ولاية الله تعالى - بینات من الهدی نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

بینات من الهدی - نسخه متنی

محمد الرصافی المقداد

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید


ولاية الله تعالى






قال تعالى: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون".







وقال أيضا: " ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم المفلحون".







وقال كذلك: "المؤمنون بعضهم أولياء بعض".







ترددت كلمة ولي ومولى وولاية، في عدد من الآيات القرآنية، لتحمل في مضامينها معنى واحدا وهو الحكومة والقيادة، وقد أسست كلها تقريبا لمعالم وأساس نظام الحكم في الإسلام، وكل من حاول الفرار من هذا الفهم إلى تعديد المعاني المحتملة للولي والولاية، سقط في المحظور، ووقع في مستنقع الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ولم يقدم بديلا يمكن الاعتماد عليه والتوجه له. ومسألة الولاية بالمعنى الذي نقصده، لا يمكن للوحي ولا النبي صلى الله عليه وآله وسلم السكوت عنها، لأنها أساس الشريعة، وجوهرة الحفاظ عليها، وسبب لاستمرار الفيض الإلهي.







ولئن كان توجهنا في هذه الورقات، منصب على الآثار المترتبة على الانضواء تحت غطاء الولاية، بما يضع الفرد المؤمن على كفة ميزان الطاعة، ويبين أن للولاية بعد أداء الواجب نحوها وهو البيعة، مؤشران عليهما مدار عمق إيمانه.







الحب والبغض، والولاء والبراءة، والمودة والعداء، أحاسيس تنمو في البشر، وتتفاعل زيادة أو نقصانا، كلما طرأ على القلب طارئ، فأنت عندما تحب أحدا، يكون لحبك سبب دفع بقلبك إلى أن يفسح المجال لذلك الإحساس، كي يستقر فيه وينمو. وأسباب الحب والود عديدة تتراوح بين التفاهة والأهمية، بين أن يكون لك قلب ورد عليه إحساس غرائزي بالحب فيحب شيئا ما، بما انطبع فيه من صور وردت عليه من العين، أو الأذن، وبين أن يكون لك قلب ورد عليه إحساس عقلي روحي بقيمة من القيم، فيهفو لها ويذوب في حبها وينهل من رحيقها الصافي، وشتان بين منخدع بظاهر جسد فان، ليس له من ورائه غير المصلحة الذاتية، وبين متيقن أحب جوهر روح بما انطبع فيها من رفعة وسمو أخلاق، وما بين جامع للجوهر وجامع للأصداف، تتفاوت طبقات الناس.







معرفة الحبيب بالعقل، أنفذ وأعظم من إدراكه بالعين، لأن العين جارحة محدودة المدى بظاهر ما تقع عليه، في حين إن العقل مجاله أوسع وأشمل وأعمق، وان كان كلاهما نافذتان مفتوحتان على القلب، كما إن للقلب بصيرة تميز ما خطر عليه وتردد من مدركات، وصلاح القلب مرتبط بصفاء بصيرته وجلائها، ولا يتحقق ذلك إلا بالنظر في ملكوت الله تعالى، والتأمل في آياته، والتقدير لكتابه وشريعته لأن في ذلك تمام معرفته. قال رسول الله (ص): "ألا إن في الجسد لمضغة، إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله".(1)







وقال (ص) أيضا: "المرء بأصغريه قلبه ولسانه".(2)







و القلب دليل الإنسان في كل ما يعرض له ويتوارد عليه، بل هو إمام البدن، وقائده إلى الخير أو الشر، بما انطبع فيه من قيم، لذلك ترى المولى سبحانه يثني على ذوي القلوب والألباب، أولي البصائر وأرباب العلم والحلم، وأصحاب الحبّ في عدد من الآيات كقوله: "إنما يذّكّر أولوا الألباب"







لأن ذلك الوعاء المركب في أبدانهم، صلح وصفا وطهر ونمى، ليتفبل بذرة الحب الحقيقي وما ستثمره شجرتها.







عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام قال: "إن القلوب ثلاثة: قلب منكوس، لا يعي شيئا من الخير، وهو قلب الكافر، وقلب فيه نكتة سوداء والخير والشر فيه يعتلجان، فأيهما كانت منه غلب عليه، وقلب فيه مصباح يزهر لا تطفئ نوره إلى يوم القيامة، وهو قلب المؤمن(3)







وفي نظري ليس في الوجود حب ثابت غير حب الله تبارك وتعالى، كل حب لا يكون هو أصله وأساسه ومرجعه، وهم منقطع زائل.







قال الله تعالى: "الأخلاء بعضهم لبعض عدو إلا المتقين".(4)







وقال أيضا: "يوم يفرّ المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه"(5)







ذلك لأن أحاسيسهم التي وصفوها بالحب، وعلاقاتهم التي كانت بالصّحبة الوثيقة والقرابة القريبة، محكومة بالعاطفة الزّائفة والمصلحة الآنية، منتهية بفتور العاطفة وانتفاء المصلحة.







ويتملكك العجب من الذين يقطعون البراري والبحار. ويعتلّون ويأرقون من أجل جسد فان ولذّة زائلة، وتزداد عجبا من الذين يضعون حدا لحياتهم بشتى الوسائل، حزنا وجزعا على فراق حبيب بموت أو بغيره، ولا يلتفتون ولا يأبهون لمعرفة الأحق بالحب، والأولى بالعشق والاهتمام، ولو إنهم رجعوا إلى أنفسهم، وثابوا إلى رشدهم وطرقوا بابه، لوجوده عندهم ولبادلهم شعورهم، كما فعل مع كل من انغمس في أنوار حبّه وتعلّق بلطائف ودّه وقربه. قال جلّ من قائل: "فسوف يأت الله بقوم يحبّهم ويحبّونه"(6)







وهو مصداق قول رسول الله (ص) في غزوة خيبر لعلي عليه السلام" غدا أبعث رجلا يحب ّالله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، كرار غير فرار، يفتح الله على يديه".(7)







وذلك بعدما انهزم المسلمون في حملات عدّة على الحصن الأكبر لليهود.







وفي كلامه صلى الله عليه وآله إشارة إلى أن العلاقة بين الله تعالى وعبده لا تكون كاملة وتامة، إلا إذا انغمس العبد من مقام العبودية في جوهر الربوبية، لأن معرفة النفس طريق إلى معرفة الرب، ومعرفة الرب نتيجتها القرب والوصال والحب الذي ليس فوقه شيئ يؤثر.







فما هو الطريق للوصول بالقلب إلى حبّ الله، وتبادل الودّ معه تعالى؟







أول خطوة على طريق الحب الإلهي، هي معرفة المحبوب، فلا يعقل أن نحبّ بلا معرفة، وان وجد في قلوب الناس حبّ بلا معرفة، فهو لا يتعدى كونه إحساس سطحي متقلب غير ثابت، لأنه يصطدم دائما بعائق جهل المحبوب.







ثاني خطوة تأتي اثر المعرفة، هي الإتباع والملازمة، لأن الوصال يقتضي مداومة على الإتباع، واستمرارا في الملازمة، ونتيجة لذلك يأنس القلب ويهنأ بمحبوبه، وتعتريه في الأثناء نفحات العشق، ولفحات الشوق كلما أحس بالبعد عنه، فيسقط كل شيء دون ذلك غير مرتبط به من قلبه، ولا يبقى شيء من أمر الدنيا وحطامها ذا قيمة عنده، إلا ما كان موصولا به، أو موصلا إلى رضاه وحبّه تعالى.







جاء عن الإمام جعفر بن محمّد الصّادق عليه السلام قال: "المشتاق لا يشتهي طعاما، ولا يتلذذ شرابا، ولا يستطيب رقادا، ولا يأنس حميما، ولا يأوي دارا، ولا يسكن عمرانا، ولا يلبس لينا، ولا يقر قرارا، ويعبد الله ليلا نهارا، راجيا الوصول إلى من يشتاق إليه، ويناجيه بلسان شوقه، معبّرا عما في سريرته، كما أخبر الله عن موسى بن عمران عليه السلام، في ميعاد ربّه بقوله: " وعجلت إليك ربي لترضى".(8)







وعلامة حب الله تعالى، نفرتك عما يبعدك عنه، وألفك منه وتعهّد قلبك لجوارحه بمناجاته والثناء له، والتّذلل عنده، والتعهّد لعبادته، والإنشغال به عمن سواه، والخوف منه والرجاء له، والصبر على بلواه، والبكاء على ما أذنبت في حقه، والبكاء على ما فرطت في جنبه، ثم البكاء تعبدا وتلطفا وتخشعا وتبتل، ا بحيث لا يكون هناك أثر ظاهر للحب على المحب غير البكاء، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: "إن شعيب عليه السلام بكى من حب الله عز وجل حتى عمي، فردّ الله عليه بصره، ثم بكى حتى عمي، فردّ الله عليه بصره، ثم بكى حتى عمي فردّ عليه بصره، فلما كانت الرابعة أوحى الله إليه: " يا شعيب إلى متى يكون هذا أبدا منك؟ إن يكن خوفا من النار فقد أجرتك، وان يكن شوقا إلى الجنة، فقد أبحتك. فقال: الهي وسيدي، أنت تعلم أني ما بكيت خوفا من نارك، ولا شوقا إلى جنتك، ولكن عقد حبك على قلبي، فلست أصبر حتى أراك، فأوحى الله جل جلاله: " أما إذا كان هذا هكذا، فمن أجل هذا سأخدمك كليمي موسى بن عمران".(9)







وكذلك سلك أصفياء الله وأخلاؤه وأحباؤه مسلك المعرفة والحب، فوصلوا محبوبهم بما بذلوه من وقت وجهد لطاعته، وأداء حقوقه وتعجل الخير والإكثار منه، والفرار من الشر والتباعد عنه، والغافل في هذه الدنيا الدنيّة من يعتقد أنه محب لله تعالى ومخلص له، ولم يخل قلبه من غيره ويفرغه له. أشرك حب من دونه، وجفا مواعيد لقائه، ولم يتعاهد أسحار ليله لقربه ومناجاته. قال تعالى: "ففرّوا إلى الله إني لكم منه نذير مبين"(10)







وقال أيضا على لسان موسى بن عمران عليه السلام: " وعجلت إليك ربي لترضى".(11)







وكل فرار مذمة ونقيصة وجبن، غير الفرار إليه تعالى من أنفسنا الأمارة بالسوء، وجرأتها عليه باقتحامها مواطن غضبه، وارتكابها من الذنوب ما يحول بينها وبينه، وكل عجلة غير محمودة غير العجلة إليه تعالى ليرضى، وما الحب إلا فرار إلى الحبيب، وعجلة وتعجل لنيل وصاله ورضاه.







أول باب محبة الله تعالى: حبّ الأدلاء عليه، وهم وسائطه بينه وبين خلقه، لان حبهم وموالاتهم وإتباعهم عائد إليه تعالى: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله".(12)







ولما كان الله متعاليا مرتفعا ومحتجبا عن خلقه بخلقه، كانت العلة من إرسال وتعيين الأئمة وإيتاء الحكمة وفصل الخطاب لمن ارتضى من أوليائه، أمر لسائر البشر بإتباع الهداة واقتفاء أثر التقاة بواسطة السفير الأعظم، والرسول الأكرم، ومن خلال الاقتداء والإتباع والطاعة، تنفتح على القلب فسح المعرفة والحب، وتنتشر في أرجائه عبق العشق الإلهي، كلما انغمس السالك في بحر إدراكه، فهو أول العرفين لذاته المقدّسة، وقربه منها وانجذابه لها يبين الحظوة، ويبرز المكانة التي لا يدانيها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولو لم يكن رسول الله صلى الله غليه وآله أول العارفين بالله، لما تمكن من العروج إليه والقرب منه. بذل الحب له حتى خلص لذاته المقدسة، فصار حبيبا لها. إن الذين يقولون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشر كسائر الناس، تأويلا خاطئا لظاهر الآية الكريمة: " قل إنما أنا بشر مثلكم". قد استدلوا بكلمة حق أرادوا بها باطلا من حيث لا يعلمون، ذلك أن المعنى الذي قصدته الآية يتجه إلى جنس النبي صلى الله عليه وآله، وكونه من البشر، وفي ذلك إشارة إلى المرتبة الرفيعة التي تنسمها، وليس إلى الاعتقاد بأنه بشر يخطئ ويصيب مما يستوجب نفي العصمة عنه وعن سائر الرسل عليهم السلام، ولعل الاستنكارات التي جاءت بها الآيات على لسان المشركين والمنافقين والكافرين، والتي نقول أنهم لم يستسيغوا أن يرسل الله سبحانه وتعالى بشرا مثلهم ليهديهم إليه، لما يروه في أنفسهم من مفارقات واحتياجات بشرية تضعف الجانب الرسالي للدور الموكل إليه في تصورهم، لجهلهم بالإعداد الإلهي لذلك البشر وتهيئته تعليما وإرشادا وتسديدا وتأييدا وحفظا، ليقوم بدوره على أكمل وجه، لذلك فانك تراهم يعجبون ويستنكرون ويصدون عنه صدودا.







قال الله تعالى: " ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولّوا.."(13)







وقال أيضا: " وما منع الناس أن يؤمنوا إذا جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا. قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا".(14)







وقال أيضا: " وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون. ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون".(15)







فلا معنى إذا من ذلك التصنيف، غير قصور المشركين ومن يعتقد فكرتهم، عن فهم مقام النبوة، ولم يكن الرّد القرآني على ذلك إلا زيادة في الإعجاز، وسنة الإلهية في إرسال الرسل إلى المخلوقات بحسب أجناسهم.







صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وآله بشر مثلنا، يأكل كما نأكل وينام كما ننام ويولد ويتزوج ويلد ويمرض ويموت، ولكنه غيرنا في السريرة والسلوك، حتى الطينة التي خلق منها المولى سبحانه وتعالى رسوله الأعظم وآله الطاهرين عليهم السلام، مخصوصة مخزونة عن طين بقية الخلق.







عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "كنت أنا وعلي نورا بين يدي الله عز وجل مطيعا، يسبح لله ذلك النور ويقدسه قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق الله آدم ركب ذلك النور في صلبه، فلم يزل في شيء واحد حتى افترقا في صلب عبد الطلب، فجزء أنا وجزء علي".(16)







فكيف يستوي هذا النداء وذلك الادعاء، قال تعالى: "وما يستوي العمى والبصير. ولا الظلومات ولا النور. ولا الظل ولا الحرور. وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور".(17)







ومحبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله توجب بل تحتم علينا تنزيه عن كل شبهة ونقيصة، كدعوى من ينتسب إلى سنته بنسبة بعض النقائص له كذبا وبهتانا وجهلا وهذيانا، ويرفعون بعد ذلك لافتة حبه وشعار مودته، وهما بعيدتان عنهم بعد المشرقين، وإلا كيف تنسجم محبتهم له صلى الله عليه وآله مع ما أخرجوه في كتب رواياتهم من كون خاتم الأنبياء والمرسلين يصدر عنه ما يستحي منه أقل المخلوقات، كالتبول واقفا، وارتكاب المحرمات كإتيان الحائض، وقول الكفر، وغير ذلك مما يطول بنا المقام فيه، وآخرها نسبة العبوس والتولي إليه في سورة عبس، رغم أن الآية لم تكن موجهة للرسول صلى الله عليه وآله بأي حال، لأن ضميرها مبني للمجهول، ولم تجر عادة خطاب المولى سبحانه وتعالى، لرسوله الأكرم صلى الله عليه آله وسلم على ذلك النحو، بل كان يوجه إليه كلامه دائما بضمير المخاطب، ولم يخاطبه باسمه، بل كان يناديه بصفته إكراما له.







أما العبوس والتولي، فلم تكن من صفاته صلى الله عليه وآله، ولم يؤثر عنه أنه عبس في وجه أحد أو تولى عنه، حتى لو لم يحدث أمر بتجنب ذلك، لأن الله تعالى أدبه فأحسن تأديبه، كما يقول صلى الله عليه وآله، ولأن المولى سبحانه وتعالى أمره قبل نزول سورة عبس أن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين، وبالإعراض عن المشركين، ولو قدر أن فعل كما قالوا، لكان ذلك مخالفة لأوامر مولاه، مع ما اتصف به أخلاق رفيعة، وعفة نفس وتزكية القرآن الكريم لذلك بقوله: "وإنك لعلى خلق عظيم" وقوله: " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم".(18)







فتعظيم خلقه صلى الله عليه وآله من قبل المولى سبحانه وتعالى في الآية الأولى، وحرصه ورأفته ورحمته بالمؤمنين في الآية الثانية، ما يدحض دعوى العبوس والتولي اللذان هما من مساوئ الأخلاق، بل من صفات المنحرفين والجهلة، مثلما حدّث القران بشأن الوليد بن المغيرة فقال: " ثم عبس وبسر".(19)







ويستمر خط إلصاق الموبقات بالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله في المضي قدما بما يحتفظ به من روايات موضوعة رافضا التخلي عنها بدعوى أن من نقلها قد ميزها من آلاف الأحاديث الصحيحة، حتى تولدت فيهم عقلية قبول صدور الذنب من النبي صلى الله عليه وآله ورفضه من الصحابي، لذلك تراهم يقبلون إلصاق هذه التهمة دون بينة برسول الله صلى الله عليه وآله، ولا يقبلون النص الصريح في نزول الآية بعثمان بن عفان، الذي عبس وتولى عندما جلس بجنبه ابن أم مكتوم، تقذرا وتأففا منه، وإلصاق النقيصة بالمصطفى صلى الله عليه وآله ليست من علامات المعرفة والحب، لان المحب عادة ما يكون غيورا على حبيبه.







و تنزيه الأنبياء والرسول والأوصياء عن ارتكاب المعاصي، واقتراف الجرائر كبيرها أو صغيرها، عمدها أو سهوها، واجب على كل موحد، لأن النبوة والإمامة مقامين جعلهما المولى سبحانه وتعالى ليكونا دليلين عليه أولا، وليقتبس الناس منهما أنوار المعرفة والقرب، وإشراق الحب والأنس، من دون شك فيما يصدر عنهم ثانيا، وأخيرا لأن الشك تعطيل لقبول الأوامر والنواهي، وانقطاع عن الإقتداء والاتباع، وإذا تعطلت الغاية من إرسال الحجج على الخلق، وهي البلاغ والإنذار والهداية لم يستقم الدور، وذلك محال في حكمة المولى سبحانه وتعالى.







ثاني أبواب محبة الله سبحانه وتعالى حب أهل بيت النبوة، ومهبط الرسالة، ومنزل الوحي، ومختلف الملائكة عليهم أفضل صلاة وأزكى تسليم، فلا دين لمن لم يتدين بحبهم، ولا ملاذ لمن غفل عن بيوتهم، ففي بيوتهم نزل وحي الله على جدهم عليه وعليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وفي أفنيتها كان صوت جبريل عليه السلام ينطق بآيات ربهم. هم الذين نزل بينهم الذكر، وهم المستحفظون عليه، سنة الله تعالى في الاصطفاء، ولن تجد لسنته تبديلا. وعندما استعاض رسول الله صلى الله عليه وآله أجر رسالته بمحبة أهل بيته، كما أمره المولى سبحانه وتعالى في الآية الكريمة: " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى"(20)، لقد اجمع المفسرون انه لما نزلت هذه الآية تساءل من كان حاضرا من الصحابة". من الذين وجبت علينا مودتهم من أهل بيتك يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم علي وفاطمة وأبنائها"(21) لقد كان منتظرا من الأمة الإسلامية في كل عصر أن تمتثل لأمر الله تعالى في محبة أهل البيت عليهم السلام، لأنهم أهل لذلك، ولأن ذلك من الدين، وهذه المودة ليس كما يعتقده ويتدين به كثير من الناس، ويعتبرونها شفقة ورأفة، وإننا هي معرفة وحب والتزام واقتداء، يتلخص ذلك كله في طاعتهم عليهم السلام.







وقد حض الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على محبة آله الكرام في أحاديث كثيرة، نختصر منها ما تقوم به البينة، وتستبين به سبيل الولاء لهم، فقد قال صلى الله عليه وآله: "أربعة أنا شفيع لهم يوم القيامة، المكرم لذريتي، والقاضي لهم حوائجهم، والساعي في أمورهم، والمحبذ لهم بقلبه ولسانه".(22)







وقال صلى الله عليه وآله أيضا: "الحسنة كل الحسنة حبنا أهل البيت، والسيئة بغضنا".(23)







وقال صلى الله عليه وآله أيضا: " فاطمة مهجة قلبي، وأبنائها ثمرة فؤادي، وبعلها نور بصري، والأئمة من ولدها أمناء ربي، حبل ممدود بينه وبين خلقه، من اعتصم بهم نجا ومن تخلف عنهم هوى".(24) وقال صلى الله عليه وآله أيضا: " من أحبني وأحب هاذين وأباهما، كان معي في درجتي يوم القيامة"(25)







وقال صلى الله عليه وآله أيضا: "إنما يحب محمد لله، وإنما يحب آل محمد لمحمد، فمن شاء فليقلل ومن شاء فليكثر".(26) وقال أمير المؤمنين عليه السلام: " لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على إن يبغضني ما ابغضني، ولو صببت الدنيا على منافق يحبني ما أحبني، ذلك أنه قضي فانقضى على لسان النبي الأمي صلى الله عليه وآله انه لا يبغضك مؤمن، ولا يحبك منافق"(27)







الدين كل الدين ليس إلا توليا وتبريا، توليا لأولياء الله، وما يستوجبه ذلك من المعرفة والحب والاقتداء والإتباع والنصرة والمؤازرة، وتبريا من أعدائه وما يستوجبه ذلك من معرفتهم وبغضهم ومقاطعتهم ومناوئتهم وحربهم. وان كنت من أهل الدين، فابحث داخل قلبك عن التولي والتبري، فان وجدت لهما مكانا فانك على خير، وان لم تجد أحدهما فانك تتأرجح بين طريقي الهداية والغواية، وإن لم تجد كليهما فكبّر على دينك وعمرك الذين ضيعتهما خمسا.







واعلم أنه ليس في بيوتات الإسلام، ولا في بيوتات الأنبياء والمرسلين عليهم السلام.، أفضل من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيت علي عليه السلام.







وحادثة سدّ أبواب الصحابة إلا باب علي عليه السلام، إشارة لطيفة إلى أنه الباب الوحيد الذي لابد للمسلم أن يرد للدين منه بعد النبي صلى الله عليه وآله، وبيان لقوله تعالى: "ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وآتوا البيوت من أبوبها واتقوا الله لعلكم تفلحون"(28)







وكل من لم يرد باب الإمام علي عليه السلام بعد النبي صلى الله عليه وآله، فقد أتى الإسلام من ظهره، ومن أتاه من غير وجهته، فلن يصيب شيئا. ولو لم تكن محبتهم فريضة جاء بها الدين، لكان من باب المروءة ورد الجميل أن نحبهم ونذوب في ودهم، لأنهم معدن الرسول وأصله، وبقيته في أمته، والمستحفظون على رسالته. تقدموا علينا إسلاما وإيمانا، وعلما وعملا، ونسبا وكرامة، وخلقا وخلقا، والتاريخ والسيرة النبوية يشهدان أن عليا عليه السلام لم يتقدم غليه أحد من الصحابة، بل كان قائدهم ورئيسهم، ولم يكن لواء الحمد إلا معه. ومن أخبرنا النبي صلى الله عليه وآله أنه صاحب لوائه يوم القيامة، أفلا يكون تأخيره عن مكانته انقلابا، وعنوان كراهية وبغض؟ وان عجبت يوما من شيء، فأعجب من أمة تركت قائدها الشرعي، وحاكمها الأولى، لتسير وراء جندي فاشل من جنوده، فرمن حنين وأحد وإنهزم في خيبر شر هزيمة، ولم يذكر له ولصاحبه قتيلا واحدا في المعارك التي خاضها النبي صلى الله عليه وآله.







قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " أنا سيد من خلق الله عز وجل، وأنا خير من جبريل وميكائيل واسرافيل وحملة العرش، وجميع ملائكة الله المقربين، وأنبياء الله المرسلين، وأنا صاحب الشفاعة والحوض الشريف، وأنا وعلي أبوا هذه الأمة، من عرفنا فقد عرف الله، ومن أنكرنا فقد أنكر الله، ومن علي سبطا أمتي سيدا شباب أهل الجنة الحسن والحسين، ومن ولد الحسين أئمة تسعة، طاعتهم طاعتي ومعصيتهم معصيتي تاسعهم قائدهم ومهديهم(29) عن الصادق عليه السلام قال: " إن الله خلقنا من نور عظمته، ثم صور خلقنا من طينة مخزونة مكنونة تحت العرش، فأسكن ذلك النور فيه، فكنا نحن خلقا وبشرا نورانيين، لم يجعل لأحد في مثل الذي خلقنا منه نصيبا"(30).







وكما كنت أسلفت القول في بداية بحثي، بأن الحب يستوجب تناغما بين المحب وحبيبه، ونتيجة يرجوها عاجلا أو آجلا، كما في الحديث الشريف: " يحشر المرء مع من أحب"(31).







وقد قال أحدهم في مدح أهل البيت عليهم السلام:










حـبكم آل بيت رسول اللهفـرض من الله فـي القرآن أنزله
يكفيكم من عظيم القدر أنكممن لم يصل عليكم لا صلاة له(32)







فكيف يدعي مدّع حب أهل البيت عليهم السلام، ولا يظهر منه ما يدل على ذلك؟ أم كيف ينتسب للإسلام من قال أنا أولى بأهل البيت، ثم تراه لا يرد حياضهم حتى على سبيل التطلع إلى آثار الحبيب، إذا كان هناك حبيب من الأساس؟ بل لعله يستقي دينه عمّن ناصب لهم العداء، وحاربهم وقتلهم من حيث يدري أو لا يدري. ولو قدر للحيّز الزمني الذي يفصله عن صفين، أو الجمل، أو النهروان، أو كربلاء، أو غيرها من حروب ومحن أهل البيت عليهم الصلاة والسلام أن ينحسر، لوجد الواهم نفسه مع أصحاب السقيفة، الأساس الأول للظلم المسلط على أهل البيت عليهم السلام، وما أفرز من انحرافات وانتهاكات كادت تذهب بالدين من جذوره، ولكان كلما تقدم في الزمن متنقلا بين طاعة ظالم، أو طليق منافق، أو خارجي منحرف عن الحق.







المحبة ليس لها معان أو مفاهيم عديدة حتى نتردد في أدائها، فأنت عندما تحب الله سبحانه وتعالى، لابد أن تستجيب لكل أوامره ونواهيه، وتطيع أهل بره، وأنت عندما تحب رسوله الأكرم صلى الله عليه وآله، لابد أن تقدمه على كل شيء حتى نفسك، كما قال المولى تعالى: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم".(33)







وقد جاء في كتب الحديث المعتمدة، أن عمر بن الخطاب جاء للنبي صلى الله عليه وآله فقال: والذي نفسي بيده لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي التي بين جنبي. فقال رسول الله (ص) لا يؤمنن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه". فقال عمر: لأنت أحب إلي من نفسي. فقال رسول الله (ص): " الآن يا عمر؟ "(34) استنكارا ولوما، وليس إلى ما ذهب إليه من أعماه حب ذلك الرجل إلى تفسير قول رسول الله صلى الله عليه وآله، أي الآن كمل إيمانك. ولا أرى عاقلا مدركا للحب ومعانيه وآثاره يؤمن بأن قناعة عمر بتقديم نفسه على النبي لا يمكن أن تتغير فجأة وبدون مقدمات. وقد كشفت الرواية عن نزعة الرجل الميالة إلى الاستكبار حتى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولو كان تغيره الذي ذهب إليه هؤلاء العميان صحيحا، لكان له موقف آخر في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في أخريات حياته الشريفة، وفي مرضه الذي توفي منه، عوض التعرض له ومنعه من كتابة وصيته، وادعاؤه بأن النبي صلى الله عليه وآله يهجر، وموقفه من موت النبي صلى الله عليه وآله كان مريبا بحيث زعم بأنه لم يمت، وحتى بعد أن استقدم صاحبه في السقيفة لم يتغير في شيء، ولم يظهر منه حزن ولا ذرف دمعة، ولا شهد دفنه صلى الله عليه وآله، ثم كان منه ما كان بشان ميراث النبي، ومداهمته لبيت فاطمة سيدة نساء العالمين عليها السلام، فعن أي حب يتحدث هؤلاء؟ تلك نماذج من أصحابهم، تكشف عن زيف ما يفترونه.







أنت عندما تحب رسول الله صلى الله عليه وآله، تسعى جهدك للتأسي به والاقتداء بشخصه، فضلا عن توقيره، ووضعه موضعا أسمى من النفس، وأنت عندما تحب عليا وفاطمة والحسن والحسين، فان ذلك الحب فيض من حب رسول الله صلى اله عليه وآله، وامتداد له، يحتم عليك أن تتبع آثارهم، وتتخلق بأخلاقهم، وتنهل من علومهم، لأنها من آثار وأخلاق وعلوم رسول الله صلى الله عليه وآله.







ثم لابد للمحب أن يكون مع محبوبه في الخير والشر، والحزن والفرح، لأن من نحبهم أولياء الله وأحباءه، أحياء عند الله تعالى يرزقون، الشهداء على الخلق يوم القيامة وفرحك أيام مواليدهم وأيام أفراحهم التي هي أيام الله تعالى من مستلزمات حبهم ومودتهم، وحزنك عند شهاداتهم ووفاياتهم، وفي كل حزن أصابهم، هو أيضا من مستلزمات ذلك الحب والطرف الذي لا يشارك الطرف الآخر أحاسيسه أيا كانت، فانه لا يعتبر محبا كما لا يكون الطرف الآخر قابلا للحب.







ولا يكون الحب ذا قيمة ومعنى إلا إذا فاض على الجوارح من القلب ولاء وتعلقا، ففرح شيعة آل محمد لفرح آل محمد، وحزنهم لأحزان ومصائب آل محمد من مستلزمات الحب الحقيقي، ونتيجة طبيعية لذلك التعلق والولاء، والمحب الذي لا يأبه لذلك لا يعتبر محبا، وإنما هو متوهم للحال، أو كاذب مدع لما لا وجود له في قلبه.







والدعوى التي تظهر من حين لآخر، مستنكرة ظاهرة الحزن والعزاء على مقتل الأبرار من آل محمد صلى الله عليهم، والاستمرار على ذلك التنديد والاستهجان لا يخلو من جهل بحال تلك الظاهرة وعدم إدراك لها، وهي من الخطورة بما كان، ومدعاة لانسلاخ المسلم عن عقيدته، تماما كما تنسلخ المحبة عند جفائها من قلوب أصحابها.







وشخص في مقام الإمام الحسين عليه السلام، ومن معه من الأطهار من أهل بيته والنجباء من صحابته، غير خاف على كل موحد، وكيف يخفى سيد شباب أهل الجنة، وريحانة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، وابنه وقرة عينه وشبيهه، وجرأة المسلمين من أبناء الصحابة في ذلك العصر، وإقدامهم على قتل الطاهرين عليهم السلام، من نزل في خصوصهم أمر محبتهم ومودتهم، هو في حقيقته قتل للنبي صلى الله عليه وآله، ومحق للدين وجرأة على الله تعالى لا توازيها جرأة. إن أي مسلم لم يسترجع ألم تلك المحن، وخصوصا فاجعة كربلاء ومقتل الأطهار فيها، ولم تحزنه تلك الفاجعة حزنا يفيض من القلب إلى العين دموعا فليراجع نفسه لأن في قلبه خلل لا بد من تداركه قبل فوات الأوان.







ومن المسلمين اليوم من يتعلل بأن الحادثة قد مر عليها أربعة عشر قرنا، عفا الدهر عنها، ومن المبالغة الاستمرار على ذلك النحو وتلك الوتيرة من إحياء لمراسمها، هروبا وتنصلا وجهلا، دون الالتفات إلى أن كل جيل من المسلمين مرتهن بتكليفه، ومحبة آل الرسول صلى الله عليه وآله ومودتهم تقتضي ذلك. وقد وجب علي أنا واحد من هذا الجيل أن أقدم لله تعالى امتثالا لأمره في مودة قربى النبي، وان استجيب للرسول في دعاني إليه من محبة علي وفاطمة والحسن والحسين وبقية ذريته الطاهرة، فافرح لفرحهم واحزن لحزنهم ن طالما أن ذلك هو تكليفي الآن ودليلي الذي أقدمه لسلسلة الولاية بأنني من أحباء الله تعالى وأحباء أوليائه، ولو قدر أن أكون في عصره لما تخلفت عنه ولكنت من المستشهدين بين يديه.







ويأتي أناس ممن ينتسب للإسلام، ويدعون حب أهل البيت عليهم السلام، يستكثرون البكاء على الإمام الحسين عليه السلام، والرسول الكرم صلى الله عليه وآله يقول: " من بكى على الحسين في محنته يوم عاشوراء كان معه في درجته يوم القيامة".(35) ن وقد كان النبي صلى الله عليه وآله أول الباكين، عندما أنبأه جبريل عليه السلام بأن أمته ستقتل ابنه الحسين، وكان بكاءه شديدا وتكرر كلما رأى الحسين عليه السلام، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله قد بكى عليه قبل شهادته عليه السلام بعشرات السنين، وهو أمامه حي يرزق ينعم بملاطفته ومداعبته، فكيف لا نبكي عليه نحن بعد شهادته استيفاء للمودة التي تعدل أجر الرسالة. كما أننا نبكي في الحسين المثال المجسد للإسلام بكل أبعاده وتفاصيله والقدوة العظيمة التي غيبها الظلم عن مجتمع إسلامي لا يدرك معنى المثال والقدوة، رضي أن ينخرط في حزب عبيد الدنيا، وانطفأت المثل عنده، فلم يبق لديه غير موالاة الظالمين.







والإمام الحسين عليه السلام غير محتاج لبكائنا عليه، بل نحن المتحاجون لمزيد من الدموع والعاطفة حتى تتطهر قلوبنا، وتصفو وتنزوي عن الدنيا، لأن قاتلي الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه كانوا عبيدا للدنيا، وأصحاب مصلحة آنية، لا نظر لهم غير البهارج والزخارف والمتاع الفاني، في حين كان أبو عبد الله الحسين بن علي عليهما السلام يريد إصلاح ما أفسده المفسدون في دين جده المصطفى صلى الله عليه وآله. وإذا لم نبك على مثال كريم وإمام عظيم مثل الإمام الحسين عليه السلام، فهل ترى قلوبنا تبكي على الحق وهو ينقطع، والدين الخاتم وهو ينحسر مفاهيما وقيما صافية من تفاصيل حياة المسلمين.







البكاء على الإمام الحسين عليه السلام تربية وتوطين للقلب والنفس على الشعور والإحساس بما تربطنا به أواصر الدين ووشائج القربى، وباقي بني البشر الذين لا حول لهم ولا قوة لا بالله، حتى الحيوان الذي لا يعي من الدنيا شيئا غير ما يحصله في بطنه وفرجه وما أدعه الله تعالى فيه من ذكر وتوحيد مطالبون بالإحساس به والشعور بما يعتريه كما قال الشاعر:










عـش بالشـعور وللشعور فإنمادنـياك كـون عـواطف وشعور
شيدت على العطف العميق وإنهالتجف لو شيدت على التفكير(36)







وإذا كان يعقوب نبي الله عليه السلام قد بكى على فراق ابنه يوسف عليه السلام حتى ابيضت عيناه (عمي) وهو يعلم يقينا أنه لم يمت أفلا نبكي لحل على جريمة بشعة فى حق ذرية الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ومواساة له، وحزنا معه، وتعزية ومساندة لأهل البيت عليهم السلام، بأبسط ما يمكن أن يقدمه موال لهم وهو الحزن والدموع، ولو كان في اليد حيلة لفديناهم بأرواحنا، فمعكم سادتي معكم، لا مع أعدائكم ولا مع الجاهلين لحقكم ومكانتكم، وإذا كانت هناك كرامة من الله علينا نحن محبوا وشيعة أهل البيت عليهم السلام فهي محبتكم ومودتكم.







ثالث أبواب محبة الله تعالى هو حب العلماء، وطاعة المراجع والفقهاء، واتباع نصائحهم وإرشاداتهم، لأنهم أمناء الله تعالى على شريعته، والأدلاء على هدي وسائطه، أنزلهم منزلتهم، وأعطاهم المكانة التي تؤهلهم للإشراف وقيادة الأمة في غيبة المعصوم عليه السلام. ضربوا لنا أمثلة عدة على مر التاريخ في الحزم والعلم والتقوى، وكانوا بحق نماذج، يؤخذ بها ويرجع إليها، تمسكا من الثلة المؤمنة بناصية الحق، وتطبيقا لأمره عليه السلام الذي قال فيه: " فأما من كان من فقهائنا، صائنا لنفسه حافظا لدينه، مخالفا لهواه، متبعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه". فكان من الواجب على كل مؤمن ومؤمنة، أن يسارع إلى الأخذ بفتاوى من يرونه الأعلم والأعدل من مراجع الأمة الكرام.







على أنه ظهر في العصر الحديث ما قد يغير من ذلك التصور الصحيح، إلى واقع آخر أصح منه، وأكثر حجة، وهو اتباع ولاية الفقيه، التي جاء بها الإمام روح الله الموسوي الخميني قدس سره الشريف، استنادا إلى مضامين الروايات التي تؤكد على ضرورة تقليد واتباع الفقيه العادل، وبانتصار الثورة الإسلامية المباركة في إيران على يد ذلك المصلح العظيم، وجد المؤمنون أنفسهم أمام واقع جديد، وحقيقة تقول: إن خط الفقاهة لا بد له من أن يأخذ بتفاصيل الحياة من الناحيتين التشريعية والتنفيذية، ويضع يده على زمام القيادة التي كانت بعيدة عن متناوله في العصور القديمة. فكان لمفجر أعظم ثورة إسلامية عرفها التاريخ أن أعاد الاعتبار للفقيه الأولى والأعلم والأقدر على قيادة الأمة، في أن يباشر مهمته التي أبعد عنها قرون طويلة، كما أبعد أصحابها الحقيقيون من أئمة أهل البيت عليهم السلام، تكريسا لدعوى فصل الدين عن الحياة،.







وقد ذكر الله تعالى العلماء في كتابه فأثنى على الصالحين منهم.







قال تعالى: " وما يعقلها إلا العالمون".(37)







وقال أيضا: "هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون".(38)







وقال كذلك: "يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات".(39)







وأمة بلا علماء يميزهم العمل بما علموا، ليكونوا للناس مثلا وقدوة يحتذى بها، لا تساوي شيئا في معادلة تمييز الأمم، وحري بها أن تبقى أبد الدهر بعيدة عن الفهم والمعرفة والتطور، تتقاذفها أمواج الفتن والجهل، وتفتك بأوصالها صيحات العصبية ونعيق الجاهلية. فلا شيء أعود على الأمم من إتباع العلماء العدول وأخذ الفقه عنهم، وطاعتهم وموالاتهم، لأنهم ورثة الحق جل جلاله، وحملة شريعته من بعد أهل العصمة من أنبياء وأئمة هداة.







قال الإمام الباقر عليه السلام: " عالم ينتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد".(40)







وقد حث الأئمة الهداة عليهم السلام على اتباع عدد من تلامذتهم لما لمسوه من كفاءتهم، وتأسيسا للمرجعية في المستقبل، فكانوا يأمرون أتباعهم بالعودة في المسائل إلى شخصيات ذكروها بالاسم، فحكم أولئك وفق تعاليم الأئمة عليهم السلام، ورضوا بما كانوا ويفتون به.







وروي عن الإمام الرضا عليه السلام عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " طلب العلم فريضة على كل مسلم، فاطلبوا العلم في مظانه، واقتبسوا من أهله، فإن تعلمه لله حسنة، وطلبه عبادة والمذاكرة به تسبيح، والعمل به جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة إلى الله، لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبيل الجنة، والمؤنس في الوحشة، والصاحب في الغربة والوحدة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والزين عند الأخلاء يرفع الله به أقواما ويجعلهم في الخير قادة، تقتبس آثارهم، ويقتدى بأفعالهم، وينتهى إلى آرائهم، ترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، وفي صلاتها تبارك عليهم، ويستغفر لهم كل رطب ويابس، حتى حيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه".(41)







فمقام العالم خطير في الأمة إذ به يعرف الحق، ويجتنب الباطل، ويعبد الله تعالى بواسطته حق عبادته. به تتم خصائص الحكومة، وإليه ينتهي مقامها، لأن كل شريعة لا تقرأ حسابا لقيادة تكون من جنسها، لا يمكنها أن تحافظ على نقاء تفاصيلها، ولا تجذره في الناس.







إذا يمكن الخلوص إلى أن خط ولاية الفقيه ليس بدعا من القول، وإنما هو تجسيد للإمامة العادلة من ناحية، وامتداد لحركة الإمامة المعصومة من ناحية أخرى، به يجمع أمر الأمة، ويتوحد صفها، وهي أحزم في أمر الأمن من الفرقة والاختلاف.







رابع أبواب محبة الله تعالى هو حب أوليائه وشيعته، لأن أساس الدين الحب في الله والبغض في الله، كما في حديث أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: " كل من لم يحب في الدين، ولم يبغض في الدين، فلا دين له".(42)







لذلك بني الدين، وعلى ذلك الأساس قامت دعائمه، فأنت عندما تسعى لنيل حب الله تعالى، قد حددت وجهتك لأنه أصل كل حب، وأهل كل حب، واليه ينتهي مصير كل حب. ولأن حبك إياه انغماس في رضاه، ولجوء إلى كهف عظمته، وتمسك بأواصر سرمديته، وتفعل كل ما في وسعك من أجل أن تأخذ بوده وقربه، ولا يكون ذلك إلا باقتفاء سبيل أحبائه من أنبياء ورسل وأوصياء وعلماء ومؤمنين، لذلك عليك أن تسلك مسلك محمد وعلي، أو مسلك علي ومحمد لا فرق في التقديم والتأخير لأنهما نفس واحدة، ونور واحد، وان لا ترى شيئا إلا ويكون الله تعالى قبله وفيه وبعده، كما صرح بذلك أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام.







عن أبي عبد الله عليه السلام، قال رسول الله صلى الله عليه وآله لأصحابه: " أي عرى الإيمان أوثق؟ فقالوا الله ورسوله أعلم، وقال بعضهم: " الصلاة". وقال بعضهم: "الزكاة". وقال بعضهم: " الصيام". وقال بعضهم: " الحج لله والعمرة". وقال بعضهم: " الجهاد". فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: " لكل ما قلتم فضل، وليس به، ولكن أوثق عرى الإيمان، الحب في الله والبغض في الله، وتولي أولياء الله، والتبري من أعداء الله".(43)







وعن علي بن الحسين عليه السلام قال: " إذا جمع الله الأولين الآخرين، قام مناد فنادى يسمع الناس، فيقول: " أين المتحابون في الله. قال فيقوم عنق من الناس، فيقال لهم أدخلوا إلى الجنة بغير حساب. فتتلقاهم الملائكة فيقولون: إلى أين؟ فيقولون إلى الجنة بغير حساب،. قال فيقولون فأي حزب أنتم من الناس؟ فيقولون نحن المتحابون في الله، قال: فيقولون: وأي شيء كانت أعمالكم؟ قالوا: كنا نحب في الله، ونبغض في الله. قال: فيقولون: نعم أجر العاملين.(44)







وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: " ما التقى مؤمنان قط إلا كان أفضلهما، أشدهما حبا لأخيه".(45)







فلا تغرنك كثرة صلاة المرء، ولا صيامه ولا بقية مناسكه، طالما لم ينعكس ذلك على سلوكه ليفيض على المؤمنين تواضعا وذلة وصلة ولو بالقليل، وعلى الناس سماحة ورحمة، لأن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله رحمة الله تعالى المهداة إلى البشرية، كان أول المبادرين إلى مكارم الأخلاق، والساعين إلى خدمة المؤمنين وتأليف الناس، ورسالته الخاتمة جاءت لتؤكد على معاني الرحمة والأخوة في الله تعالى، لأننا وبكل بساطة منه وله واليه. ومن لم تسكن في نفسه الرحمة، ولم تزين أعطاف حركاته مكارم الأخلاق، فليس من الدين في شيء، ولن تقوم للدين قائمة طالما أن أهله متباعدون عن حقوق بعضهم، متنافرون عن المحبة والود الذي يميز الظاهرة الإسلامية الحقة.







وقد روى معلى بن خنيس عن أبي عبد الله عليه السلام قال قلت له: " ما حق المسلم على المسلم، قال: سبع حقوق وواجبات ما منهن حق إلا وهو عليه واجب إن ضيع منها حقا خرج من ولاية الله تعالى وطاعته، ولم يكن لله فيه نصيب. قلت جعلت فداك ما هي؟ قال: " يا معلى إني عليك شفيق، أخاف أن تضيع ولا تحفظ، وتعلم ولا تعمل. قال قلت له: لا قوة إلا بالله. قال: " أيسر حق منها أن تحب له ما تحب لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك.







والحق الثاني أن تتجنب سخطه، وتتبع مرضاته وتطيع أمره.







والحق الثالث أن تعينه بنفسك ومالك ولسانك ويدك ورجلك.







والحق الرابع أن تكون يمينه ودليله ومرآته.







والحق الخامس أن لا تشبع ويجوع، ولا تروى ويظمأ، ولا تلبس ويعرى.







والحق السادس أن يكون لك خادم، وليس لأخيك خادم، فواجب أن تبعث خادمك فيغسل ثيابه، ويصنع طعامه، ويمهد فراشه.







والحق السابع أن تبر قسمه، وتجيب دعوته، وتعود مريضه، وتشهد جنازته، وإذا علمت أن له حاجة، تبادره إلى قضائه، ولا تلجئه إلى أن يسألكها، ولكن تبادره مبادرة.







فان فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته، وولايته بولايتك.(46)







وعن أبان بن تغلب قال: كنت أطوف مع أبي عبد الله عليه السلام، فعرض لي رجل من أصحابنا، كان سألني الذهاب معه في حاجة، فأشار إلي، فكرهت أن أدع أبا عبد الله عليه السلام وأذهب إليه، فبين أنا أطوف إذ أشار إلي أيضا، فرآه أبو عبد الله عليه السلام، فقال: " يا أبان إياك يريد هذا؟ قلت: نعم. قال: فمن هو؟ قلت: رجل من أصحابنا. قال: هو على ما أنت عليه؟ قلت: نعم. قال: فاذهب إليه. قلت: وأقطع الطواف؟ قال: نعم. قلت: وان كان طواف الفريضة؟ قال: نعم. فذهبت معه، ثم دخلت عليه فسألته فقلت: أخبرني عن حق المؤمن على المؤمن؟ فقال عليه السلام: يا أبان أدعه لا ترده. قلت: بلى جعلت فداك، قال: يا أبان لا ترده. قلت بلى جعلت فداك، فلم أزل أرده عليه، فقال: يا أبان تقاسمه شطر مالك، ثم نظر إلي فرأى ما دخلني، فقال: يا أبان أما تعلم أن الله تعالى قد ذكر المؤثرين على أنفسهم قلت: بلى جعلت فداك فقال: أما إذا أنت قاسمته فلم تؤثره بعد، إنما أنت وهو سواء، إنما تؤثره إذا أنت أعطيته من النصف الآخر.(47)







لقد دأب الأئمة الأطهار من أهل البيت عليهم السلام، على تربية شيعتهم وفق المنهاج المحمدي صلى الله عليه وآله، فجاءت علومهم عنه مستشرفة قمم الآداب، مرفرفة في أجواء مكارم الأخلاق، غائصة في عمق تعاليم القرآن الكريم، لم تنطق ألسنتهم إلا صوابا وحكمة، ولم تأت آثارهم إلا يمنا وبركة، ولم تفض علومهم على الخلق إلا هدى ورحمة، لذلك فإنهم لم يصحبوا في حياتهم غير الزهاد والعباد، من تلامذتهم الذين تخرجوا على أيديهم، علموهم فتعلموا وبصروهم فأبصروا، لم يركنوا إلى ظالم أبدا، وكانت سرائرهم كعلانياته بيضاء نقية، طاهرة زكية، وكان يزينهم ويفرحهم أن يألفهم الموالي ويألفوه، ويتبع خطاهم ويقتدي بهداهم، ويحزنهم أن ينتسب إليهم من يشينهم ويضعهم موضعا لا يرغبونه، فكانوا بعد اليأس منه يتبرؤون، والى الله تعالى يلجئون، فتألفهم الموالي والمخالف، وتقرب منهم القاصي والداني، طمعا في الحكمة والنصيحة، وأخذا بالأحاديث الصحيحة عن النبي الخاتم صلى الله عليه وآله، وطاعة لله يوم لا ينفع مال ولا بنون.







وقد وصف علم الهدى ومصباح الدجى، السيد المرتضى عليه السلام، أولياء الله وأحباءه في خطبة بليغة قال فيها: " أما بعد، فان الله سبحانه خلق الخلق حين خلقهم غنيا عن طاعتهم، آمنا من معصيتهم، لأنه لا تضره معصية من عصاه، ولا تنفعه طاعة من أطاعه، فقسم بينهم معيشتهم، ووضعهم من الدنيا مواضعهم، فالمتقون فيها هم أهل الفضائل، منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع، غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء، ولولا الأجل الذي كتب لهم، لما استقرت أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقا إلى الثواب وخوفا من العقاب، عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنة كمن رآها، فهم فيها منعمون، وهم والنار كمن رآها، فهم فيها معذبون، قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، صبروا أياما قصيرة، أعقبتهم راحة طويلة، تجارة مربحة يسرها لهم ربهم، أرادتهم الدنيا، فلم يريدوها، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها، أما الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن، يرتلونه ترتيلا، ويحزنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا، وتطلعت أنفسهم إليها شوقا وظنوا أنها نصب أعينهم، وإذا مروا بآية فيها تخويف، أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم، فهم حانون على أوساطهم، مفترشون لجباههم، واكفهم وركبهم، وأطراف أقدامهم، يطلبون من الله تعالى فكاك رقابهم، وأما النهار فحلماء علماء أبرار أتقياء، قد براهم الخوف بري القداح، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى، وما بالقوم من مرض، ويقول قد خولطوا، ولقد خالطهم أمر عظيم، لا يرضون من أعمالهم القليل، ولا يستكثرون الكثير فهم لأنفسهم متهمون، ومن أعمالهم مشفقون، إذا زكى أحدهم خاف مما يقال له، فيقول أنا اعلم بنفسي من غيري، وربي أعلم بي من نفسي، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني أفضل مما يضنون، واغفر لي ما لا يعلمون. فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوة في دين، وحزما في لين، وإيمانا في يقين، وحرصا في علم، وعلما في حلم، وقصدا في غنى، وخشوعا في عبادة، وتجملا في فاقة، وصبرا في شدة، وطلبا في حلال، ونشاطا في هدى، وتحرجا عن
طمع، يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل، يمسي وهمه الشكر، ويصبح وهمه الذكر، يبيت حذرا، ويصبح فرحا، حذرا لما حذر من الغفلة، وفرحا بما أصاب من الفضل والرحمة، إن استعصت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحب، قرة عينه فيما لا يزول وزهادته فيما لا يبقى، يمزج الحلم بالعلم، والقول بالعمل، تراه قريبا أمله، قليلا زلله خاشعا قلبه، قانعة نفسه، منزورا أكله، سهلا أمره، حريزا دينه، ميتة شهوته، مكظوما غيظه، الخير منه مأمول، والشر منه مأمون، إن كان في الغافلين كتب في الذاكرين، وإن كان في الذاكرين لم يكتب من الغافلين، يعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه، بعيدا فحشه، لينا قوله، غائبا منكره، حاضرا معروفه، مقبلا خيره، مدبرا شره، في الزلازل وقور، وفي المكاره صبور، وفي الرخاء شكور، لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم فيمن يحب، يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه، لا يضيع ما استحفظ، ولا ينسى ما ذكر، ولا ينابز بالألقاب، ولا يضار بالجار، ولا يشمت بالمصائب، ولا يدخل في الباطل، ولا يخرج من الحق، إن صمت لم يغمه صمته، وان ضحك لم يعل صوته، وإن بغي عليه صبر، حتى يكون الله هو الذي ينتقم له، نفسه منه في عناء، والناس منه في راحة، أتعب نفسه لآخرته، أراح الناس من نفسه، بعده عمن تباعد عنه زهد ونزاهة، ودنوه ممن دنا منه لين ورحمة، ليس تباعده بكبر وعظمة، ولا دنوه بمكر وخديعة".(48)







أولئك هم المؤمنون حقا، والمقربون إلى الله تعالى صدقا، قرنوا أنفسهم بأوامره وأحكامه، والتزموا بمنهج كتابه، بلغوا من القرب والزلفى ما أعطاهم لديه الكرامة والتقوى، يطلبون فيعطون ويسألون فيجابون، مصداق حديثهم عليهم الصلاة والسلام: " إن الله تعالى خلق خلقا من رحمته برحمته لرحمته، هم الذين يقضون حوائج الناس، فمن شاء منكم أن يكون منهم فليكن".







ومحبة الله تعالى، ومحبة أحبائه وأوليائه، ليست شعارا أجوفا، ولا سرابا زائفا وإنما هي اقتداء واتباع وتأس، عمل طبق العلم، فلا ينفع من ادعى حب علي عليه السلام، أهل بيته ما لم يكن سالكا نهجهم ومستنيرا بآثارهم، كما لا ينفع من ادعى حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يأت أهل بيته عليهم السلام ويتولاهم، ويأخذ دينه وسننه عنهم، كما في الحديث الذي رواه جابر عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام حيث قال: " يا جابر أيكتفي من انتحل التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت، فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون يا جابر إلا بالتواضع والتخشع والأمانة، وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبر بالوالدين، والتعهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة، والغارمين والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكف الألسن عن الناس إلا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء. قال جابر فقلت: يابن رسول الله ما نعرف اليوم أحدا بهذه الصفة، فقال: يا جابر لا تذهبن بك المذاهب، حسب الرجل أن يقول أحب عليا وأتولاه، ثم لا يكون مع ذلك فعالا، فلو قال إني أحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فرسول الله خير من علي، ثم لا يتبع سيرته، ولا يعمل بسنته ما نفعه حبه إياه شيئا، فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحب العباد إلى الله تعالى وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته، يا جابر ما يتقرب إلى الله تعالى إلا بالطاعة، ما معنا براءة من النار، ولا على الله لأحد من حجة، من كان لله مطيعا فهو لنا ولي، ومن كان لله عاصيا فهو لنا عدو، ما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع".(49)







وفي حديث آخر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " شيعتنا ثلاثة أصناف، صنف يتزينون بنا وصنف يستأكلون بنا، وصنف منا والينا، يأمنون بأمننا، ويخافون بخوفنا، ليسوا بالبذر المذيعين، ولا بالجفاة المرائين، إن غابوا لم يفقدوا، وان شهدوا لم يؤبه لهم أولئك هم مصابيح الهدى".(50)







وفي قوله تعالى علامات دالة عليهم:







وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما * والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما * والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما * إنها ساءت مستقرا ومقاما * والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما * والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاما **** والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما * والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا* والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذريتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما* أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما.(51)







وبقدر ما جاءت النصوص دالة ومبينة لكل تفاصيل وخصائص الفرد المؤمن، بقدر ما تبين بعد طول لأي وبحث عن من يملك تلك المواصفات أو بعضها، أن الباحث عن هؤلاء قد يطول به النوى فلا يحصل على مرغوبه، لأن الدنيا قد أسرت جل الناس، ولم يفتد منها غير القليل، فلنحرص على أن نكون نحن من أصحاب هذه الخصائص، لأن في التزامنا مدعاة إلى الله تعالى كي يحقق وعده، ويتم كلمته، ويعلي رايته.







ختاما نسأل الله تعالى أن يوفقنا لأداء ما علينا من الطاعات، ومراعاة حقوقه وحقوق وسائطه وأوليائه، وأن يطهر قلوبنا، ويزهر ربيعها بحبه وحب من يحبه، حتى لا يكون لنا من الدنيا شيء إلا وهو متعلق به متيم بحبه، ومخصوص له، وأن يباعد بيننا وبين أعدائه، ولا يجمعنا بهم في دنيا ولا آخرة، إلا إذا كانت جهادا لهم تحت راية هدى، إنه ولي التوفيق، وصلى الله على أفضل الخلق أجمعين محمد الأمين، وآله الأبرار الطاهرين، والحمد لله رب العالمين.













1 متفق عليه







2 متفق عليه







3 الكافي ج3 ص423 الإعتلاج: المصارعة







4- سورة الأعراف الآية: 67







5- سورة عبس الاية34/36







6 سورة المائدة الآية 54







7 مسلم ج 7 ص119







8 مصباح الشريعة ص 196







9 علل الشرائع ج1ص57







10 سورة الذاريات الآية 50







11 سورة طه الآية 84







12 سورة آل عمران الآية 31







13 سورة الإسراء الآية 94/95







14 سورة الأنعام الآية 8/9







15 سورة فاطر الآية 19/22







16 الحقائق للكاشاني المناقب لابن المغازلي ص78 كفاية الطالب ص176







17 سورة فاطر الآية







18 سورة التوبة الآية 129 سورة ن الآية 4







19 سورة المدثر الآية 23







20 سورة الشورى الآية 23 الحديث أخرجه السيوطي في الدر المنثور- ابن حجر في الصواعق







21 الصواعق لابن حجر ص139 الإتحاف ص15







22 أخرجه الترمذي في سننه







23 مجمع الهيثمي ج9 ص172







24 الأوسط للطبراني







25 الأوسط للطبراني







26 الحقائق ص405 إكمال الدين ص261







27 بصائر الدرجات ج3ص40 الحقائق ص405







28 سورة البقرة الآية 189







29 المحجة البيضاء الكافي للكليني







30 المحجة البيضاء الكافي للكليني







31 متفق عليه







32 شعر منسوب للشافعي







33- سورة الأحزاب الآية 6







34 الكافي ج2ص127







35 مسند احمد ج5ص146- الكافي ج2 ص125







36 أبو القاسم الشابي أغاني الحياة







37 سورة العنكبوت آية 41







38 سورة الزمر الآية 38







39 سورة المجادلة الآية 11







40 جامع السعادات ج 1 ص 140







41 أصول الكافي ج 1 ص 130







42 الكافي ج2ص126 الحقائق ص319







43 الكافي ج2 ص127 الحقائق 319







44 المحجة البيضاء ج3ص292 الكافي ج2ص126







45 الكافي ج2ص171







46 المحجة البيضاءج3ص354 الكافي ج2ص169







47 المحجة البيضاء ج3ص356/357 الكافي ج2ص171







48 نهج البلاغة ج2 ص160







49 الكافي ج2ص74







50 المحجة البيضاء ج4ص356







51- سورة الفرقان الآيات: 63/68 و72/75














/ 34