عنها إلى ما لا مناسبة بينه و بينها في كلفة و لا مشقة ، لان تفاوت ما بين المعارضة بالكلام و الحروب المفضية إلى المهلك ( 1 ) ، التي لم يخطوا فيها ببلوغ غرض و لا مرام ، لا يخفى عن عاقل ، فلو لا أن عجزهم خارق العادة لم ينتهوا إلى ذلك و لا كان لانتهائهم إليه وجه ، لكونه مخالفا لعوائد العقلاء ، و ذلك شاهد بصدقه و صحة نبوته من حيث صرفهم الله عن معارضته ( 2 ) بسلبهم العلوم المخصوصة في كل وقت اهتموا فيه بها و تطاولوا إليها ، لانه لو لا الصرف لم يكن لوقوفهم و خرسهم عند التفرغ لها و الطمع بحصولها وجه ، إذ كان الكلام البليغ مقدورا لهم ، و هم عليه مطبوعون ، و به متطاولون ، فما وجه اخلافه لهم و تعذره عليهم في وقت الضطرارهم و حاجتهم إليه لو لا ما ذكرناه ، فإن كانت فصاحة ما تحداهم به أو نظمه أو كلاهما ، وجب الفرق بين أفصح كلامهم ( 3 ) و أرتبه ، و بين أقصر سور المفصل على وجه يشترك في العلم به كل سامع لهما من مبرز و مقصر ، لكونه فرقا بين ممكن و معجز ، فإن من أمحل المحالات أن يفرق بين المتقاربين من لا يفرق بين المتباعدين . و إذا كان ظهوره على هذا الوجه أو بلوغه في الظهور إلى هذا الحد حاصل و لا واقع ثبت أنه لا وجه لاعجاز القرآن إلا الصرفة ، و هي خارجة عن مقدور كل قادر بقدرة ، لاختصاصه تعالى بالاقتدار عليها على ما بيناه من معناها ، و من أنه سبحانه لا يجوز عليه تصديق من ليس بصادق و في ذلك ثبوت صدقه و صحة نبوته صلى الله عليه و آله . 1 - في " أ " : لان تقارب ما بين المعارضة بالكلام و الحروب المقتضية إلى المهلك . . 2 - في " أ " : من حيث صرفهم عن معارضته . 3 - هكذا في " أ " : و في غيرها : كلامه .
(43)
و منها ما ليس بباق لتقضيه ، و إنما علم بتواتر النقل به ، و هو باقي معجزاته صلى الله عليه و آله و سلم ، كتسبيح الحصا ( 1 ) و انشقاق القمر ( 2 ) و نبع الماء تارة بغرر سهمه ( 3 ) و أخرى بوضع كفه ( 4 ) ، و حنين الجذع ( 5 ) ، و كلام الذراع ( 6 ) ، و مجيئ الشجرة إليه و عودها إلى موضعها عند أمره لها بذلك ( 7 ) و إشباع الجماعة الكثيرة بالطعام القليل ( 8 ) ، و إخباره بكثير من الغائبات و الحوادث المستقبلات ( 9 ) . و يقع الخبر مطابقا لما أخبر ، و بابها متسع . فإن ما أشرنا إليه قطرة من بحر ماله صلى الله عليه و آله منها . و وجه الاستدلال بها أن فيها ما نطق القرآن به ، و فيها ما علم علما لا مجال للشك فيه ، و باقيها بانضمام بعضه إلى بعض ، و إتفاقه في دلالة الاعجاز ، فلحق بالمتواتر و يفيد مفاده ، و لوقوعها على صفة المعجز المعتبر بشرائطه لا يتقدر فيها ما ينافيه و يقدح فيه ، فأكدت ما بيناه من نبوته و صدق دعوته ، و ببقاء شريعته إلى انقضاء التكليف و تحقيق ثبوتها وجوب كونها ناسخة لما تقدمها من الشرائع ، لان العقل لا يمنع من جواز النسخ ، بل يشهد بحسنه ، لكونه طريقا إلى الاعلام بتجدد المصالح التي لا يمكن استعمالها إلا به ، و لان التعبد بالاحكام الشرعية تابع 1 - بحار الانوار 17 / 379 . 2 - نفس المصدر ص 347 . 3 - الغرار : حد الرمح و السيف و السهم . لسان العرب . 4 - بحار الانوار 17 / 286 . 5 - نفس المصدر ص 365 . 6 - نفس المصدر ص 232 و 295 . 7 - نفس المصدر 297 . 8 - نفس المصدر 231 . 9 - نفس المصدر 18 / 105 باب معجزاته صلى الله عليه و آله في إخباره بالمغيبات .
(44)
للمصالح الدينية و بحسبها ، و إذا جاز في العقل اختلافها بحسب اختلاف الازمان و المكلفين ، فما المانع من النسخ ، و هو سبب الاعلام بتجديدها ، و بالوصول ( 1 ) إلى العلم بها ، و بما تعلقت به المصلحة منها ، فيكون المنع منه تعويلا على أنه يؤدي إلى البداء باطلا ، لانه يخالفه حدا و شرطا ، و الفرق بينهما ظاهر ، و لو كان نسخ الشرائع ( 2 ) بداء أو مؤديا إليه ، لزم مثله في كل ما تجدد من أفعاله تعالى ، و حصل بعد غيره ، كالموت بعد الحياة ، و السقم بعد الصحة ، و الضعف بعد القوة ، و الغلاء بعد الرخص ، و هلم جرا . و إذا لم يكن في شيء من ذلك ما يؤدي إليه ، و لا ما يقتضيه ، فنسخ الشرائع أولى أن لا يلزم عليها ما يؤدى إليه و لا إلى غيره ، لتعلق الجميع بداعي الحكمة التي يستحيل منا فاتها ، و إذا ساغ النسخ عقلا فلا مانع منه شرعا ( 3 ) ، لانه لا حجة لمانعيه فيما احتجوا به من النقل ، لكونه من أضعف رواية آحادهم التي لا سبيل لهم إلى تصحيحه ، و لا إلى إثبات كونهم متواترين به ، للعلم الضروري بارتفاع شروط التواتر عنهم بل استحالتها فيهم ، و لو لم يكونوا كذلك كان احتمال ما تشبثوا به من نقلهم للتأويل و لزوم حمله عليه ، لئلا يرجع بالقدح على نبوة نبيهم ، مسقطا للاحتجاج به و مغنيا عن النظر فيه . 1 - في " أ " : و بالاصول . 2 - في " ج " : فسخ الشرائع . 3 - في " ج " : فلا مانع عليه شرعا .
(45)
و أما الكلام في ركن الامامة فإنها واجبة عقلا بشرطين : أحدهما : بقاء التكليف العقلي ، نظرا إلى أن سقوطه مسقط وجوبها . و ثانيهما : ارتفاع العصمة عن المكلفين ، نظر إلى غنى المعصوم عن اللطف الذي حاجة من ليس معصوما إليه بالامامة ماسة لابد منه و لا بدل إلا باعتبارهما ( 1 ) لان ثبوت اللطف بالرئاسة العقلية على هذين الشرطين ظاهر ، و ما ثبت اللطف به لا يكون إلا واجبا ، و لهذا ان وجود الرئيس منبسط اليد مرهوب الجانب نافذ الامر و النهي ، محقق التمكين في كل ما هو رئيس فيه ( 2 ) ، لا يخفى كونه مقربا إلى الصلاح ، مبعدا عن الفساد ، و لا معنى للطف إلى ذلك و عدمه أو عدم تمكنه بانقباض يده أو جحده جملة ينعكس الامر معه بفوات ما وجوده و ما يتبعه لطف فيه . فيؤول إلى ظهور المفاسد و فوات المصالح ، و هذا معلوم لكل عاقل ، خبر العوائد ( 3 ) الزمانية ، و الاحوال البشرية ، فمن أنكره لم يحسن مكالمته بجحده ما لا شبهة في مثله ، و من عارضه بما وقع عند رياسة ( 4 ) معينة من فتن و محن لم تتوجه معارضته عليه و لم يقدح فيه ، لانه كلام في جنس الرئاسة لا في تعيينها . و كل واحد منهما منفصل عن الآخر مع أن الواقع عند الاعتبار ليس من 1 - في " أ " : و لا بدل له باعتبارهما . 2 - في " أ " : هو رائس فيه . 3 - في " أ " و " ج " : " حر العوائد " و الظاهر أنه تصحيف " خبر " كما أثبتناه في المتن و " خبر " بمعنى " جرب و مارس " . 4 - في " ج " : عند رياضة .
(46)
قبل الرئيس بل من مخالفة المرؤوسين له و جهلهم به ، فلا ملامة إلا عليهم ، و إذا ثبت أن في الرئاسة لطفا ، و كان اللطف واجبا بما بيناه متقدما وجبت الامامة في كل زمان من أزمان التكليف ، لوجوب الالطاف الدينية التي لا يحسن إلا معها ، لكونها شرطا فيه ( 1 ) ، و لان مع استقرار الشريعة و استمرارها إلى قيام الساعة يتعين وجوب إزاحة العلة في حفظها بعد أدائها ، كحفظها بمن به أدائها في حال الاداء ، و لا حافظ لها في الحقيقة إلا من حكمه ( 2 ) في وجوب الاقتداء به ، و إزاحة العلة بوجود ( 3 ) حكم مؤديها ، و هو الرئيس الذي لا يجوز خلو زمان التكليف من وجوده فيه ، لانها إن لم تكن محفوظة جاز دخول التبديل و التحريف فيها ، و هو مناف لوجوب القطع على صحتها و لازاحة علة من هو مكلف بها و إن كانت محفوظة ، فأما الكتاب فليس مشتملا على جميع أحكامها ، و لا كل ما اشتمل عليه مبين ، لما فيه من المجمل الذي لابد له من بيان ، أو السنة ، و حكمها في عدم الاحاطة بجميع الاحكام حكم الكتاب ، و متواترها قليل بالنسبة إلى الآحاد الذي هو كثير و إتصاله به جائز إما بإعراض الناقلين عنه ، أو باختلافهم فيه أو بغيرها من الاسباب ، و ليس الآحاد مثمرا علما و لا موجبا عملا و لا طريقا إلى العلم بشيء من الاحكام الشرعية فلا بد لها من ضابط . و الاجماع و لا حجة به إلا بوجود المعصوم و تعيينه فيه ، و إلا مع خلوه منه ، و جواز الخطأ على كل واحد من المجمعين لا حجة في إجماعهم ، و لا فرق بينه و بين انفرادهم ، كما لا حجة في إجماع أهل الكفر على ما أجمعوا عليه من كفرهم الذي 1 - في " أ " : مشروطا فيه . 2 - في " أ " : من حكمة . 3 - في " ج " : بوجوده .
(47)
كل واحد منهم عليه بإجماعه أو انفراده . و لو كان مجرد إجماع أهل الخطاء علة في كونه حجة ، لزم مثله في إجماع كل فرقة من فرق الكفار ، بل لو قامت الحجة بإجماع أهل الزلل و العصيان قياما يفيد ارتفاع ذلك عنهم ، و ارتفعت بانفصالهم و انفرادهم ارتفاعا يقتضي عود ذلك إليهم ، لزم مثله في الكفار ، بل في السودان حتى يصح أن يقال : إن كل واحد من الزنج أسود ، فإذا أجمعوا على أمر ما ، أو اجتمعوا له زالت السوادية عنهم و اختصوا بالبياضية بدلا منها ، فإذا انفصلوا و انفرد كل واحد منهم عن الآخر عادت إليهم ، و بسقوط ذلك و استحالته يعلم قطعا أنه لا حجة في الاجماع إلا بتعيين من في قوله بانفراده الحجة ، أو القياس و الرأي ، و لا يخفى سقوطهما ، لان المعول فيهما ( 1 ) على الظن الذي يخطئ و يصيب مع خلوهما عن طريق إلى العلم بثبوتهما ، و دليل على جواز التعبد بهما و العمل بأحكام الشرع لا عن علم يقيني و طريق قطعي بصحته فاسد ، فإذا بطل أن يكون الشيء مما ذكرناه حافظا لها ، و كان حفظها واجبا ، لوجوب إزاحة العلة في التعبد بها ، ثبت أنه لا حافظ لها بعد مؤديها إلا الامام القائم في ذلك مقامه . و هذه الطريقة و إن كانت دالة على وجوب الامامة مع بقاء الشريعة ، فإنها دالة أيضا على عصمة الامام ، لان خلوه من العصمة مناف لكونه حافظا لما ثبت أنه لا حافظ له سواه ، فلا بد من اختصاصه بها ، لاختصاصه بما لا يثبت إلا بثبوتها ، و لا يتم إلا بوجوبها له ، و كان المحوج إليه جواز الخطأ على غيره ( 2 ) فلو لا 1 - في " ج " : لان المقول فيهما . 2 - هكذا في " أ " و في غيرها : و لان المحوج إليه جاز الخطأ على غيره .
(48)
عصمته لكان ما أحوج إليه حاصلا فيه ، فلا مزية له مع ذلك على غيره . بل يكون حكمه في الاحتجاج حكم الغير ، فإن تسلسل إلى نهاية كان محالا ، و إن انتهى إلى معصوم مميز بذلك كان هو المراد ، و لانه لو جاز عليه ما ينافي العصمة ، لحق بكل من جاز عليه الخطأ في دخوله تحت الذم و الحد و التعزير و غيره مما يتنزه بعض رعيته عنه ، فكيف يصح وقوع ما يوجب ذلك منه ؟ و إذا ثبتت عصمته فلا بد من كونه أفضل الرعية باطنا ، أي أكثرهم ثوابا و أعلى منزلة عند الله ، لانه معصوم مستحق من المدح و التعظيم مطلقهما ، فلو لا تميزه بهذه الفضيلة ، لم يثبت له ذلك ، و لا كان بين المعصوم و غيره ممن ليس كذلك فرق ، و لا بين ثبوتها و نفيها أيضا فرق . و قد تحقق الفرق بما لا خفاء فيه و ظاهرا أي في كل ما هو رئيس فيه ، لانه متقدم على جميع الامة ، مفروض الطاعة عليهم . و قبح تقديم المفضول على الفاضل فيما هو أفضل منه فيه معلوم يقتضيه عقل كل عاقل ، لاقتضاء العقول ، و شهادتها أنه لا وجه لقبحه سوى كونه كذلك ، و طاعة من يقبح تقدمه في ما بمثله ثبوت الطاعة قبيحة . و من لا تجب طاعته لا تثبت إمامته ، فتقدير كونه مفضولا أو تجويزه ، مناف لكونه إماما ، و لان ثبوت فضيلته باطنا يقتضي ثبوتها له ظاهرا ، إذا التفرقة بينهما أو إثبات احداهما دون الاخرى لا وجه له . و أعلم بالتدبير و السياسة ، لتوليه ذلك و لزوم كون المتولي عالما بما تولاه ، و إلا لم تثبت ولايته . و بجميع أحكام الشريعة ، لفتواه و حكمه بها ، و الحاكم المفتي إن لم يكن أعلم بالاحكام و الفتاوى من المستفتي و المحكوم له أو عليه ، لم يكن