يقضي و يقدر شيئا من القبيح كان العبد بذلك معذورا ملوم ، كما لا ملامة عليه في كل ما قضاه و قدره من أفعاله سبحانه و كانت حجة العباد عليه ( 1 ) ، لاستحالة خروجهم عن قضائه و قدره ، فلا يبقى له في كل ما احتج به عليهم حجة ، و لا وجه مع ذلك لبعثة نبي و لا إنزال كتاب و لا نصب دلالة و لا أمر و لا نهي . و الوجه في جميع ذلك ظاهر ، و أفعاله سبحانه كلها مقضية مقدرة ( 2 ) لكونها حكمة و صوابا و صلاحلا ، سواء ظهر الوجه فيها مفصلا أو مجملا أو لم يظهر ، فإنه يجب إلحاق ما خفي وجهه منها بما ظهر ذلك فيه ، و حمل الجميع على الاصل المقرر بأدلته ، لاستحالة تنافي مدلول الادلة . و من جملة صفاته الفعلية كونه تعالى متكلما ، لاستحالة أن يكون الكلام ذاتيا أو معنويا ، لانه لا حكم لذلك ، فلا طريق إليه ، و لو كان كذلك وجب شياع كلامه في كل ما يصح أن يسمى كلاما ، من كذب و غيره ، فلا يوثق مع ذلك بخطابه ، لانسداد طريق العلم القطعي بصدقه و صدق أنبيائه ، فلا معنى لكونه متكلما إلا ما هو معقول من كونه فاعلا . و قد تبين بذلك حدوث كلامه كحدوث جميع أفعاله . و يزيده بيانا أنه مؤلف من الحروف و الكلمات التي لا فائدة فيها إلا باختلافها و ترتيبها في تقديم بعضها على بعض ، و باشتماله على البداية و النهاية و التجزئ و الانقسام الذي هو من خصائص الحدوث ، لاستحالة جميع ذلك على القديم ، و كل ما يقع من العباد 1 - في " أ " : و كان حجة لعباد عليه . 2 - في " أ " : مقتضية مقدورة .
(22)
من فعلهم باطنا و ظاهرا منسوب إليهم لا إليه لوجوب ( 1 ) وقوعه بحسب الداعي و الارادة ، و انتفائه بحسب الصارف و الكراهة ، فلو لم يكن فعلا ممن وقع منه لم يجب ذلك ، و جاز خلافه ، كما لا يجب في كل ما ليس من فعلهم ذلك ، لظهور الفرق بينهما ، و لان وجوب استحقاقهم المدح على فعل ، و الذم على آخر كاشف عن كونهم فاعلين و إلا لم يكن لهذا الاستحقاق وجه ، كما لاوجه له في كل ما لا تعلق لهم بفعله ، و لانهم مأمورون و منهيون ، مرغبون بالمثوبة على إمتثال ما أمروا به ، مرهبون بالعقوبة على مخالفتهم ، فلو لا أنهم ممكنون من ذلك ، لم يكن لجميعه وجه ، و لان نفي كونهم فاعلين يسد طريق العلم بإثبات الفاعل مطلقا ، و ثبوت الفعل مع انتقاء الفاعل مما لا يعقل ، لكونه جهالة . و قد ظهر بذلك أن أفعالهم ليست مخلوقة فيهم ، و يزيدة ظهورا أنه يستحيل وقوع الفعل الواحد بفاعلين ، كما يستحيل وقوع مقدور الواحد بقدرتين ، لاستحالة كون الشيء الواحد موجودا معدوما ، واقعا مرتفعا ، في حالة واحدة ، فيتحقق بذلك بطلان الكتب ، و إن كان معقول ، لكون العلم بكل واحد من صحته و حقيقته موقوفا بالعلم على الآخر ، مع أنه إن كان نفس الفعل فهو واقع بفاعله ، و إن كان وجهه الذي يقع عليه فهو تابع لاختيار الفاعل و قصده ، لاستحالة تجرده عن ذات الفعل و ماهيته ، فلا معنى لكون العبد مكتسبا إلا كونه فاعلا ، و ليس في العقلاء من يسند الفعل الواحد إلى فاعلين : أحدهما محمود ، و هو الخالق ، و الآخر مذموم ، و هو العبد المكتسب ، إلا المجبرة و المجوس . و إذا ثبت كون العباد فاعلين ثبت كونهم قادرين ، لاستحالة وقوع المقدور 1 - في " ج " : بوجوب .
(23)
لا بقادر ، و لان لهم بصحة وقوعه مزية على تعذره لولاها لم يكونوا بأحدهما أولى من الآخر ، و هي مستندة إلى القدرة المحدثة ، لاستحالة كونها ذاتية أو فاعلية ، و لان جواز حصول القدرة و إن لا تحصل ، و ثبوت التفاضل بين القادرين في كونهم كذلك مع استمرار ( 1 ) ما هم عليه من حال و شرط دلالة على ثبوت القدرة إذ لا وجه لشيء من ذلك إلا باعتبارها و قدرهم متعلقة ( 2 ) بحدوث أفعالهم ، لاتباع تعلقها صحة الحدوث ، و هي متقدمة على الفعل ، فيصح ( 3 ) كونها مؤثرة فيه و مخرجة له من العدم إلى الوجود ، لان تأخرها يستحيل منه ذلك ( 4 ) فكيف يكون به ، و مقارنتها تنافي الاختيار ، و يقتضي كونها ( 5 ) علة في أثرها ، و هو ظاهر الفساد ، لمنافاته ما دلت عليه الادلة ، فصح كونها متقدمة و متعلقة بالضدين لصحة التصرف في الجهات المختلفة مع تضادها ، و لانها ليست بأحدهما أولى من الآخر ، فلو لم تكن متعلقة بهما للزم اجتماعهما عند حدوث الفعل ، فلا يخفى فساده ( 6 ) ، و إيجابها الصفة و تعلقها بمتعلقها لما هي عليه في نفسها لكونها لا تعلم إلا كذلك ، و هي مختلفة لا متضاد و لا متماثل فيها لتعلق كل جزء منها بجزء من المقدور مع اتحاد الوقت ( 7 ) و الجنس و المحل ، و لاستحالة أن يصح بكل جزء منها ما يصح بالآخر ، لكونه إيجاد موجود . 1 - في " ج " : مع استتار . 2 - في " أ " : إلا باعتبار قدرهم متعلقة . 3 - في " ج " : ليصح . 4 - في " أ " : يستحيل معه ذلك . 5 - في " ج " : كونهما . 6 - في " أ " : و لا يخفى فساده . 7 - في " ج " : و مع اتحاد الوقت .
(24)
فأما مع اختلاف ما ذكرناه فلا انحصار لتعلقها ، و هي متفقة فيه ( و إن اختلف ، لانه لا وجه لاختلافها فيه ) ( 1 ) و شرط مقدورها أن يكون ممكنا في نفسه ، لاستحالة تعلقها بما ليس كذلك . فعلى هذا يكون تكليف الكافر بالايمان ممكنا ، لكونه مقدورا له و حسنا ، لكونه إرادة حكيم منزه عن كل قبيح . و قد يكون واجبا في الحكمة لتكامل شروطه ، و لا تأثير لتعلق العالمية بأنه لا يختاره ، إذ ليست مؤثرة في معلومها و لا مضادة لوقوعه منه ، فكان ممكن الوقوع باعتبار تمكنه و اقتداره محالا بسوء اختياره ، و لو أوجب تعلق العالمية كفر الكافر ، لاوجب إيمان المؤمن ، فيقبح التكليف ، و يسقط ما يترتب عليه ، و قد كلف الله سبحانه كل من أكمل له شروطه التي هي الحياة و العقل و الاقتدار و التمكين و نصب الادلة و إزاحة العلة و شهوة القبيح و النفار عن الحسن و الالطاف المعلومة له ، لانه مع إكمالها إذا لم يغن ( 2 ) بالحسن عن القبيح ، بل جعل ما أمر به شاقا ، لكونه مؤلما منفورا عنه و ما نهى عنه كذلك ، لكونه ملذا مشتهى ، فلو لا كونه مكلفا كل من أكمل له فعل المشاق و ترك الملذ كان عابثا أو مغريا له بالقبيح و يتعالى الله عنهما و لا وجه لكونه باعتبارها مكلف ، لانه على الصفات المعتبرة في ثبوت كونه كذلك ، و حسن هذا التكليف معلوم ، لاستناده إلى مكلف حكيم ، و لتضمنه التعريض إلى استحقاق المنافع العظيمة التي لا تستحق إلا به ، لقبح الابتداء بمثلها ، و ذلك هو الغرض به ، و التعريض للشيء في حكم إيصاله ، و المخاطب به 1 - ما بين القوسين موجود في " أ " . 2 - في " أ " : لم يعن .
(25)
من تكاملت له شروطه المشار إليها ، و هو من جملة المشاهدة المسماة إنسانا ما لا يتم ( 1 ) كونه حيا إلا به ، و لا اعتبار بما سوى ذلك ، كما لا اعتبار بالسمن بعد الهزال ، و لا بالزيادة بعد النقصان ، لان الحياة حالة في الجملة . و الافعال صادرة عنها ، و الاحكام متعلقة بها ، و الادراك واقع ببعض أعضائه ( 2 ) فلو لا أن التكليف منها ( 3 ) ما بيناه لم يكن لجميع ما ذكرناه وجه ، كما لا وجه له بالنسبة إلى الشعر منها و الظفر . و ما به يتعلق التكليف إما إلزام بفعل ، فإيجاب ، أو ما هو أولى ، فندب ، أو ما منع من فعل ، فحظر ، أو ما الامتناع ( 4 ) منه أولى ، فكراهة و مكروه . و ذاك إما عقلي أو سمعي ، من أفعال القلوب أو الجوارح الظاهرة ، داخل تحت الطاقة و الاستطاعة ، لكونه مقدورا للمكلف ، بشهادة ( 5 ) العقول بقبح تكليف ما لا يطاق ، سواء كان بفقد ( 6 ) قدرة أو آلة أو شرط من شروطه التي لا يحسن إلا معها ، و لكونه مستحيلا بأن لا يكون مقدورا ، و لا وجه لقبحه إلا لكونه تكليفا بما لا يطاق ، لثبوت حسنه بثبوت الطاقة ، و انتفائه بانتفائها ، و لا يتعلق بما لا حكم له و لا استحقاق به كالمباح . و يعتبر في قيام المكلف به ، معرفته بمكلفه سبحانه على صفاته جملة 1 - في " ج " : لم يتم . 2 - في " ج " : أعضائها . 3 - في " ج " : فلو لا أن المكلف منها . 4 - في " ج " : و أما منع من فعل فخطر و ما الامتناع . . 5 - في " أ " : لشهادة . 6 - في " أ " : لفقد .
(26)
و تفصيلا ، و بالتكليف على صفته و بكيفية ترتيبه و إيقاعه ، و إلا لم يفد قيامه به ، و لا بد من فاصل بين التكليف و بين ما يستحق عليه ، لانه لو اتصل به ممازجا أو معاقبا لزم الالجاء المنافي له ، و حصول المستحق على الوجه المنافي لما به يستحق محال ، فكان انقطاعه واجبا لذلك ، و هو إما بالفناء ( 1 ) أو بغيره مما تتعلق به المصلحة ، و تقتضيه الحكمة ، و لا ضد للجواهر إلا الفناء و بوجوده إلا في محل ( 2 ) ينتفى وجودها جملة ، و وجود ما يتبعها و يختص بها تبعا لانتفائها ، و طريق إثباته السمع ، و هو إجماع الامة و ظواهر الآيات و ما هو معلوم من الملة الاسلامية و الشريعة النبوية ، فيكون عدم الجواهر به حقيقيا لا مجازيا ، و إعادتها بأعيانها لايفائها ، و الاستيفاء منها مقدور له سبحانه ، ليتميزها ( 3 ) بما لا تعلم إلا عليه ، و لا يصح خروجها عنه ، لاستحالة خروج المعلوم عن كونه معلوما ، و لا تجب إعادة ما زاد من الجملة على ما به يكون الملكف مكلفا ، بل ذلك راجع إلى اختيار الحكيم و لا إعادة من لا مستحق له أو عليه . و ما علم تعالى أنه يقرب المكلف إلى ما كلف فعلا و اجتنابا ، أو يكون معه أقرب باختياره هو المسمى باللطف و الصلاح ، و هو إما عام أو خاص ، أو ما هو أخص منهما ، إما من فعله تعالى ( 4 ) أو من فعل المكلف لنفسه أو من فعل غيره له إذا كان في المعلوم فعله أو ما يقوم مقامه ، و الحكمة تقتضي فعله لوجوبه ، لانه جار مجرى التمكين و الاقدار ، و قبح منعه كقبح منعهما ، و لان منعه مناقض للغرض 1 - في " أ " : بالغناء ، و كذا فيما يأتي . 2 - كذا في " ج " : و في غيرها : لا في محل . 3 - في " ج " : لتميزها . 4 - في " أ " : أو من فعله تعالى .
(27)
المجري بالتكليف إليه ، و الحكم لا يناقض غرضه ، لكونه منافيا لحكمته ، و شروطه تقدمه على ما هو لطف فيه ، و ثبوت مناسبته بينهما و خلوه من كل مفسدة ، و هو فيما لا يتعلق بالدين واجب ، إذ لا وجه لوجوب الاصلح الدنياوي ، و لا طريق إليه ، لاستحالة كونه تعالى في كل حال منفك من الاخلال بالواجب ، و تقتضيه المفسدة ، و لا يجب المنع منها بل الاعلام بها و التمكين من دفعها ، لازاحة العلة ، و استتمام الغرض بذلك . و لا وجه في اللطف إذا كان مصلحة في أمر أو لمكلف مفسدة في غيره و لآخر ، كما لا وجه لكل مصلحة لا تتم إلا بمفسدة . و معرفة الله تعالى واجبة ، لكونها أصلا لجميع التكاليف المكتسبة ، عقلا و شرعا ، لكون اللطف الذي هو العلم باستحقاق الثواب و العقاب على الطاعة مشروطا بثبوتها ، و متوقفا على حصولها ، و لكونها شرطا في شكر نعمه سبحانه تعالى و عبادته ، التي هي كيفية في شكره الذي لا يصح إلا بعد صحتها ، و لا يثبت حقيقته إلا بعد ثبوتها . و كلما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، و لا وصلة إليها في دار التكليف إلا بالنظر الحاصل على شروطه ، لاستحالة كونها ضرورية أو حاصلة عن طريق يرجع إلى الضرورة ، لثبوت الخلاف فيها ، و ارتفاعه في كل ضروري . و لسنا في تكليف العلم بالمكلف مضطرا إلى العلم به ، أو سمعه ( 1 ) ، لتوقف العلم بصحة السمعيات على تقدمها ، و أن السمع ( 2 ) مؤكد لوجوبها ، فكانت 1 - في " ج " : أو سمعية . 2 - في " أ " : و إنما السمع .