النفي المجدد من تركيا الى العراق
في الخامس من تشرين الاول من عام 1965 م ، تم نقل الامام الخميني بمعية نجله اية الله الحاج مصطفى الخميني من تركيا الى منفاهما الجديد في العراق . ولا يسعنا في هذا المختصر التعرض بتفصيل الى علل واسباب تغيير محل منفى الامام الخميني . ولكن نشير باقتضاب الى انها تتركز فيما يلي : الضغوط التي مارسها المتدينون والحوزات العلمية في داخل البلاد ، والمساعى والتظاهرات التي قام بها المسلمون في خارج البلاد من اجل اطلاق سراح الامام ، سعي النظام الملكي لاظهار الاوضاع بالمظهر العادي والاشارة الى قدرة وثبات نظامه لجلب المزيد من الدعم الامريكي لنظامه ، المشاكل الامنية المتفاقمة في تركيا وتزايد الضغوط الداخلية من قبل الاسلاميين على الحكومة التركية ، واهم من كل ذلك تصور النظام الملكي بان الهدوء وعدم وجود الرغبة في التدخل في الامور السياسية والذي كان يسود الحوزة العلمية في النجف الاشرف ، ووضح النظام الحاكم في بغداد ستصبح كلها حواجزكبيرة تحد من فعاليات الامام الخميني .بعد وصوله الى بغداد توجه الامام الخميني لزيارة مراقد الائمة الاطهار في الكاظميين وسامراء وكربلاء ، ثم سافر بعد اسبوع واحد الى محل اقامته الجديد في مدينة النجف الاشرف 0وقد اثبت الامام الخميني منذ بداية وجوده في العراق ومن خلال لقائه المقتضب مع ممثل الرئيس العراقي انذاك ( عبد السلام عارف ) ورفضه الاقتراح القاضي بعقده مؤتمر صحفي وتلفزيوني ، بانه ليس ذلك الشخص الذي يرضى بان يجعل من اصالة ثورته الالهية ئمنا للمصالحة بين نظامي بغداد وطهران .وقد بقي هذا المنحى من - السير المستقيم - صفة تصف منهج الامام طوال فترة اقامته في العراق ، وبذا فقد اثبت الامام الخميني بانه احد اندر القادة السياسيين في العالم ممن لم يقبلوا - وهم في اشد حالات التعرض للضغط والمشكلات - بالدخول في المهاترات السياسية المتعارفة والمساومة على اهدافه .لقد كان يكفي - بعد ظهور المناوشات السياسية بين حكومتي بغداد وطهران - ان يعطي الامام الخميني موافقته المبدئية حتى تنهال عليه انواع الامكانات لتوظيفها في مواجهة النظام الملكي الايراني ، غير ان الامام لم يمتنع عن الاقدام على ذلك وحسب ، وانما كان يقف في تلك المواطن على جبهتين لممارسة دوره الجهادي ، حتى ان الامر قد بلغ في عدة مرات حد المواجهة والقيام ضد النظام الحاكم في بغداد ايضا .وبلا شك فلو لم يستخدم الامام الخميني ذكاءه وحيطته لكادت الثورة الاسلامية ان تسير منذ ذلك الوقت في الطريق الذي طوته غالبية الحركات والجبهات والاحزاب السياسية الايرانية عدة مرات ، والذي لم ينته بها الا الى الارتباط والخذلان .ان الفترة الطويلة - والتي ناهزت الثلاثة عشر عاما - التي امضاها الامام الخميني في منفاه في النجف الاشرف بدات في ظروف - وان كانت ظاهرا تخلو من الضغوط والقيود المباشرة التي تعرض لها في ايران وتركيا - الا ان المعارضات والتحبيطات والكلام الجارح - الذي انطلق من العلماء القشريين واهل الدنيا المتخفين في لباس اهل الدين لا من جبهة العدو كانت واسعة ومؤلمة الى درجة جعلت الامام يتحدث - رغم ما عرف عنه من صبر وحلم - عن ظروف الجهاد العصيبة في تلك السنوات بمرارة بالغة كلما ذكرها .لكن ايا من تلك المصائب والمصاعب لم تستطع ثنيه عن مواصلة الطريق التي اختارها بوعي وادراك .كان الامام قد ادرك مسبقا بان الحديث عن الجهاد والدعوة للقيام في ذلك الجو عمل لا جدوى منه . فقد كان يتوجب عليه البدء من نفس النقطة التي ابتدأ منها في سنوات ما قبل انتفاضة الخامس من حزيران في ايران والحوزة العلمية في قم ، بمعنى البدء بالاصلاح والتغيير التدريجي للظروف وتربية وتعليم جيل يمكنه حمل رسالته .ومن هذا المنطلق شرع الامام بتدريس خارج الفقه في مسجد الشيخ الانصاري في تشرين الثاني عام 1965 م رغم الجهود المغرضة التي بذلت من اجل ثنيه عن ذلك . الامر الذي استمر حتى فترة ما قبل سفره الى باريس .وقد ادت المباني المتقنة للامام في الفقه والاصول ، وتسلطه على مختلف فنون واقسام المعارف الاسلامية الى جعل درسه وحوزته من ابرز الحوزات الدراسية في النجف الاشرف كما وكيفا وبعد مدة قصيرة ورغم ما بذله الرجعيون من جهود مثبطة محبطة . فقد حضر درسه الطلبة الايرانيون ، الباكستانيون ، العراقيون ، الافغا ن ، الهنود والخليجيون وغيرهم لينتهلوا من نبع علومه المغداق . وقد رغب انصار الامام ومحبوه ممن كانوا في ايران في الهجرة الجماعية الى النجف الاشرف ، غير ان توصيات الامام الخميني والخاصة بلزوم الثبات وحفظ الحوزات العلمية في ايران منعتهم من تنفيذ رغبتهم ، وان كان العديد من عاشقى الامام الخميني قد انطلقوا نحو النجف الاشرف ليساهموا في تنشيط مجمع الثوريين المعتقدين بنهج الامام . والذين حملوا على عواتقهم فيما بعد مسؤولية التبليغ برسالة الامام في سنوات الثورة فيما بعد .ومنذ وصوله الى النجف الاشرف لم يقطع الامام الخميني ارتباطه بالمجاهدين في داخل ايران ، فقد اتخذ من المبعوثين والرسائل وسيلة لحفظ ارتباطه ذاك . وقد حرص على تضمين رسائله ، التوصيات القيمة حول ضرورة الثبات على مواصلة النهضة لتحقيق اهداف انتفاضة الخامس من حزيران . والعجيب ان الكثير من الرسائل التي كان الامام الخميني يرسلها كانت تتضمن الاشارة الى قرب وقوع انفجار عظيم على المستوى السياسي والاجتماعي في ايران ، ومطالبة المجتمع العلمائي الايراني باعداد العدة لتحمل مسؤولياته في هداية المجتمع في المستقبل ، في وقت كانت ظواهر الامور تشير الى انعدام الامل بتغير الظروف السياسية والاجتماعية ، وفي حال كان النظام الملكي يبدو فيها اكثر اقتدارا نتيجة قضائه على جميع جيوب المعارضة الشعبية .وبنفي الامام الخميني وممارسة القمع والاضطهاد الشديدين بحق المعارضة ، ابتدأ اسوأ فصول حكومة الملك البوليسية . فقد تحول ( السافاك ) الى وسيلة لممارسة القدرة الملكية المطلقة ، حيث بلغ الامر حدا جعل توظيف اصغر موظف في ابعد نقطة من البلاد مرتبطا بموافقة جهاز السافاك . ولم يبق في هذا العهد من السلطات الثلاث الا اسماءها ، فقد كان الملك وعدد من حواشي البلاط وازلامه من الرجال والنساء هم المسؤولون عن كل نشاطات البلاد . وان كانت اعترافات الملك - التي سطرها في اخر كتاب اصدره واللقاءات التي اجريت معه - وما كتبه اقرباؤه والمنسوبون اليه من موظفي وحواشي البلاط ومن امراء الجيش واقطاب النظام الاخرين والتي نشرت بعد سقوط النظام الملكي في ايران ، وكذا الوثائق التي تمت مصادرتها من السفارة الامريكية في ايران ، تشير كلها - وبما لايقبل الشك - الى ان الملك والبلاط ايضا لم يكونا سوى الات مسلوبة الارادة لا غير ، فقيادة الامور وما كان يصدر عن البلاط والنظام الملكي ، حتى تعيين الوزراء وقادة الجيش وتنظيم اللوائح المهمة كهان يتم بواسطة السفارة الامريكية - والانجليزية احيانا - ونكتفي هنا بالاشارة الى مقطعين مما كتبه الملك للتدليل على ذلك ، كتب محمد رضا يقول : “...ان سفراء انجلترا وامريكا كانا يؤكدان لنا في كل لقاء بانهم يدعموننا ، وخلال خريف وشتاء 1978 - 1979 م ، شجعونا كثيرا على ايجاد جو سياسي مفتوح . . . غالبا ما كنت استقبل السياسيين او المبعوثين الامريكان ، وكانو يشجعونني على الثبات على موقفي ، ولكن عندما سالت السفير الامريكي عن ذلك ، اجابني بانه لم يتلق حتى الان امرا بذلك . . . وقبل ذلك بعدة اسابيع ، وعندما استقبلت مسؤول المخابرات الامريكية الجديد في طهران ، اصابتني الحيرة من تصريحاته ، تحدثنا قليلا عن الجو السياسي المفتوح واذا بي انظر ابتسامة عريضة ترتسم على محياه . . . على اية حال ، فان اولئك الذين كانوا لسنوات طويلة اصدقاءنا الاوفياء ، كانوا يخفون لنا من الغرائب الكثير مما فاجئونا به بعد ذلك “(58)والملفت ان الملك سعى من خلال هذا الكتاب الى الايحاء بان هذه العوامل والاسباب المفاجئة الخارجية ، هي التي ادت الى سقوط نظامه ، حتى انه صرح بان الجنرال ربيعي - قائد القوة الجوية - قال للقضاة قبل اعدامه : “ ان الجنرال هايزر ، القى بالملك خارج البلاد كما يلقي بفأرة ميتة ! “(59) والحال ان حديثه هذا يعتبر بحد ذاته تحريفا للتاريخ ، فطبقا للوثائق والمستندات التي لا تحصى - واهمها واوضحها اعترافات الجنرال هايزر نفسه في كتابه ( 60) - فان من المؤكد ان الجنرال هايزركان قد وفد الى طهران من اجل الحفاظ على النظام الملكي الذي كان يتهاوى تلك الايام ، وكان بصدد تنظيم انقلاب عسكري للسيطرة على الاوضاع في تلك الفترة الحرجة .58 - جواب للتاريخ ( فارسي ) ص 36259 - جواب للتاريخ ( فارسي ) ص 36760 - مامورية في طهران ( فارسي ) ( مذكرات الجنوال هايزر )