ فرحاً بالمعنى وأُنْساً به وسروراً بالوقوف عليه إذا كان لذلك أهلاً، فأمّا إذا كنتَ معه كالغائص في البحر، يحتمل المشقّة العظيمة، ويخاطر بالروح، ثم يُخرج الخرَزَ، فالأمرُ بالضدّ مما بدأتُ به، ولذلك كان أحقَّ أصناف التعقُّد بالذم ما يُتعبك، ثم لا يُجدي عليك، ويؤرِّقك ثم لا يُورق لك، وما سبيله سبيلُ البخيل الذي يدعوه لؤمٌ في نفسه، وفساد في حسّه، إلى أن لا يرضى بضَعَته في بُخْله، وحِرمان فضله، حتّى يَأْبَى التواضع ولين القول، فيتيه ويشمخ بأنفه، ويسوم المتعرِّض له باباً ثانياً من الاحتمال تناهياً في سُخفه أو كالذي لا يُؤيسك من خيره في أول الأمْرِ فتستريحَ إلى اليأس، ولكنه يُطمِعُك ويَسْحَب على المواعيد الكاذبة، حتى إذا طال العناء وكثر الجهد، تكشَّف عن غير طائل، وحصلتَ منه على نَدَمٍ لتَعبك في غير حاصل، وذلك مثل ما تجده لأبي تمام من تعسُّفه في اللفظ، وذهابه به في نحوٍ من التركيب لا يهتَدِي النحو إلى إصلاحه، وإغراب في الترتيب يعمَي الإعرابُ في طريقه، ويَضِلُّ في تعريفه، كقوله:




  • ثَانِيه في كَبِد السَّمَاء ولم يكن
    لاثنين ثانٍ إذ هُما فِي الغَارِ



  • لاثنين ثانٍ إذ هُما فِي الغَارِ
    لاثنين ثانٍ إذ هُما فِي الغَارِ



وقوله:




  • يَدِي لمن شاءَ رَهْنٌ لَمْ يَذُق جُـرَعـاً
    مِنْ رَاحتَيْكَ دَرَى ما الصَّابُ والعَسلُ



  • مِنْ رَاحتَيْكَ دَرَى ما الصَّابُ والعَسلُ
    مِنْ رَاحتَيْكَ دَرَى ما الصَّابُ والعَسلُ



ولو كان الجنس الذي يوصف من المعاني باللطافة ويُعَدّ في وسائط العُقود، لا يُحوِجك إلى الفكر، ولا يحرِّك من حِرصك على طلبه، بمنعِ جانبه وببعض الإدلال عليك وإعطائك الوصل بعد الصدّ، والقرب بعد البعُد، لكان باقلَّي حارٌ وبيتُ معنًى هو عين القلادة وواسطة العقد واحداً، ولَسقط تفاضُلُ السامعين في الفهم والتصوّر والتبيين، وكان كلُّ من روى الشعر عالماً به، وكلُّ من حَفِظه إذا كان يعرف اللغة على الجملة ناقداً في تمييز جيّده من رديئه، وكان قول من قال:




  • زَوَامِلُ للأشعارِ لا عِلْمَ عِنْدهُم
    بجيِّدها إلا كَعِلْمِ الأبـاعِـرِ



  • بجيِّدها إلا كَعِلْمِ الأبـاعِـرِ
    بجيِّدها إلا كَعِلْمِ الأبـاعِـرِ



وكقول ابن الرومي:




  • قلتُ لمن قال لي عرضتُ على الأخ
    قَصرَّتَ بالشعر حين تَـعـرِضُـهُ
    مَا قَـالَ شـعـراً ولا رواهُ فــلا
    فإن يَقُل إنّنـي رويتُ فـكـالـدَّف
    ترِ جهلاً بـكـلّ مـا اعـتَـقَـدهْ



  • فَشِ مَا قُـلـتَـه فَـمَـا حَـمِـدهْ
    على مُبينِ العمَـى إذا انـتَـقَـدَهْ
    ثَعْـلَـبَـهُ كـان لا ولا أَسَـــدَهْ
    ترِ جهلاً بـكـلّ مـا اعـتَـقَـدهْ
    ترِ جهلاً بـكـلّ مـا اعـتَـقَـدهْ



وما أشبه ذلك، دعوَى غير مسموعةٍ ولا مؤهَّلةٍ للقبول، فإنما أرادوا بقولهم ما كان معناه إلى قلبك أسبقَ من لفظه إلى سمعك، أن يجتهد المتكلم في ترتيب اللفظ وتهذيبه وصيانته من كل ما أخلّ بالدَّلالة، وعاق دون الإبانة، ولم يريدوا أن خير الكلام ما كان غُفْلاً مِثْلَ ما يتراجعه الصبيانُ ويتكلَّم به العامّة في السوق. هذا وليس إذا كان الكلامُ في غاية البيان وعلى أبلغ ما يكون من الوُضوح، أغناك ذاك عن الفكرة إذا كان المعنى لطيفاً، فإن المعانيَ الشريفة اللطيفةَ لا بُدَّ فيها من بناءِ ثانٍ على أوّل، وردِّ تالٍ على سابق، أفَلستَ تحتاج في الوقوف على الغرض من قوله: "كالبَدْرِ أُفْرطَ فِي العُلُوِّ" إلى أن تعرف البيت الأول، فتتصوَّر حقيقة المرادِ منه ووجه المجاز في كونه دانياً شاسعاً، وترقم ذلك في قلبك، ثم تعود إلى ما يعرِضُ البيت الثاني عليك من حَالِ البدر، ثم تقابل إحدى الصورتين بالأخرى، وتردّ البَصَرَ من هذه إلى تلك، وتنظر إليه كيف شَرَطَ في العلوِّ والإفراطَ، ليشاكل قوله شاسع، لأن الشُّسُوع هو الشديد البُعد، ثم قَابَله بما لا يشاكله من مراعاة التناهي في القرب فقال "جِدُّ قريب" فهذا هو الذي أردتُ بالحاجة إلى الفكر، وبأنَّ المعنى لا يحصُل لك إلا بعد انبعاثٍ منك في طلبه، واجتهادٍ في نيله، هذا وإن توقفت في حاجتك أيها السامع للمعنى إلى الفكر في تحصيله، فهل تشكّ في أن الشاعر الذي أدّاه إليك، ونشر بَزَّه لديك، قد تحمّل فيه المشقّة الشديدة، وقطع إليه الشُّقة البعيدة، وأنه لم يصل إلى دُرِّه حتى غاص، ولم ينل المطلوب حتى كابدَ منه الامتناع والاعتياص؛ ومعلومٌ أن الشيء إذا عُلم أنه لم يُنَل في أصله إلا بعد التَّعب، ولم يُدرَك إلا باحتمال النَّصَب، كان للعلم بذلك من أمره من الدعاء إلى تعظيمه، وأخْذِ الناس بتفخيمه، ما يكونَ لمباشرة الجهد فيه، وملاقاةِ الكرب دونه، وإذا عثرتَ بالهُوَيْنَا على كنزٍ من الذهب، لم تُخرجك سُهولةُ وجوده إلى أن تَنْسَى جملةً أنه الذي كدَّ الطالب، وحمّل المتاعب، حتى إن لم تكُنْ فيك طبيعةٌ من الجُود تتحكَّم عليك، ومحبّة للثناء تستخرج النفيس من يديك كان من أقوى حجج الضَّنّ الذي يخامر الإنسان أن تقول: إن لم يكدَّني فقد كدَّ غيري، كما يقول الوارث للمال المجموع عفواً إذا لِيمَ على بخله به، وفرطِ شُحّه عليه: إن لم يكنْ كَسْبِي وكدَّي، فهو كَسْب أبي وجدي، ولئن لم ألْقَ فيه عناءً، لقد عانَى سَلَفِي فيه الشدائد، ولقُوا في جَمْعِهِ الأمَّرين، أفأضيِّع ما ثَمَّرُوه، وأُفَرِّق ما جمعوه، وأكون كالهادم لما أُنفِقَتِ الأْعمارُ في بنائه، والمُبيد لما قُصِرت الهمَمُ على إنمائه?، وإنك لا تكاد تجد شاعراً يعطيك في المعاني الدقيقة من التسهيل والتقريب، وردّ البعيد إلى المألوف القريب، ما يُعْطي البحتريُّ، ويبلغ في هذا الباب مبلغه، فإنه لَيروض لك المُهْرَ الأرِنَ رياضةَ الماهر، حتى يُعْنِق من تحتك إعناقَ القارِح المذلَّل، وينزِعَ من شِمَاس الصعب الجامح، حتى يلين لك لِينَ المنقاد الطَّيع، ثمَّ لا يمكن ادعاءُ أنَّ جميع شعره في قلّة الحاجة إلى الفكر، والغِنَى عن فضل النظر، كقوله:




  • فُؤادِي مِنكَ مـلآنُ
    وسِرّي فِيك إعلانُ



  • وسِرّي فِيك إعلانُ
    وسِرّي فِيك إعلانُ



وقوله:

عَن أيِّ ثَغْرٍ تَبتَسِمْ

وهل ثَقُل على المتوكل قصائدُه الجيادُ حتى قلَّ نشاطه لها واعتناؤه بها، إلا لأنَّه لم يفهم معانيها كما فهم معانيَ النوع النازل الذي انْحَطَّ له إليه? أتُراك تستجيز أن تقول إن قوله"مُنَى النَّفْسِ في أسماءَ لَوْ يَسْتَطِيعُها" من جنس المعقَّد الذي لا يُحمَد، وإن هذه الضَّعيفة الأسْر، الواصلة إلى القلوب من غير فكر، أوْلى بالحمد، وأحقّ بالفضل. هذا والمعقَّد من الشعر والكلام لم يُذَمَّ لأنه مما تقعُ حاجةٌ فيه إلى الفكر على الجملة، بل لأنّ صاحبه يُعْثِرُ فِكرَك في متصرَّفه، ويُشيكُ طريقك إلى المعنى، ويُوعِّر مذهبَك نحوه، بل رُبّما قَسَّم فكرَك، وشعَّب ظَنَّك، حتى لا تدري من أي تتوصّل وكيف تطلب. وأمّا الملخَّص فيفتح لفكرتك الطريقَ لمستوى ويمهَّده، وإن كان فيه تعاطُفٌ أقام عليه المنار، وأوقد فيه الأنوار، حتى تسلكُه سلوكَ المتبين لوِجهته، وتقطعَهُ قَطْعَ الواثق بالنُّجْح في طِيِّته، فترِدَ الشريعة زرقاءَ، والروْضة غنّاءَ، وصادفت نهجاً مستقيماً، مذهباً قويماً، وطريقةً تنقاد، وتبيّنت لها الغاية فيما ترتاد? فقد قيل: قُرَّةُ العين، وسَعَة الصدر، ورَوْحُ القلب، وطِيب النفس، من أربعة أمور الاستبانة للحجّة، والأُنس بالأحبّة، والثَّقة بالعُدّة، والمعاينة للغاية، وقال الجاحظ في أثناء فصل يذكر فيه ما في الفكر والنظر من الفضيلة: وأين تقع لذّةُ البهيمة بالعَلُوفة، ولذّة السَّبُع بلَطْع الدَّم وأكلِ اللحم، من سرور الظفر بالأعداء، ومن انفتاح باب العلم بعد إدمان قرعه، وبَعْدُ، فإذا مُدّت الحَلَباتُ لجري الجياد، ونُصِبت الأهداف لتعرف فضل الرُّماة في الإبعاد والسّدَاد، فرهانُ العقول التي تستَبق، ونِضالها الذي تمتحِن قواها في تعاطيه، هو الفِكر والروّيةُ والقياس والاستنباط، ولن يبعُد المَدَى في ذلك، ولا يدقّ المرمَى إلا بما تقدم من تقرير الشَّبه بين الأشياء المختلفة، فإنّ الأشياء المشتركة في الجنس، المتفقةَ في النوع، تستغني بثبوت الشَّبه بينها، وقيام الاتفاق فيها، عن تعمُّل وتأمل في إيجاب ذلك لها وتثبته فيها، وإنما الصّنعة والحِذْق، والنظرُ يَلْطُف وَيدِقّ، في أن تجمع أعناقُ المتنافرات والمتباينات في رِبْقة، وتُعقَد بين الأجنبيّات معاقدُ نسَب وشُبْكة، وما شرُفت صنعةٌ، ولاذُكر بالفضيلة عملٌ، إلا لأنهما يحتاجان من دِقّة الفكر ولُطف النظر نَفاذ الخاطر، إلى ما لا يحتاج إليه غيرهما، ويحتكمان على مَن زَاوَلَهما والطالب لهما من هذا المعنى، ما لا يحتكم ما عداهما، ولا يقتضيان ذلك إلاّ من جهة إيجاد الائتلاف في المختلفات، وذلك بَينٌ لك فيما تراه من الصناعات وسائر الأعمال التي تُنسَب إلى الدِقة، فإنك تجدُ الصورة المعمولة فيها، كلما كانت أجزاؤها أشدّ اختلافاً في الشكل والهيئة، ثم كان التلاؤمُ بينها مع ذلك أتمّ، والائتلافُ أبينَ، كان شأنها أعجبَ، والحذْقُ لمصوّرها أوجبَ، وإذا كان هذا ثابتاً موجوداً، ومعلوماً معهوداً، من حال الصُوَر المصنوعة والأشكال المؤلَّفة ، فاعلم أنها القضيّة في التمثيل واعمل عليها، واعتقِد صحّة ما ذكرتُ لك من أنّ أخْذَ الشَبَهِ للشيء مما يخالفُه في الجنس وينفصل عنه من حيث ظاهر الحال، حتى يكون هذا شخصاً يملأ المكان، وذاك معنًى لا يتعدَّى الأفهام والأذهان وحتى إن هذا إنسانٌ يعقِلُ، وذاك جمادٌ أو مَوَات لا يتّصف بأنه يعلَم أو يجهل وهذا نورُ شمس يبدو في السماء ويطلُع، وذاك معنى كلامِ يُوعى ويُسمع وهذا روحُ يحيا به الجسد، وذاك فضل ومكرمةٌ تؤثَر وتُحمَد، كما قال:




  • إنَّ المكارم أرواحٌ يكونُ لهـا
    آلُ المهلَّب دُونَ النَّاس أجسادَا



  • آلُ المهلَّب دُونَ النَّاس أجسادَا
    آلُ المهلَّب دُونَ النَّاس أجسادَا



وهذا مقالُ متعصّبٍ مُنكِر للفضل حَسُودٍ، وذاك نارٌ تلتهب في عُود، وهذا مِخلاف ،وذاك وَرَق خِلاَف، كما قال ابن الرُّومِيّ:




  • بَذَل الوعدَ للأخِلاّءِ سَمْحـاً
    فغدَا كالخِلافِ يُورِقُ للعَي
    نِ ويأبى الإثمار كلَّ الإباء



  • وأبَى بَعْدَ ذاكَ بَذْلَ العَطَاءِ
    نِ ويأبى الإثمار كلَّ الإباء
    نِ ويأبى الإثمار كلَّ الإباء



وهذا رجلٌ يروم العدُوُّ تصغيره والإزراءَ به، فيأبى فضلُه إلاّ ظهوراً، وقدرُه إلا سموّاً، وذاك شهابٌ من نار تُصوَّبُ وهي تعلو، وتُخْفَض وهي ترتفع، كما قال أيضاً:




  • ثم حَاوَلْتَ بالمُثَيْقِيلِ تصْغـي
    كالذي طَأَطَأَ الشِّهابَ ليخفَـى
    وهو أدنى لهُ إلى التَّضْـريم



  • ري فما زِدْتني سِوَى التَّعظيم
    وهو أدنى لهُ إلى التَّضْـريم
    وهو أدنى لهُ إلى التَّضْـريم



وأخذ هذا المعنى من كلامٍ في حِكَم الهند، وهو: إن الرجل ذا المروءة والفضل لَيكُونُ خاملَ المنزلةِ غامضَ الأمر، فما تبرح به مُروءته وعقلُه حتى يستبين ويُعرَف، كالشعلة من النار التي يصوِّبها صاحِبُها وتأبَى إلاّ ارتفاعاً. هذا هو الموجب للفضيلة، والداعي إلى الاستحسان، والشفيع الذي أحْظَى التمثيل عند السامعين، واستدعى له الشغَف والوَلوع من قلوب العقلاء الراجحين، ولم تأتلف هذه الأجناس المختلفة للممثَّل، ولم تتصادف هذه الأشياء المتعادية على حكم المشبّه، إلا لأنه لم يراعِ ما يَحْضُر العَين، ولكن ما يستحضر العَقْلُ، ولم يُعْنَ بما تنال الرؤية، بل بما تعلَّق الروّية، ولم ينظر إلى الأشياء من حيث تُوعَى فتحويها الأمكنة بل من حيث تعِيها القلوب الفَطِنة، ثم على حسَب دِقّة المسلَك إلى ما استُخْرج من الشَّبه، ولُطْفِ المذهب وبُعد التَّصَعُّد إلى ما حصل من الوِفاق، استحقَّ مُدرِكُ ذلك المدحَ، واستوجب التقديمَ، واقتضاكَ العَقْلُ أن تنوِّه بذكره، وتقضي بالحُسْنَى في نتائج فكره، نَعَم، وعلى حسَب المراتِب في ذلك أعطيتَه في بعضٍ منزلةَ الحاذِق الصُّنَع، والمُلهم المؤيَّد، والألمعي المُحَدَّث، الذي سبق إلى اختراع نوعٍ من الصنعة حتى يصيرَ إماماً، ويكونَ مَنْ بعدَه تبعاً له وعِيالاً عليه وحتى تُعرَف تلك الصَّنعةُ بالنسبة إليه، فيقال صنعة فلان، و عمل فلان ووضعتَهُ في بعضٍٍ موضعَ المتعلمَّ الذكيُّ، والمقتدي المُصيب في اقتدائه، الذي يُحسن التشبُّهَ بمن أخذ عنه، ويُجيد حكاية العمل الذي استفادَ، ويجتهد أن يزداد. واعلم أني لست أقول لك إنك متى أَلَّفتَ الشيء ببعيد عنه في الجنس على الجملة فقد أصبت وأحسنت، ولكن أقوله بعد تقييدٍ وبعد شرطٍ، وهو أن تصيبَ بين المختلفين في الجنس وفي ظاهر الأمر شبهاً صحيحاً معقولاً، وتجد للمُلاءمة والتأليف السويّ بينهما مذهباً وإليهما سبيلاً وحتى يكون ائتلافهما الذي يوجب تشبيهك، من حيث العقل والحَدْس، في وضوح اختلافهما من حيث العَين والحِسّ، فأمَّا أن تستكرهَ الوصف وتَرومَ أن تُصوَّره حيث لا يُتَصوّر، فلاَ لأنك تكون في ذلك بمنزلة الصَّانع الأخرق، يضع في تأليفه وصَوْغه الشكلَ بين شكلين لا يلائمانه ولا يقبَلانه، حتى تخرج الصورة مضطربةً، وتجيء فيها نتوّ، ويكون للعين عنها من تفاوتها نُبوّ، وإنما قيل: شبَّهت، ولا تعني في كونك مشبِّهاً أن تذكر حرف التشبيه أو تستعير، إنما تكون مشبِّهاً بالحقيقة بأن ترى الشَّبه وتبيَّنه، ولا يمكنك بيانُ ما لا يكون، وتمثيلُ ما لا تتمثَّله الأوهام والظنون، ولم أُرد بقولي إنّ الحذق في إيجاد الائتلاف بين المختلفات في الأجناس، أنك تقدر أن تُحِدث هناك مشابهةً ليس لها أصل في العقل، وإنما المعنى أنّ هناك مشابهات خَفِيّة يدقُّ المسلك إليها، فإذا تغلغل فكرُك فأدركها فقد استحققتَ الفضل، ولذلك يُشَبَّه المدقِّق في المعاني بالغائص على الدُرّ، ووِزان ذلك أن القِطَع التي يجيء من مجموعها صورة الشَّنْف والخاتم أو غيرهما من الصور المركبّة من أجزاء مختلفة الشكل، لو لم يكن بينها تناسُبٌ، أمكنَ ذلك التناسُب أن يلائِم بينها الملائمة المخصوصة، ويوصَلَ الوصلَ الخاصَّ، لم يكُنْ ليحصل لك من تأليفها الصورةُ المقصودةُ، ألا ترى أنّك لو جئت بأجزاء مخالفةٍ لها في الشكل، ثم أردتها على أن تصير إلى الصورة التي كانت من تلك الأُولَى، طلبتَ ما يستحيل? فإنما استحققت الأُجرة على الغَوْص وإخراج الدُّر، لا أن الدُرّ كان بك، واكتَسَى شرفَه من جهتك، ولكن لمّا كان الوُصول إليه صعباً وطلبُه عسيراً، ثم رُزقت ذلك، وَجَبَ أن يُجْزَل لك، ويُكبَّر صنيعُك، ألا ترى أن التشبيه الصريح إذا وقع بين شيئين متباعدين في الجنس، ثم لَطُفَ وحسُن، لم يكن ذلك اللُّطف وذلك الحُسن إلا لاتفاقٍ كان ثابتاً بين المشَّبه والمشبَّه به من الجهة التي بها شَبَّهتَ، إلاّ أنه كان خفياً لا ينجلي إلا بعد التأنُّق في استحضار الصور وتذكُّرها، وعرض بعضها على بعض، والتقاطِ النُّكتة المقصودة منها، وتجريدِها من سائر ما يتّصل بها، نحو أن تُشَبّه الشيءَ بالشيء في هيئة الحركة، فتطلب الوفاق بين الهيئة والهيئة مجرّدةً من الجسم وسائر ما فيه من اللون وغيره من الأوصاف? كما فعل ابن المعتز في تشبيه البَرْق حيث قال:يث قال:




  • وكأنَّ البَرْقَ مُصَحَفُ قَار
    فَانطِباقاً مَرّةً وانفِتَاحَـا



  • فَانطِباقاً مَرّةً وانفِتَاحَـا
    فَانطِباقاً مَرّةً وانفِتَاحَـا



لم ينظر من جميع أوصاف البرق ومعانيه إلا إلى الهيئة التي تجدها العين له من انبساطٍ يعقبه انقِباضٌ، وانتشارٍ يتلوه انضمامٌ، ثم فَلَى نفسَه عن هيئات الحركات لينظر أيُّها أشبه بها، فأصاب ذلك فيما يفعله القارئ من الحركة الخاصّة في المصحف، إذا جعل يفتحه مرة ويُطبقه أُخرى، ولم يكن إعجابُ هذا التشبيه لك وإيناسه إياك لأن الشيئين مختلفان في الجنس أشدَّ الاختلاف فقط، بل لأنّ حَصلَ بإزاء الاختلاف اتفاقٌ كأحسن ما يكون وأتمَّه، فبمجموع الأمرين شدّة ائتلافِ في شدّة اختلاف حلا وحسُن، ورَاقَ وفَتَن، ويدخل في هذا الوضع الحكاية المعروفة في حديث عَدِيّ بن الرِّقاع، قال جرير أنشدني عدي: "عَرَف الديارَ تَوَهُّمَاً فاعتادَهَا". فلّما بلغ إلى قوله "تُزْجِي أَغَنَّ كَأنَّ إبْرَةَ رَوْقِهِ". رحِمتُه وقلتُ قد وقع ما عساه يقول وهو أعرابيٌّ جِلْفٌ جافٍ? فلما قال: "قَلَمٌ أَصَابَ من الدَّوَاة مِدَادَها" استحالت الرَّحمة حسداً فهل كانت الرحمة في الأولى، والحسد في الثانية، إلا أنه رآه حين افتتح التشبيه قد ذكر ما لا يحضرُ له في أوّل الفكر وبديهة الخاطر، وفي القريب من محلّ الظنّ شبَهٌ، وحين أتمَّ التشبيه وأدَّاه صادفه قد ظِفَر بأقرب صفةٍ من أبعد موصوف، وعثر على خبيءٍ مكانُه غيرُ معروفٍ، وعلى ذلك استحسنوا قول الخليل في انقباض كفّ البخيل:




  • كفَاك لم تُخْلَقَا للـنَّـدَى
    فكفٌّ عن الخير مقبوضةٌ
    وكفٌّ ثـلاثةُ آلافـهـا
    وتِسْعُ مِئيها لها شِرْعَـهْ



  • ولم يَكُ بُخْلُهما بِـدْعَـهْ
    كما نُقضت مِئةٌ سَبْعـهْ
    وتِسْعُ مِئيها لها شِرْعَـهْ
    وتِسْعُ مِئيها لها شِرْعَـهْ



وذلك أنه أراك شكلاً واحداً في اليدين، مع اختلاف العددين، ومع اختلاف المرتبتين في العدد أيضاً، لأن أحدهما من مرتبة العشرات والآحاد، والآخر من مرتبة المئين والألوف، فلما حَصَل الاتفاق كأشدَّ ما يكون في شكل اليد مع الاختلاف، كأبلغ ما يوجد في المقدار والمرتبة من العدد، كان التشبيه بديعاً، قال المرزباني وهذا ما أبدع فيه الخليل، لأنه وصف انقباض اليدين بحالين من الحساب مُختلفين في العدد، متشاكلين في الصورة، وقوله هذا إجمالُ ما فصّلتُه، ومما ينظُرُ إلى هذا الفصل ويُداخِله ويرجع إليه حين تحصيله، الجنْسُ الذي يُرَاد فيه كونُ الشيء من الأفعال سبباً لضدّه، كقولنا أحسن من حيث قَصَدَ الإساءة ونفع من حيث أراد الضُّرَّ، إذْ لم يقنع المتشاغِلُ بالعبارة الظاهرة والطريقة المعروفة، وصَوَّرَ في نفس الإساءة الإحسانَ، وفي البخلِ الجودَ، وفي المنع العطاءَ، وفي موجب الذمّ موجِبَ الحمد، وفي الحالة التي حقُّها أن تُعَدَّ على الرجل حُكْمَ ما يُعتدّ له، والفعلِ الذي هو بصفة ما يُعاب ويُنكر، صفةَ ما يَقْبَلُ المنّة ويُشكَر، فيدُلُّ ذلك بما يكون فيه من الوِفاقِ الحسن مع الخِلاف البيِّن، على حِذق شاعره، وعلى جُودة طبعه وحِدّة خاطره، وعلوّ مصعَده وبُعْد غوصه، إذا لم يفسده بسوء العبارة، ولم يخطئه التوفيقُ في تلخيص الدلالة، وكَشَفَ تمام الكشف عن سُرر المعنى وسِرِّه بحسن البيان وسِحْره، مثالُ ما كان من الشعر بهذه الصِّفة قولُ أبي العتاهية:




  • جُزَيَ البخيلُ عليَّ صالـحةً
    أُعلِي وأُكْرِم عـن يديه يدي
    ورُزقتُ من جَدْواهُ عافـيةً
    وغَنِيتُ خِلْواً من تفضُّـلِـه
    مَا فاتني خَيْرُ امرئٍ وَضَعتْ
    عنّي يَداه مَؤُونةَ الشُّـكْـرِ



  • عنّي بخِفَّته على ظَهْـرِي
    فَعَلَتْ ونَزَّهَ قـدرُهُ قَـدْرِي
    أن لا يضيق بشُكْرِه صَدْرِي
    أَحْنُو عليه بأحْسَن الـعُـذْرِ
    عنّي يَداه مَؤُونةَ الشُّـكْـرِ
    عنّي يَداه مَؤُونةَ الشُّـكْـرِ



ومن اللطيف مما يُشبه هذا قول الآخر:




  • أعتَقَنِي سُوءُ ما صنعتَ من ال
    فَصِرتُ عبداً للسُّوءِ فيك ومـا
    أحسنَ سُوءٌ قبلي إلـى أَحَـدِ



  • رِقِّ فيا بَرْدَهَا على كَـبِـدِي
    أحسنَ سُوءٌ قبلي إلـى أَحَـدِ
    أحسنَ سُوءٌ قبلي إلـى أَحَـدِ



/ 124