فهل يمكن لنا اذا كشف العقل شيئا ان لا نعتبرة حجة ؟!.
اذا اعتمدنا الدليل الاول وهو الوجدان ، فان كل انسان يستثير عقلة يدرك بما لامجال للشك فية بان معرفة الاحكام امر ممكن ، ولكن بعد تذكير الوحي لة واثارتة الية .
وهذا الذي يفهم من الاختلافات بين الفقهاء فهم بين مويد ومعارض لامكانية ادراك العقل لذلك .
ثم يوكد آية اللة المدرسي ان تحديد العقل هو الحلقة المفقودة في هذا النقاش فيقول :
ان العقل في الكتاب والسنة ليس الذي يزعمة الفلاسفة .
واذا ثبت الفرق بين العقلين ، فان الاسلام نهي عن مناهج الفلسفة التي يسمونها بالعقل واعتبرها ضلالة ، وامرنا بالعقل الحق الذي هو نور اللة ورسولة الداخلي .
وتاكيدا لهذا الموضوع ، موضوع ان العقل كما الشرع ، فان اصول الاحكام وجوامع العلم في العقل والشرع لايختلفان .
فاللة يامر بالعدل والاحسان ، وينهي عن الفحشاء والمنكر.
والعقل لة ذات الوصايا ايضا.
اما في الفروع فان العقل يملك مناهج بكيفية الاستفادة من الاصول العامة لمعرفة حكم الفروع ، وقد ذكر الدين ايضا ببعض المناهج والتي اهمها العودة الي العقل .
فاذن لايوجد لدينا موضوع يستقل فية العقل من دون الشرع في اصدار حكم شرعي ، لاننا اساسا لايوجد لدينا موضوع نفقد فية حكم الشرع عاما او خاصا.
بهذه الصورة وبهذه الصلاحيات ياخذ العقل دورة في الدين ، كما ياخذ دورة في شتي مجالات الحياة .
واذا سمحنا للعقل بهذا الدور الكبير، فاننا مما لاشك فية سنعطية دورا اكبر في الامور التنفيذية والتفصيلية لمجالات الفكر والسياسة والاجتماع وغيرها.
لماذا؟ لان انطلاقة الفكر وبالتالي بداية الدور البناء تبدا من اكتشاف العقل للحقائق ، وهذا الاكتشاف كما اسلفنا انما يتم باتحاد دوري العقل والوحي في عملية تواصلية وتكاملية .
فالوحي والعقل احداهما وجة للاخر، وكلما ازداد اتحادهما بانت اثارهما باجلي صورة في الطبيعة .
وهذا التعاضد بين الدورين ، كما يقول السيد المدرسي دعاة الي تكاملية من نوع اخر; تكاملية بين الفعل والعقل ايضا، اذ ان العقل بدون الفعل يكون كثير الخطا، والفعل بدون العقل سوف يكون عديم الفائدة ايضا.
ولاجل ان ندرك التكامل بين الدورين ، ما علينا الا ان نتدبر في الاية الكريمة والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان اللة لمع المحسنين العنكبوت ـ 96.
فالجهاد الذي هو فعل لة دخل كبير في الهداية وسلامة العقل والتخطيط بالنتيجة .
واخيرا فان الرجوع الي العقل هو عبارة عن الحفاظ عن الاصالة التي تكلمنا عنها.
لان الجذر يعود بالتالي الي الوحي والي الادلة الشرعية .
وتفصيل ذلك ان هذه الادلة الاربعة تتكامل مع بعضها.
فالعقل يثار بالوحي ، والوحي يفهم بالسنة الشريفة ، والسنة تفهم بالاجماع .
ولكي نعطي مثلا واضحا علي هذا التكامل ، القران الحكيم تحدث عن العدالة في قولة تعالي :
ان اللة يامر بالعدل والاحسان النحل ـ 09.
العقل من جهتة يفهم العدالة وتطبيقاتها، لكن قيمة العدالة ومصاديقها الخارجية لايمكن ان تعرف بدون السنة .
اما تطبيق العدالة علي الواقع ، فانة لايمكن ان يفهم الا بواسطة العرف والاجماع .
اذن عبر هذه الثلاثة امور من اعتماد السيد المدرسي علي القران الحكيم وحضورة الفاعل لدية ومن النظرة المتوازنة المتطورة للتاريخ ومن نظرتة للعقل المستنير بالوحي ، نستكشف الاصالة وضماناتها.
ثانيا:
البناء الحضاري يعالج اية اللة المدرسي وضع الامة الذي يسمي في مصطلحات العصر بالتخلف بصورة حيوية وواقعية ، تختلف كثيرا عن طرق العلاج المتواجدة عند كثير من المفكرين المعاصرين ، ذلك لان الحلول التي يطرحها هولاء غالبا ما تميل الي النظرات المثالية والافتراضات حتي وصلت الي ما يسمي بالترف الفكري فيما يخص الحضارة .
ولهذا اقترب اية اللة المدرسي في برنامجة الحضاري نحو اية خطوة عملية تتسق مع منهج متكامل لحل هذه الازمة الشاملة .
وقبل ان نضع طرق الحل ، لا بد من تشخيص الازمة الحقيقية التي ولدت بدورها ازمات متعددة شكلت بمجموعها حالة تسمي في علم الحضارة باسم التخلف .
وهذا التخلف قد يكون متجسدا في جانب واحد من جوانب الحياة سواء الاجتماعية او السياسية او الفكرية او الاقتصادية ، فيكون تخلفا جزئيا يطال مجالا واحدا من مجالات المجتمع المتعددة .
لكن هذا التخلف قد ينشب بمغالبة الحادة علي عموم حياة المجتمع ، وحينها نطلق عليه مفردة التخلف معممة .
ان معرفة الازمة الحقيقية التي تقف وراء التخلف الشامل الذي تعيشة الامة ، يفيد بدورة في تحديد اولويات برنامج البناء الحضاري المقبل ، ذلك لان التقييم السطحي لمشكلة الحضارة يرخي بثقلة ايضا علي برنامج الحل بالبداهة في الوقت الذي يكون لتشخيص جوهر مرض التخلف ورقة رابحة في الاسراع لبناء حضاري مستقبلي راشد.
وعلي اساس هذه المقدمة نشرع في تعريف تصنيفي لبعض المظاهر الحقيقية لحالة التخلف التي تعيشها الامة الاسلامية .
فهناك ازمة سياسية حادة تتمثل بوضوح في انعدام الكفاءة لدي الجهاز السياسي .
وهذا يعني بصورة اخري دوران المجتمع في حلقة مفرغة كون القيادة السياسية التي من المفروض تحليها بعوامل القوة والقدرة والتحضر تفتقد الي ذلك فينعكس تطور المجتمع بقدرة ايضا.
وبالاضافة الي هذه الازمة هناك ازمة فكرية ليست نابعة من افتقار الفكر الاسلامي الي مستلزمات البناء الحضاري ، بقدر ما هي نابعة من ضعف الاستنباط الحضاري الشامل من نصوص الشريعة واحكامها بما يتطلب ووضع الامة الناهض .
هذا الضعف الذي يرسخ في عقول البعض قناعة خاصة تدفعة الي ضرورة الذهاب الي اتجاهات الاستشراق او التغريب الكامل او التوفيق بين تراث الاسلام الاصيل وبين موضوعات من الفكر الحديث .
وتضاف الي هاتين الازمتين ازمة ثالثة تتمثل في ضعف البنية الاجتماعية وتفتتها، بحيث تمنع من تكوين لحمة اجتماعية موحدة قوية بامكانها النهوض بالامة الي الامام .
وكما يبدو ولعلة من هذا السبب تاخذ سائر الازمات مبرر وجودها في حياة المجتمع ، فعلي سبيل المثال لايمكن لفساد الجهاز السياسي ان ينمو داخل المجتمع ويكبر الي ان يتسلم زمام الامر دون مشاركة خفية من ذات المجتمع ، لاسيما اذا امنا بان الجهاز السياسي ليس الا تجلي واضح وتعبير صريح عن طبيعة الحالة الاجتماعية ، حيث توكد ذلك روايات كثيرة يذكرها السيد المدرسي دائما.
ومن ثم تبدو الازمة الاخيرة التي تعيشها الامة ، وهي الازمة الاقتصادية ، ومعالمها واضحة حيث هبوط ترمومتر التقدم الاقتصادي والمعيشي وانخفاض معدل التقدم التكنلوجي ، واخيرا تبعية قهرية لكل ما تنتجة المصانع العالمية في الوقت الذي تنعدم فية انتاجات وطنية وشعبية .
وهذه الازمة ترجع الي انعدام اطروحة اقتصادية نابعة من ذات المعطيات الموضوعية والجغرافية لكل بلد، حيث من المفروض ان تاخذ هذه الاطروحة بعين الاعتبار الاستفادة من الثروات الوطنية التي تختبي ء بين تراب الوطن او تلك الموملة من ابداعات الشعب .
ان هذه الازمات الاربع التي تخيم علي ربوع وطننا الاسلامي ، لا ترجع اسبابها الي تقصير معين في مجال السياسة او الاجتماع او الفكر او الاقتصاد، كما يوكد السيد المدرسي .
بل ان هناك سببا اكبر من ذلك يلقي بضلالة علي هذه الجوانب ، وهذا السبب الاكبر هو فقدان الروح الاسلامية وبالتالي الحضارية .
اذ ان فقدان الروح الحيوية التي تجعل من اصحابها دينمو ذا تحريك دائم ، تحمل علي عاتقها مهمة البناء الحضاري .
فقدان هذه الروح هو السبب الاساسي في تكريس التخلف الشامل في الامة .
وعلي ذلك تكون الازمات الاربع افرازا من افرازات فقدان الشخصية الاسلامية الحضارية ، وهذا ما يدعونا الي التوجة الجاد نحو بناء شخصية حضارية تقوم بدور بناء الحضارة الاسلامية الراشدة .
ومن اجل ذلك داب السيد المدرسي طوال ثلاثة عقود علي بناء هذا الانسان ، فهو يولية اهمية خاصة عبر سائر البرامج .
ومن يراجع انتاجاتة الثقافية يلاحظ ذلك بوضوح ، وفي الصفحات القادمة سوف نتحدث عن معالم هذه الشخصية .
الوسيلة والهدف
قبل البدء باعطاء مشروع اولي لتركيبة الشخصية الحضارية ، تجدر الاشارة الي ان هناك ثلاث نطريات اوردها علماء الاجتماع تتكفل بتنسيق العلاقة بين الفرد والمجتمع ، لكونها عاملا كبيرا في التاثير علي البناء الحضاري .
وهذه النظريات هي التالية :
الاولي :
ان الفرد هو العامل الاوحد في تحريك الحياة الاجتماعية وبناء الصرح الحضاري ، وهذا ما يحتم ضرورة التوجة فقط وفقط لتربية مجموعة ضيقة من الافراد تربية حضارية منعزلة عن البدا باي شي ء اخر من قبيل الاهتمام بتربية بناء المجتمع .
وهذه النظرية يوخذ عليها طول فترة البناء الحضاري ، بالاضافة الي كون هذه الطريقة تولد مساوي ء مستقبلية اخري لها جانب كبير في تاخير هذا البناء مثل تكريس الطريقة الفردية التي توثر بدورها علي المجهود المجموعي لافراد المجتمع .
الثانية :
ان الفرد لايمتلك اية قيمة في الميزان الاجتماعي ، وهو يشكل حسب هذه النظرية مجرد برغي يقوم بدور محدود في تشغيل الماكنة الاجتماعية .
بمعني ان البدا باصلاح المجتمع عموما هو الطريقة الفضلي في بناء الحضارة ، ويستشكل علي هذه النظرية الغاوها لقيمة الفرد وجعلة وجودا لا فائدة منة .
الثالثة :
الدور المتوازن لكل من الفرد والمجتمع ، فمن جانب يمتلك الفرد دورا هاما في ايصال المجتمع الي نقطة بداية الحضارة ، بعد ان يكون الفرد باضافة الاخرين وحدة متكاملة تبداالمشوار الحضاري ، ومن جانب اخر فان للبيئة الاجتماعية دورا موثرا علي شخصية الفرد سلبا او ايجابيا، حتي ان امير المومنين ع يقول تاكيدا لذلك :
>الناس اشبة بزمانهم منهم بابائهم اي ان تاثير البيئة والمحيط الاجتماعي اكبر من تاثير التاريخ .
وهذا يبين ان الحالة الاجتماعية اذا ساهمت في تنمية شخصية حضارية ، سوف يصبح من السهولة بمكان البدا بالبناء الحضاري العام بشرط توافر الظروف الاخري ، واذا لم تتوفر تلك الظروف فتكون النتيجة شخصية متخلفة .
النظرية الاسلامية في النهضة الحضارية ترفض النظريتين الاوليتين ، لانهما لا تنظران بعين التوازن الي قدرات الانسان وكفائتة ، وتومن بالنظرية الثالثة حيث لا تنكر التاثير الاجتماعي علي الفرد، لذلك تدعو لاشاعة جو الفضيلة والحيوية حتي تنمو في الافراد الروح الحضارية .
وهذا ومن جانب اخر تومن بنظرية بناء شخصية حضارية فاعلة ، لانها احدي اهم اللبنات في النهضة .
ان البرنامج الاسلامي في تكوين نفسية حضارية ياخذ بعين الاعتبار جميع جوانب هذه الشخصية سواء الروحية او الاخلاقية ، لكننا هنا نريد التاكيد علي جانب هام ربما غاب من اذهان الكثير، ذلك هو جانب الاخلاقيات الحضارية علي صعيد الفرد بالذات ، وهذا بدورة يدعونا الي البحث عن المفردة الاسلامية التي تعني بجمع هذ الاخلاقيات ، وهذه المفردة هي الاخلاق التي تحتوي علي اتجاهين كما يوكد اية اللة المدرسي :
الاول :
المفهوم الضيق للكلمة الذي يدعو الانسان المسلم الي الالتزام بوصايا الشريعة واحكامها، وتجنب ما يوثر في تضعيف قوة المجتمع ، مثل النهي عن الغيبة والنميمة والبهتان ، والامر بالزهد والصدقة والاهتمام بالاخرين التي توثر في التكافل الاجتماعي .
الثاني :
المفهوم الاوسع للكلمة ، والتي تتضمن سلسلة واسعة نعبر عنها بالاخلاق الحضارية والتي تعني بزرع عوامل واسباب التقدم الحضاري في الشخصية المسلمة من قبيل الجد والاجتهاد والحيوية والطموح والتطلع والاتقان والاهتمام بالزمن وغير ذلك .
ولعل هذا المفهوم الاوسع غاب عن اذهان الكثير من الجيل الصاعد.
وتجدر الاشارة الي انة لايمكننا الفصل بين التربية الاسلامية والتربية الحضارية ، وذلك لان طبيعة الفكر الاسلامي طبيعة حضارية ، وهذا بخلاف الذين اتهموا الدين وارجعوا سبب التخلف الي قصور في الدين .
وهذا الزعم يفند بالتجربة التاريخية حيث بني الرسول ص حضارة اسلامية رائدة استمرت حاكمة لفترة طويلة ، حولت فيها تخلف المجتمع الجاهلي الي مجتمع حضاري بواسطة الاكتاف الحضارية الاسلامية .
وبهذه الصورة يمكن ان يبدا مشوار الانبعاث الحضاري الذي ياتي كما قلنا عبر اصلاح روح المسلم ، فينعكس ذلك علي شعور عميق بمركزية ارادة الانسان في تقرير نمط الحياة ، ثم استثمار ذلك في تحدي الظروف المحيطة سلبا او ايجابا بهدف الخروج من قوقعة التخلف .
الثقافة والنهضة
ان البناء الحضاري للشخصية المسلمة التي فصلنا الحديث حولة في ما مضي يعتمد علي مسالة هامة في مسيرة التقدم ، هي مسالة تصحيح النظرة للانسان وللواقع وللحياة .
وهذا ما يسمي بالثقافة وانتخاب النمط الثقافي الذي يتناسب ووضع الانسان وحاجتة الية .
ويوكد اية اللة المدرسي ان الثقافة ليست قوالب جامدة لاترتبط بحياة الانسان ، بل انها الارضية لخلفية السلوك العفوي الذي يصدر من الانسان علي الدوام ، ولذلك فان اختيار نمط ثقافي معين هو في حقيقة الامر اختيار للشخصية وللهيئة التي يقتنع بها اقتناعا تاما.
ان الايمان بثقافة تغيرية ناهضة تتناسب مع وضع الامة الناهض ياتي كفعل ارادي وتصميم سابق للشخصية الحضارية .
وعلي هذا الاساس فان مرحلة الانبعاث الحضاري لاتعني تبنيا مجردا او ارتباطا اجوفا بمظاهر الثقافة الاسلامية ، بل انة يعني تطبيق التوجهات الدينية بجذورها وفروعها علي السلوك الفردي والاجتماعي لتسريع العملية الحضارية ..
ومن هنا نجد مفارقة واضحة بين نمطين من التفكير الثقافي ، حيث نجد قضية واحدة ، الا ان كلا من هذين النمطين ياخذ منها افكارا تعزز ما لدية من قناعات واتجاهات .
ولناخذ مثلا علي ذلك واقعة كربلاء وشهادة الامام الحسين ع في عام 16 هـ ، واذ مما لاشك فية ان لهذه الواقعة وجهين :
وجة يتحدث عنها بما فيها من بطولة وجهاد وانتصار للحق علي رغم اختلال توازن القوي ، والوجة الاخر هو وجة الماساة والمصائب التي حلت بالامام المعصوم واهل البيت في تلك الواقعة .
شاهدنا في هذا المثال ان كل نمط من هذين النمطين اخذ من الواقعة بما يتناسب وقناعاتة ، فاصحاب الوجة الاول اخذوا منهما عناصر القوة و المواجهة لكل العصور، بينما اصحاب الوجة الثاني وظفوا جانب الماساة وجعلوة غطاءا لقرار التراجع عن مواجهة الفساد والانحراف الذي اتخذوة سلفا.
اذن اختيار المنهج الثقافي خاضع لقرار الانسان نفسة اولا، لكن باي صورة وباي الية يمكن لنا تحصيل النمط الثقافي الذي يتناسب ووضع الامة الناهض ؟ يوكد اية اللة المدرسي في البدء علي ان الثقافة التي ترتبط بالسلوك اليومي للانسان لها جانب ; ثابت ، والاخر متغير.
والثابت يسمي بارضية التفكير، والمتغير هو الذي يتعامل مع المتغيرات في هذا الكون .
والية الاستفادة من كلا الامرين هو العقل ، اذ انة اداة الاستفادة من المعرفة ، وهو قسمان :
العقل الذي يختزن عناصر المعرفة ثم يحول كل مجموعة منها الي قاعدة او ارضية تفكير، ثم يقوم العقل بتوجية السلوك العفوي اعتمادا علي هذه القواعد والارضية التي يصفها العقل الظاهر ثم يرسلها للتخزين في العقل الباطن .
اما العقل الظاهر الذي يتعامل مع الموثرات الخارجية والظروف الموضوعية ، فانة يقرر اكتساب بعضها وترك الاخر الي وقت الحاجة ، حيث يقوم العقل الظاهر بدور التحكيم والارادة بعد وصول الانسان الي سن الوعي والرشد، ويكون دورها انئذ تطوير المكتسب وتحويلة الي صورة مثلي حسب الظروف .
وبهذه الالية وبعد انتخاب النمط الثقافي المتناسب ، يمكن للتغيير الثقافي ان يوثر في مسيرة الوضع الراهن .
ولكن علي الرغم من ذلك هناك بعض المعوقات لهذه الثقافة الحيوية ، لاسيما بلحاظ الحالة السائدة والموروثة من عصر التخلف ، وهذه المعوقات هي عبارة عن المظاهر الباقية من الثقافة الجامدة .
ومن ابرز مظاهر هذه الثقافة الجامدة كما يوكد اية اللة المدرسي ، الغاء محورية الانسان كعقل وارادة في هذه الحياة .
وكما قلنا في بداية الحديث عن الثقافة الناهضة ان الانبعاث الحضاري هو تجل روحي ناتج عن ارادة ، حدد العقل اتجاهها وحجم قوتها.
ومن اهم فوائد ارادة العقل هذه ان الانسان قادر علي مواجهة معوقات الحركة وصعوبات التقدم التي تسمي بمجموعها ظروف سلبية مانعة عن الحركة .
ومن جهة اخري فالانسان الناهض هو الذي يعتبر نفسة قادرا علي الانطلاق وتجاوز الموانع ، بينما الانسان المتخلف هو الذي قرر - سلفا- القعود والعزوف عن التحرك اعتمادا علي تبريرات واهية .
وماحدث للانسان المتخلف انما هو من تاثيرات الثقافة الجامدة ، ذلك لان النمط الثقافي الذي يومن بة هذا القطاع يبحث عن التبريرات والاوهام لكي يتعلل بة عن فساد الواقع وضمور العزيمة وجمود العقل وضعف الارادة .
وهذه النتائج طبيعية في منظار الثقافة المريضة التي تعتبر بالظروف وتجعل بعض المستلزمات محورا لحركة الحياة .
بينما الثقافة الناهضة تومن بان الانسان بعقلة وارادتة يحرك الحياة ويصنع الواقع .
ومن المظاهر المريضة للثقافة الجامدة التي يشدد عليها السيد المدرسي تركيز الضوء علي السلبيات والتقليل من شان الايجابيات ، والتركيز علي القضايا الجانبية الجزئية والخاصة بالذات الذي يعبر عنة بـالانا واهمال القضايا الكلية والعامة الخاصة بالاخرين ، وبهذا يصبح الانسان ذا طموح محدود لا يتعدي هذه المسائل الجزئية .
والسبب في ضعف هذا الطموح هو فقدان سلم الاولويات الواقعي واستبدالة بسلم اولويات يتناسب مع الطموح المحدود.
ولهذا مثلا يركز هذا الانسان اهتمامة بذاتة وبكل ما يتمثل بها، ويتضاءل عندة شعور العمل والنشاط للاخرين والمجتمع ، الي ان يصل في النهاية الي حالة عجيبة من الانعزال والانطواء.
وحينها تتلاعب بة الاوهام يمنة ويسرة ، حتي ينعكس ذلك الي شعور عميق بالضعف ينمو ويتطور الي ما يسمي اليوم بـعقدة الحقارة .
هذا علي الرغم من ان الامة تختزن كما ثقافيا هائلا يحتوي علي عناصر ايجابية ، وهناك عناصر توخذ علي انها سلبية علي غير حقيقتها.
واصحاب الروح المتخلفة تتغذي علي هذه العناصر السلبية التي ذكرنا قسما منها فيما مضي .
ومن هنا تبدا مسوولية المفكرين والقيادات والرجالات التاريخية ، حيث تقوم باثارة العناصر الايجابية الدافعة لفضح العناصر السلبية وكشفها لابعاد الناس عنها.
وهناك اسباب رئيسية يعزي اليها ظهور الثقافة الجامدة التي تتصف بالامراض السابقة ، وهذه الاسباب تتراوح بين حدوث هزيمة تتعرض لها الامة ، او انحراف الزعامات الفكرية والسياسية التي تتمتع بشعبية كبيرة ، او قيام النظام السياسي بتخريب عمدي في ثقافة الامة وتقاليدها الاجتماعية ..
وهذا يستلزم اشاعة نمط معين من الثقافة الموجهة .
وهذا كلة يتم في غيبة من المصلحين ، وتقاعس وتواكل من عامة الناس .
ثم تدور عقارب الزمن وتمر حقبة طويلة علي بقاء هذه الحالة ، الي ان تصبح هذه الثقافة المريضة منهج اعتيادي في الواقع ، بل وحتي في التفكير.
وهناك مشكلة اكبر من ذلك تقع بعدئذ، وهي تداخل الثقافة المريضة مع العقائد الدينية ، بحيث تصبح جزء مقدس من العقيدة لا يمكن النقاش فية .
هذا من جهة ، ومن جهة اخري يحذر آية اللة المدرسي من تحول الدين ـ الذي يقصد بة الوحي ـ الي تراث ، وتحول التراث ـ الذي هو فهم البشر للدين وطريقة تطبيقهم للاحكام ـ الي دين ، بحيث يتساوي قول اللة جل جلالة مع اقوال البشر من حيث الالزام والعدم .
وفي الحالة الاولي اذا تحول الدين الي تراث يصبح الوحي مجرد مادة للتبرك او موضوع يناقش فية المثقفون والمفكرون دون ان يرتبط بواقع الحياة ، ودون ان ياخذ صبغة الحكم الالزامي .
اما في الحالة الثانية وهي تحول التراث الي دين ، فان التراث وهو من افعال البشر سوف يلبس ثوب القداسة وياخذ صفة الاحكام الملزمة .
وبناء علي هذا الاساس يوكد آية اللة المدرسي علي ضرورة التمييز بين التراث وبين الدين ، حتي لا تسنح الفرصة للتداخل بين الثقافة المريضة وبين معتقدات الدين .
ولكي يبقي الوحي ـ آنئذ ـ هو النص السالم عن التحريف وعن الاشتباهات البشرية .
وكمثال علي ذلك نذكر التعامل الذي حدث تجاة التاريخ ، حيث اصبحت بعض المجاميع تقدس التاريخ بما فية من احداث ورجال ، علي الرغم من وضوح التناقض الشديد مع مقتضيات الدين واحكامة .
وعلي ضوئة اصبح النقاش في قضايا ترتبط باعادة تقييم السلف في عداد المحرمات مثلا.
اذن بهذه الصورة يحدد آية اللة المدرسي معالم الثقافة الناهضة اللازمة في تدشين مرحلة النهوض الحضاري .
من اين نبدا؟
لقد شكلت نقطة البدء في برنامج البناء الحضاري مدار جدل حاد وعنيف بين المفكرين الحضاريين ، ولكي نكون موضوعيين لابد ان نذكر هنا بعض هذه الاراء حتي يتكون لنا تصور شمولي لمسالة النهوض الحضاري .
ولابد ايض اولا من ذكر ملاحظة هامة قبل ذلك ، وهي ان قسم كبير من الاختلاف يعود الي اصول النظرة العقائدية عند هولاء المفكرين .
فبعضهم اعتبر علي سبيل المثال ان نقطة البداية في رحلة الحضارة يتم بعد وفرة متجانسة من بركات الطبيعة وامكاناتها المادية ، كصلاحية التضاريس الجغرافية وملائمة المناخ ..
ولاجل هذه الخلفية لخصوا برنامجهم الحضاري في كلمة ، حيث قالوا ان الانسان ابن الطبيعة .
بمعني ان هناك دوافع خارجية توثر بصورة حتمية علي قرار الانسان في سعية للحضارة ، وهذا يعني ان الانسان ليس هو الفاعل الاكبر في برنامج البناء الحضاري .
اما المورخ الالماني هيجل فقد قال بان الذي يغير من مسيرة المجتمعات نحو الافضل هو ارادة سماوية تدفع الانسان في هذا الطريق .
لكن هيجل وقع في شرك تكبيلة لارادة الانسان ، حيث آمن بمسالة الجبر الالهي .
وهناك راي ثالث يشابة هذا الراي ، وهو راي الفيلسوف الالماني سبنجلر الذي يومن بالجبرية وبارادة غير حرة تسير حركة الانسان نحو التطور والرقي .
وهناك نظرية اخيرة تقول بان نقطة البدء تكمن في وجود بطل يسوق المجتمع نحو هدف حضاري عال ، كما يقول بذلك لامارك .
لكنة بهذه النظرية يحصر عموم التقدم الاجتماعي في شخص واحد فقط، وهذا بدورة يعتمد تجاهل دور المجتمع في هذه العملية الي حد كبير.
هذه الاراء في الانطلاقة الحضارية كانت من مفكرين غربيين وشرقيين ، فرضتها عليهم بالتالي معتقداتهم الفكرية ، وانعكست بشكل تتغافل فية عن دور الانسان الفعال في بناء الحضارة .
اما المفكرون الاسلاميون فانهم اتجهوا اتجاة آخر يتناسب مع نظرتهم الي الطبيعة والي الكون والي الخالق .
وآية اللة المدرسي انطلاق من هذه المقدمة يوكد علي ان الشروع في ايجاد عملية تطوير ذاتي في الشخصية الاسلامية بما ينسجم مع وضع الامة الناهض هو حجر الزاوية في العملية الحضارية ، خصوص وان الكتف الحضاري اذا احاط علم ووعي بمشاكل التخلف وانعكاساتة ، وامتلك الطموح العالي في تغيير هذا الواقع ، وسعي الي تطبيق ايديولوجية مبداية علي نفسة تتناغم تفصيلاتها العملية مع حركة العصر..
آنئذ سوف تتحول هذه الشخصية بحق الي ارادة فعالة لبناء حضارة اسلامية تليدة .
هذا من جهة العمل علي صنع شخصية حضارية ، ومن جهة اخري فان الحضارة ليست مادة تستورد من المصانع العالمية ، ثم توزع علي افراد المجتمع المتخلف لكي تدب في جسمة الحضارة والحيوية .
الحضارة ليست كذلك ، لان الحضارة هي روح تخلق في شخصية الانسان انبعاثة حضارية تدفعة نحو العمل و التقدم في شتي المجالات .
وبمعني آخر يمكننا القول ان الحضارة هي حالة نفسية تعالج سلوك الانسان بما يصلح للبناء الحضاري ، وليست حاجة مادية لا دخل للانسان بصنعها.
ان تعريف الحضارة بهذه الصورة يتناسب مع مشكلة الامة الرئيسية التي ارجعناها الي حدوث انفصال بين روح الانسان المسلم وبين الاسلام الحقيقي وتعاليمة الحضارية .
اذ انة بمجرد ايجاد علاج للروح الانسانية المتخلفة نتمكن من الوقوف علي ارجلنا اولا، لنبدا مسيرة الحضارة ثاني .
وهذه المسيرة تستلزم بذاتها ايض صفات حضارية اخري ، مثل الاحساس العميق بواقع الامة والطموح الرفيع من اجل تحقيق ذلك ، الي طموح عملي تنعم بة ، والسرعة والجدية والابداع من اجل ولادة حضارة قوية راشدة .
وبالطبع هذه المتطلبات لا يمكن ان تتحقق في ظل تراخي وفتور وكسل وملل ، بل هي بحاجة الي همة عالية تكون بمثابة دينمو يحرك المجتمع نحو الحضارة ، لا سيما وان ولادة حضارة جديدة تحتاج الي مخاض عسير يتوجب علي الامة دفع ضريبة باهضة التكاليف ، تمام كما قام الرسول الاكرم ص بخطوات جبارة في تثبيت كيان الامة الاسلامية اولا، ثم قام بتطبيق بنود الحضارة الالهية واحدة واحدة علي افراد الامة الناشئة .
ومن اراد التفصيل فليراجع تاريخ التطور الاسلامي في العمران والبناء الشامل في عهد الرسول الاكرم ص .
عمل متكامل
اذا اردنا ان نصنع واقع افضل ، فليس امامنا كما يوكد آية اللة المدرسي الا خيار النشاط المتكامل الابعاد، والعمل الجذري الذي يوسس لنا اساس قوي ومتين يهيي لبناء مستقبل الامة الزاهر.
ذلك لان الحركات التغييرية التي تقوم لتبديل وضع الامم نوعان :
حركات اصلاحية ، واخري حضارية .
والحركات الاصلاحية عادة ما تهتم باصلاح جانب واحد من الجوانب المختلفة ; فالحركات السياسية مثلا تستهدف تقويض النظام السياسي الحاكم وتغييرة بنظام جديد، وهذا التغيير عادة ما يتم عبر انقلابات عسكرية ، او الحركات الاقتصادية التي تستهدف تغيير بنية النظام الاقتصادي وتوزيع الثروة بعدالة مطلقة ، او الحركات الثقافية التي تهدف تطوير الثقافة وتغييرها من ثقافة تتمتع بخصائص محددة الي ثقافة لها قيم وتوجيهات تختلف عن تلك اختلاف كبير ، وهذا ما دابت من اجلة حركات التوعية الدينية اتجاة الافكار المستوردة .
اما الحركات الحضارية ، فانها تاخذ طابع الشمول .
فهي تستهدف ابطال البني التحتية لمجالات الثقافة والاجتماع والاقتصاد والسياسة في المجتمع ، ومن ثم تستبدلها ببني جديدة وفق قيم جديدة تشمل كل الابعاد.
وامتنا الاسلامية اليوم بحاجة الي مثل هذه الحركات ، ذلك لاننا لسنا متخلفين عن العالم الغربي في الصناعة فقط، حتي نقوم بثورة في التنمية الاقتصادية ونلحق بركب التقدم الاقتصادي الرهيب في العالم ; ولسنا متخلفين عن روح الدين الاسلامي ثقافي فقط، حتي ننشر الوعي الاسلامي فيرتفع ذلك التخلف تلقائي .
كلا..
ان الوضع ليس كذلك .
ان الوضع القائم عند امتنا اليوم هو اعمق انحراف .
فهو يشبة الي حد بيعد وضع الجزيرة العربية قبل ان تهبط عليها رسالة الاسلام .
فقد عم الانحراف وانتشر الابتعاد عن هدي السماء وعن السلوك الانساني السوي .
وفي هذه الحالة لا ينفع المجتمع الا هزة عنيفة وفي مختلف الجوانب ، حتي يتحسس المجتمع مدي الانحراف ويبدا مسيرة العودة الي الدين والي الفطرة الانسانية .
وشاهدنا علي ذلك ان هناك حركات اصلاحية في الجزيرة العربية سبقت بعثة الرسول الاكرم ص ، لكنها كانت تستهدف اصلاح جانب من جوانب الحياة .
فمثلا ورقة بن نوفل تعهد بنشر بعض التعاليم الاخلاقية ، وسعد بن اياد حاول القيام بتغيير ثقافي ، وحلف الفضول الذي ضم مجموعة من الطبقة الاجتماعية المتوسطة والغنية كان يامل في احداث توازن اقتصادي بين طبقات الجزيرة العربية لصالح المحرومين والمستضعفين ، في مقابل حلف الطيبة الذي كان يجمع المجموعة المستكبرة من كبار الاقطاعيين والمحتكرين .
ان هذه المحاولات واشباهها كانت قائمة آنذاك لكنها فشلت ، لانها لم تكن بمستوي الانحراف الذي كان قائم ، بسبب محدودية الاهداف التي ادت بدورها الي عدم الحصول علي الامكانات والمحفزات المودية الي بذل جهود وتضحيات هائلة تتناسب مع مستوي الانحراف القائم .
ثم جاء الاسلام بحركة حضارية شاملة وعنيفة اصطدمت مع الواقع الفاسد في كل مجالاتة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية .
وكان هذا الاصطدام هو الشرارة التي انهت مرحلة طويلة من الفساد السياسي والاجتماعي والانحراف العقائدي ، لتعلن عن بدء مرحلة الخير والسعادة التي عمت ارجاء المعمورة .
ان الوضع في العالم الاسلامي اليوم كما يوكد السيد المدرسي بحاجة الي حركة ترتفع الي مستوي تلك الحركة .
ذلك لاننا اذا اردنا تغيير الاقتصاد الي ما هو احسن ، فان رواسب الثقافة التي حملها الانسان من عصور التخلف لا تدع لة مجالا للاستفادة من العدالة الاقتصادية التي تعتبر بدورها جزء من شروط السعادة الانسانية .
لان السعادة ـ كما هو معلوم ـ خلاصة لمجموعة عوامل تتفاعل مع بعضها لتوجد السعادة ، مثل عدالة التوزيع وعامل السعي والنشاط وعامل العلم والمعرفة وعامل الاخلاق الفاضلة .
وهكذا لو افترضنا بلوغ الانسان الي مستوي راق من الاخلاق الرفيعة والسامية ، فهل يضمن ذلك نجاح عملية الاصلاح الشامل ؟ بالطبع لا يكفي ، لان مجرد الاخلاق الفاضلة دون التقدم الاقتصادي لا يمكن ان ينفع اذا ساد المجتمع شبح الفقر، باعتبار ان الانحراف الواحد اذا عولج ، لا يعني ان سائر الانحرافات قد انتهت ، بل ان آثارها ستظل موجودة وقد تسبب في شقاء الانسان .
ان مجتمعاتنا اليوم تحتاج ـ كما يقول السيد المدرسي ـ الي هزات عنيفة تغير البني السياسة الفاسدة وقبلها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، لان هذا الاسلوب فقط هو القادر علي ان يعطي السعادة للمجتمع ، اما الاصلاحات الجزئية فانها لا تجدي نفع .
ولاجل هذا فشلت كافة المحاولات والاتجاهات التي قامت في وطننا الاسلامي خلال السنين الماضية .
فسقطت القومية ، وتبددت حركة التغريب والعصرنة ، بل وحتي بعض المشاريع الاحادية الجانب لبعض الحركات الاسلامية فشلت لانها كانت تسعي الي تغيير جانب واحد من جوانب المجتمع .
ليس ذلك فقط وانما كرست هذه الحركات المزيد من الانحراف ، بالاضافة الي انها لم تحقق شيئ من اهدافها الاستراتيجية .
اذن المنطق والتاريخ وضخامة فساد الواقع يوكد باننا بحاجة الي هزة عنيفة تشمل كل الابعاد، حتي نعود الي روح الاسلام الحقيقي بكلة ، والا فان التغيير الجزئي سوف لن يكفل تحقيق الاهداف الكبري التي نصبو اليها.
التحدي والحضارة
المواجهة والصراع والتحدي مفردات ذات معاني عميقة في حياة الانسان كفرد او كمجتمع لا تخلو منها كتابات آية اللة المدرسي وتوجيهاتة الفكرية ، بالخصوص فيما يرتبط بمسالة البناء الحضاري ، فكيف ينظر سماحتة الي ذلك ؟ يري آية اللة المدرسي ان السبب الحقيقي في هزيمة الامة تجاة الاخرين ، هو انفصالها عن حقائق الدين .
هذا الدين الذي جاء لتحرير الانسان من اغلال العبودية والزيف .
لكن هذا الهدف الاسمي للدين لا يمكن ان يتحقق الا اذا تحمل الانسان كفرد وكمجتمع جميع التزاماتة الدينية ، مهما كانت الصعوبات التي تستتبع ذلك .
وفي هذه المرحلة مرحلة القبول والالتزام بالتكاليف الدينية تنمو عند الانسان مشكلة اخري هي مشكلة التبرير، وحينئذ يتعلل الانسان عن تادية اي دور والقيام باي عمل بحجج واهية واعذار بالية .
فمثلا حينما يري استحكام الازمات المتعددة ، فانة يبرر لنفسة من اجل ان لا يودي اي دور، ويزعم بعد ذلك انة ضعف في سلطان اللة عز وجل ، ولذلك يبيح لنفسة ان يبقي جليس الدار، ولكنة لا يعرف انة بعملة هذا يساهم بصورة اكبر في تكريس الواقع القائم .
ولاجل هذا الامر فان التبرير يصبح مقتل الحضارة ، ولذلك فان آية اللة المدرسي يهاجم التبرير باي صورة كانت وتحت اي شعار كان ، لانة ام المصائب .
ويضرب آية اللة المدرسي امثلة عديدة علي ذلك ، فمثلا يقول :
ان التبرير هو من ابرز الاسباب التي تساهم في سيطرة الواقع الفاسد علي امة ما، لان الامة التي تتعلل بانعدام الامكانات والخطة والبرامج التي توجهها للتحرك والتقدم ، او بالفراغ القيادي الذي يلملم جهودها وطاقاتها..
هذه الامة لا يمكنها ان تتحرر.
ويسوق القرآن الحكيم علي ذلك مثالا في الايات التالية :
ـ واقسموا باللة جهد ايمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن اهدي من احدي الامم فلما جاءهم نذير ما زادهم الا نفور فاطر ـ 24.
فاللة سبحانة وتعالي ينذرنا عبر هذه الاية المباركة من خطر التبرير عبر قصة حدثت لعبض الاقوام ، حيث قالوا:
اذا جاءنا نذير وقيادة فسوف نسعي الي التحرك .
فلما جاءت الرسالة والنذير لم يزدهم ذلك الا فرار من الحق ، واقتراب من الباطل .
بهذه الصورة يتحدث آية اللة المدرسي عن التبرير وآثارة ، ومن ثم يرجع تخلف المسلمين الي هذا السبب حيث ان المسلم الذي لم يتحمل مسووليتة وتملص منها لاسباب واهية تعود في جذورها الي ان التبرير هو السبب .
ولذلك فان ابرز ما توحي الية آيات الذكر الحكيم فكرة المسوولية لتركيزها في ذهنية البشر بين اية و اخري .
وعلي الرغم من ان دلائل المسوولية وشواهدها تفرض نفسها علي الانسان ، الا ان نفسة في اكثر الاحيان لا تتقبلها، بل تسعي لاجل التملص منها والابتعاد عنها، ومن ثم القاوها علي شخص آخر للتحلل من التزاماتها.
بينما القرآن يريد ان يوكد ان الانسان ليس فقط مسوولا عما يجري عليه كشخص ، بل هو مسوول عما يجري عليه وعلي الاخرين كافة .
ومن اجل حل الاشكالية بين المسوولية والتبرير، فان آية اللة المدرسي يتحدث عن المفردات الثلاث التي صدرنا بها هذا الموضوع في اغلب اصداراتة الثقافية ، ويكفي اطلالة سريعة علي ذلك علي بعض اسماء كتبة العمل الاسلامي ، البعث الاسلامي ، التحدي الاسلامي .
كل هذا من اجل الاشارة الي ان الحرب والصراع هو مصنع الحضارة .
وقد قالوا قديم بان التحدي والاستجابة للتحدي هو بداية الحضارة ، كما يوكد ذلك المورخ الانجليزي ارنولد توينبي في موسوعتة الشهيرة .
ولهذا فان المدرسي يتحدث عن حالة الحرب والمواجهة بصورة دائمة ، ليس باعتبارها نتاج تجارب تاريخية ، بقدر ما هي مسوولية دينية يوصي بها الدين .
ويمكننا ان نراجع التاريخ البشري ، لكي نري مصداقية تاثير الحرب والصراع علي مسالة بناء الانسان وبناء الامة .
ومن نافلة القول اولا ان من يراجع سيرة التاريخ البشري ، يري بما لا مجال فية للشك حدوث سلسلة من الصراعات الحادة التي تتلون بالوان مختلفة من صراع عسكري او نزاع بين مجتمعين او صراع بين شعب وحاكم وغير ذلك .
والامعان في خلفية هذه الصراعات يكشف ان مسالة الصراع في الحقيقة صراع بين الحق والباطل ، وهي سنة دائمة دوام الزمن مهما تغيرت الواجهات وتبدلت الصور والشعارات .
ومهما زعم الانسان ان هروبة من واقعة ينقذة من المخاوف والاخطار، الا ان ذلك يعود عليه اضعاف مضاعفة لسببين رئيسيين :
الاول :
ـ ان طبيعة الدنيا عجنت بالفتنة .
الثاني :
ـ ان هروب الانسان من الصراع يفقدة ومضات من ارادتة الي ان يبقي جسد بلا روح وبلا عزيمة .
بينما اذا دخل الانسان حلبة الصراع والمواجهة ، فانة سوف يخرج منها انسان جديد قادر علي تحدي اسباب التخلف في امتة وفي زمانة ، ذلك لان عالم المواجهة هو مصنع الانسان الحضاري .
ولهذا يقول آية اللة المدرسي :
ان الانسان قبل ان يصنع في مدرسة الرخاء، فانة يولد في رحم الصراع والمواجهة .
وهذا هو ميزان القوة في صناعة الانسان المسلم الحضاري .
ويمكننا اجراء هذا القياس تمام علي الامم والشعوب .
فحين تعيش امة من الامم في ظروف المحنة والصعاب وتتراكم عليها الماسي ، وتحيط بها المشاكل من كل حدب وصوب ، فانها سوف تضطر الي استخراج معادنها الخيرة واكتشاف سرائرها الطيبة ، وتضع علي الارض كل امكاناتها وطاقاتها، مما يدعوها الي مراجعة نفسها ودراسة تاريخها واعادة النظر في منهجية التفكير الحاكمة ونمط النظريات السائد.
اذا دخلت هذه الامة مرحلة الحرب والبناء الحضاري بهذه الصورة ، فانها ـ ليس فقط ـ تستطيع تجاوز ظروف المحنة ، وانما ايض تحولها الي مدرج من مدارج الكمال ، ومنطلق من منطلقات التقدم .
وهنا يشير السيد المدرسي الي ان من حكم المواجهة في البناء الحضاري فكرة البناء قبل الهدم ، وذلك لان من ابرز اخطاء الذين يريدون ممارسة الاصلاح والبناء الحضاري هو زعمهم ان هذه العملية هدم دون بناء، وازالة للبني والافكار القائمة دون ان يعطوا الاهمية لاقامة البني البديلة عنها في المجتمع .
وعند هذا المنعطف تتهاوي نظريات عديدة وتتساقط اتجاهات مختلفة ، لانها لم تصل الي ادراك هذه الحقيقة :
ان الحضارة بناء قبل ان تكون هدم ، وان الرسالة اقامة لواقع قبل ان تكون تصفية لواقع ، وان الوحي انما جاء للاصلاح وليس للهدم فقط.
وهذه العملية بذاتها تزيد من قدرات وكفاءات المجتمع الساعي نحو الحضارة ، باعتبار ان الدخول في الصراع يبدع صفات جديدة .
هذه فوائد المواجهة .
اما الامم التي لم تدخل في ساحة الصراع ، فستبقي متقوقعة في دائرة التبرير ولن تكشف معادنها المخبوءة ، فضلا عن تكريسها لواقع التخلف .
والتاريخ يشهد بان الحضارات التي كانت قائمة لا تصل الي مستوي متقدم من البناء الحضاري الا اذا دخلت في حروب متعددة ، سواء مع الطبيعة او مع التخلف ذاتة ..
والدليل علي ذلك ان الامم التي تعيش في مناطق مرفهة يطلها المناخ بامطارة ، وتقلها الارض بخصوبتها، لا تبذل جهد في ترتيب حياتها الاقتصادية اللهم الا في صيد الاسماك والطيور.
امثال هذه الامم لم تنم الحضارات عندهم ، وذلك انما يرجع الي سبب واحد فقط، وهو انها لم تواجة اي خطر.
فحكم الروتين حياتها، وقتل الابداع في نفوسها.
ومثلوا لذلك ببعض الشعوب الصينية والهندية كانت تهطل عندهم الامطار، وتجري الانهار، وتكتسي الارض بافضل المزروعات ..
توافر مثل هذه الظروف لم يفتح مجالا لتفجير الطاقات والكفاءات ، مما ادي تباع الي عدم نشوء اية حضارة عند هذه الشعوب .
وهذا ان دل علي شي ء، فانما يدل ان الحضارات انما تنمو بسبب المواجهة .
ولعلة لاجل هذا السبب قالوا:
ان الحاجة ام الاختراع .
حتي ان بدايات التطور التكنولوجي في الدول الاوربية تعود الي هذا الامر، اذ حينما دخل الاوربيون في حروب طاحنة بدا كل شعب منهم باختراع وسائل تكنولوجية جديدة ، الي ان انتقل هذا التطور شيئ فشيئ الي الجانب المدني ، حيث ما نراة ماثلا امام اعيننا اليوم .
وهذا مما يدل علي ان حالات المواجهة قادرة علي صنع انسان جديد ووسائل جديدة .
وهذا تمام ما يستهدفة آية اللة المدرسي من ايمانة بفكرة الصراع والمواجهة ، فهو يقول :
ان من يملك روح التحدي يتقدم ويتطور، بينما الذي لا يملك هذه الروح يبقي في مكانة ويتراجع .
فالاوربيون مثلا كانوا يعانون من آثار الثلوج الباردة فتحدوها، واليابانيون واجهوا طبيعة جرداء فتحدوها ووصلوا الي ما هم عليه الان ; وكلا المثالين احتاجا الي مقاومة التخلف بالتحدي والمواجهة الي ان تحول الي علم والي تقنية .
ولكن السوال الذي يراود الاذهان الان ، هو ان الامة الاسلامية الا تملك اسباب التحدي لكي تصل الي هذا المستوي ؟ بالطبع ان الامة تواجة تحديات كبيرة سياسية واقتصادية وفكرية واجتماعية ذكرناها في بداية الفصل ، لكن للاسف ماتت روح التحدي فوصلت الامة الي هذا المستوي من التخلف .
الا ان البعض قد يبرر ذلك بالقول ان مسار نظرية الدورة الحضارية هي السبب في ذلك ، حيث ان المجتمع علي ضوء هذه النظرية يهرم ويشيخ ، تمام كما الانسان يهرم ويشيخ بعد ان يكون طفلا يافع فشاب فرجلا.
فالامة بعد ان تكون قوية شابة مهابة الجانب ، اذا بها تنهار وتسقط من ذلك العلو الشاهق الي سفح الوادي .
ولكن حتي وان كان القول صحيح بالنسبة للانسان ، اذ بعد الهرم لا يوجد امامة الا الموت او الاستمرار من ضعف الي ضعف ، الا ان هذا القانون غير جار في مسيرة المجتمعات والامم ، لان المجتمع يمكن ان يعود شاب بعد ان وصل الي مرحلة الشيخوخة .
ويضرب السيد المدرسي علي ذلك مثالا بالمجتمع الجاهلي الذي وصل الي شيخوخة ما بعدها شيخوخة ، لكن الاسلام بتعاليمة الحيوية نفخ فية روح الحياة من جديد، فاذا بة يحيا وينمو حتي اكتسح العالم بحضارتة الجديدة .
وكل ذلك انما هو بسبب روح التحدي ، هذه الروح التي تتكفل بابتكار وسائل جديدة وتتعهد بصنع انسان جديد يحمل علي عاتقة مهمة بناء الحضارة الاسلامية الرشيدة .
اسس التمدن الاسلامي
تحديد الاسس والثوابت التي تستمدها الحضارات ـ اية الحضارة ـ يعتبر من الامور التي تمثل سلم الاولويات ، ذلك لان مثل هذا التحديد يضمن سلامة الحضارة وسلامة المسيرة ايض .
وقبل ان نتحدث عن هذه الاسس ، لابد ان نحدد جانبين في اية عملية حضارية :
الجانب الاول :
ـ هو مجموعة الانجازات المادية والمعنوية التي نسميها بالحضارة .
والجانب الاخر:
ـ هو المظاهر المادية التي تعبر عن القوة في شتي اشكالها.
ان هذين الجانبين متداخلان علي ارض الواقع ، الي درجة يصعب فيها التمييز بين ما هو حضاري وبين ما هو نقيض للحضارة ، لذلك لابد من التمييز بينهما نظري حتي لا تختلط علينا الامور عملي .
فعلي سبيل المثال نحن نجد شعوب متحضرة استطاعت ان تقيم حضارات شامخة علي ارضها، لكنها ـ ومع الاسف ـ استثمرت جانب من منتجات حضارتها في التخريب والاضطهاد وتدمير الاخرين .
فاليابان التي بني شعبها حضارة قوية تستحق التقدير، اذاقت الفيتناميين وشعوب الشرق الاسيوي في النصف الاول من هذا القرن اشد العذاب ، وبسبب ذلك قضت علي كل انجازات هذه الشعوب الحضارية .
وهكذا فعل الالمان في اوربا.
وهكذا..
وهكذا.
فهولاء اطلقوا كلمة الحضارة علي كل مظهر من مظاهر القوة عند الامم .
الحضارة في مفهومها الحقيقي كما يري السيد المدرسي هي مجموعة القيم المعنوية التي تنظم محاور العلاقة بين الانسان والانسان من جهة ، وبينة وبين الامكانات الطبيعية التي خلقها اللة عز وجل في هذه الارض وسخرها لة ، لتكون رصيد لة في مسيرة التكامل والرقي .
والحضارة علي ذلك منظومة متكاملة من القواعد التي هي عبارة عن قيم فيها برامج لتنظيم تلك العلاقات .
والتمدن الاسلامي ايض لة اسسة الخاصة التي يعتمد عليها في بنائة الحضاري ، تختلف كثير عن ما للحضارات القائمة من اسس وقيم .
وفيما ياتي سوف نستعرض اساسين هامين من اسس التمدن الاسلامي ، ومظهرين من مظاهرها ايض .
حضارة التوحيد
يقوم التمدن الاسلامي ويشمخ بنيانة علي اسس رصينة متماسكة ، اصلها ثابت وفرعها في السماء.
ويشكل اساس التوحيد المحور الذي تدور عليه عجلة الحضارة الاسلامية ، وهذا المحور تنعكس آثارة واشعاعاتة علي كل زاوية وعلي كل حكم من احكام الدين .
فمثلة كمثل الشمس حيث تنبعث اشعتها في الافاق لتصل الي كل مكان وتعكس الضوء فيها، وهكذا التوحيد فان كل امر في الحضارة الاسلامية انما ياخذ شرعيتة من هذا الاصل ، سواء كان في السياسة او الاقتصاد او الاجتماع او غير ذلك .
فمثلا في الناحية الاجتماعية يعتبر التوحيد الصبغة الاساسية التي يتسم بها المجتمع الاسلامي .
صبغة اللة ومن احسن من اللة صبغة البقرة ـ 831.
وكذلك الفرد، اذ ان جميع جوانب حياتة المعنوية والمادية تاخذ طابع التوحيد الالهي وتتلون بة ، بينما تري في الجهة المعاكسة ان كل انحراف او فساد يستشري في حياة الانسان والمجتمع يعود جذورة الي الشرك باللة عز وجل والاعتقاد بمفاهيم وقيم تخالف مبدا التوحيد.
ان محورية التوحيد في الحضارة الاسلامية تعني ان هذه الحضارة تعتمد في اصولها، وتتفرع بالتالي من الاصول كل الفروع علي استيحاء مبادئها الرئيسية لها من توحيد الالة عزوجل .
وهذا يعني بالتدريج ما يلي :
ـ الامر الاول :
ـ ان الحضارة الاسلامية حضارة ايديولوجية مبدئية ، تعتمد علي الايديولوجية والمبدا اعتماد كلي .
فهي علي سبيل المثال لا تهدف اشباع البطون فحسب ، او تصبو الي تحقيق الرفاة والطمانينة للانسان علي وجة هذه الارض فقط.
كلا..
بل هي بموازاة ذلك تدعو الناس الي التقدم العلمي والتكنولوجي ، وبموازاة هذا الامر ايض تطلب من الانسان ان يصبح كاملا يتطلع الي تحقيق انسانيتة في الحياة والي ثواب اللة عز وجل في الاخرة .
اذن هذه الايديولوجية المعتمدة والثقافة والمبدا، ركيزة اساسية في الحضارة الاسلامية ، ولذلك فان اية دعوة الي الحضارة الاسلامية منسلخة عن ايديدلوجية التوحيد تعتبر انحراف وضلالا عن الخط الرئيسي لها.
فالذين يريدون اسلام بلا الة ، او دنيا بلا آخرة ، او احكام بلا روح ، انما هو تاثير وتوجة نابع من الحضارة المادية القائمة لا يمت الي الحضارة الاسلامية بصلة .
الامر الثاني :
ـ ان مبدا الحضارة الاسلامية الذي هو التوحيد، يعتمد علي اساس الوحدة لا التنويع ، ولاجل هذا المبدا فالحضارة لا تعترف بالهين متعددين ، ولا تعتقد بامكانية تجزئة حياة الانسان الفردية او الاجتماعية ، او حتي تجزئة العلوم الاكاديمية الي مجالات مختلفة قد تكون متضاربة ومتناقضة ، بل ان الحضارة تومن بالتوحيد.
فالجوانب المختلفة في شخصية الانسان تنتهي الي شخصية واحدة .
وهكذا فان القوميات المتضاربة والاجناس المتعددة في مجتمع ما، انما تنتمي الي وحدة واحدة هي المجتمع .
اما بالنسبة للعلم فان المبادي الاخري تقول ان العلوم المختلفة ذات اسس متعددة ، بينما الحضارة الاسلامية تري انة لا يجوز ان نضع بين العلم والعلم الاخر سدود هائلة .
اذ لا يمكن ان يكون علم الاجتماع بعيد عن علم النفس ، ولا علم النفس بعيد عن علم الفسيولوجيا، ولا علم الفسيولوجيا بعيد عن علم الاقتصاد، ولا علم الاقتصاد بعيد عن علم السياسة ، ولا علم السياسة بعيد عن علم الاخلاق الفاضلة .
وهذه التجزئة التي نراها في الحضارة الحديثة بين مختلف العلوم ، والتي ينعاها الدكتور الاكسيس كارل في كتابة العالم ذلك المجهول ويرجع سبب انهيار الحضارة اليها، هذه التجزئة لا وجود لها في حضارة الاسلام ، ولا يمكن لاي عالم اسلامي ان يدرس علم واحد الا ويرتبط بصورة او بصورة اخري الي سائر العلوم ، لعدم تمكنة من روية العالم بشكل متجزي .
فهو ينطلق من مبدا التوحيد.
الارض وخالقها واحد، وتتجة الي هدف واحد، كما الخلق ينتهون الي الة واحد، ويسيرون الي مصير واحد.
ان هذه الوحدة التي تتنوع في الحضارة الاسلامية علي اشياء كثيرة ، لا يمكن لها ان تنتج تجزئة علمية او تفرقة اجتماعية او سياسية .
الامر الثالث :
ـ ان الحضارة الاسلامية التوحيدية تبتدي من اللة وتنتهي الية ، ولهذا فان الاصول والفروع تبدا من ذلك ايض وتنتهي الية .
وعلي هذا الاساس تري ان الايمان باللة يتجلي في المعاملات الاقتصادية ويضع قواعدها فيحلل ويحرم ، وكذلك في المجال السياسي او ما يعبر عنة بالقيادة .
فصحيح ان الشعب يساهم في صنع القيادة الاسلامية ، لكن اختيار القيادة يعتمد علي اختيار اللة اولا.
ومن هذا المنطلق وباعتبارنا دعاة الي حضارة اسلامية راشدة يجب علينا ان نستوحي من الايمان باللة التفكير للحاضر والمستقبل ، لان اللة سبحانة وتعالي هو اساس كل شي ء في الحياة .
ولهذا فان الائمة الاطهار صلوات اللة وسلامة عليهم اجمعين ، لم يكونوا يعتبرون انفسهم الا ادلاء الي اللة ووسائل الية .
اذن محورية التوحيد في الحضارة الاسلامية ثابتة عقيدة ، ولهذا فان تاثيراتها تصل الي كل حكم وكل قانون وكل توجية .
وتنبثق من هذا الاساس سائر القواعد المتينة التي تعتمد عليها الحضارة الاسلامية ، مثل الاستقلال والامن والخير والصلاح والتكامل والتقدم .
وعلي هذا الاساس ايض تتوضح بعض معالم الحضارة الاسلامية .
فهي حضارة الانسان ، وهي حضارة الجمال ، وهي حضارة التطلع والبحث عن الافضل .
حضارة الانسان
ان اية حضارة سادت في عمق التاريخ ، انما بدات من الانسان .
فهو الهدف وهو الغاية وهو الوسيلة في آن واحد.
وحضارة الاسلام تعتبر الانسان حجر الزاوية ، ولهذا وردت تاكيدات متوالية في القرآن الحكيم علي كرامة الانسان :
ـ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر .
ولقد خلقنا الانسان في احسن تقويم .
لكن اعتماد حضارة الاسلام علي الانسان ، ليس كاعتماد الحضارات الاخري عليه ـ والفرق يكمن في ان الاسلام يومن بان هدف الحضارة الاسلامية هدف سامي ، لابد لة ان يتحقق بوسيلة ربانية تتناسب مع سمو هذا الهدف .
ولهذا فان الانسان الذي هو باني الحضارة وصانعها من الطبيعي ان تنعكس عليه اشعاعات الحضارة ـ لكنها في الاسلام تاخذ اطار اوسع وابعاد اعمق .
ولتوضيح هذا الفرق ، لابد ان نذكر بان الانسان لة جانبان :
جانب العقل ، وجانب الهوي .
وجانب الهوي ـ كما هو معلوم ـ يتشكل علي صورة غرائز ولدت مع الانسان وتاصلت فية .
الحضارات الاخري استفادت من الانسان في بنائها من عقلة وهواة ، ولهذا وقعت في تناقضات كبيرة وتداخلات لا حصر لها.
فهي من جهة استهدفت سعادة الانسان ، لكنها من جهة سحقت كرامتة .
وهي من جهة خدمت الانسان بتقنياتها وبانجازاتها الحضارية ، ومن جهة اخري اخذت تتعامل مع الانسان علي انة آلة صماء.
بينما حضارة الاسلام وتبع لمنطلقها العقائدي تعاملت مع الانسان بعقلة لا مع هواة ، بارادتة لا بايحاءاتة الشيطانية .
اذ كما في نفس الانسان قابليات الخير والصلاح ، فانها ايض مجمع لمحفزات الشر والفساد.
ولهذا فان الحضارة الاسلامية لا تعتبر من الصحة بمكان الاستفادة من الانسان مطلق ، والا فان ذلك سوف ينعكس علي صورة البناء.
ان تعامل الاسلام مع الانسان كانسان انما يكمن في العقل والارادة والحرية ، او بعبارة اخري الارادة الحرة الناضجة بعيدة عن الهوي والشهوة .
ولذلك فان آية اللة المدرسي يداب في حديثة عن بناء الشخصية المومنة الحضارية علي تاكيد هذا الامر، لما لة من تاثير علي نمو الحضارة علي اساس قوي وسليم .
وتظهر ثمرة الفرق بين الاتجاهين ان اخذ الهوي مع العقل في الانسان كما هو حال الحضارة القائمة قد يدمر كل افرازات العقل ومكاسب الارادة الواعية ، حتي لو كان علي حساب الانسان .
بينما اذا اخذنا الانسان بعقلة ، فسوف تحدث عندنا ضمانات كافية للحفاظ علي الانسان كانسان .
ولهذا فان رسالة الاسلام تبشر بحضارة العقل عبر تلك القيم التي اراد اللة سبحانة وتعالي لها ان تحكم هذا الكون .
والحضارة القائمة تسير في خط متوازي مع الجهل .
فالعقل نور والجهل ظلام ، وهذا يعني ان لكل من هاتيتن الحالتين سلسلتين من الخصال والصفات توثر شئنا ام ابينا علي صورة الحضارة المنشودة .
فالاخلاقيات الحسنة والمناقبيات الحضارية في اي انسان تمتد الي العقل ، والصفات الاخري المناقضة تتصل بالجهل ، وهاتان الحالتان مغروستان في كيان الانسان الذاتي بدلالة الاية الشريفة :
ـ ونفس وما سواها، فالهمها فجورها وتقواها .
والجهل الذي يقع علي راس السلسلة السلبية يمثل الطبيعة الاولية للانسان ، ولدية عشرات من الجنود الخفية مثل الحسد والعجلة وحب الذات والانانية والانسانية والعنصرية ..
فصلها السيد المدرسي في كتاب المنطق الاسلامي .
غير ان هذه الطبيعة الاولية تنعدم شيئ فشيئ بوجود جنود العقل الذي يتصدر بنود العلم والمعرفة النافعة والكرم والصدق والامانة والصبر والايثار.
لكن مع ذلك ومهما سما الانسان في درجات العقل والعلم ، فان طبيعتة الاولية المتصلة بالجهل تبقي في ذاتة ، ولذلك فان الانسان لا يمكن ان يتجاوز تاثيرات هذه الطبيعة ، الا اذا ارتبط بحبل عقائدي رباني يعزز العقل والسلسلة التي ترتبط بة .
ويمكننا ان نضرب مثالا علي العقل في الحضارة الانسانية باضاءة المصباح الكهربائي ، فاول ما يوصل الانسان التيار الكهربائي الي المصباح تجدة يضي ء فاذا قطعنا عنة التيار فانة سوف ينطفي مباشرة .
وهكذا الحضارة فاذا اتصلت بمصدر النور بسلسلة العقل ، سوف تكون حضارة ملوها السعادة والاطمئنان ، والعكس ايض .
وبمراجعة لمسيرة الحضارة القائمة ندرك بوضوح التجاوزات الهائلة التي حدثت بحق الانسان ..
هذه التجاوزات التي جعلت الانسان يخدم الحضارة في الوقت الذي كان فية العكس هو المطلوب .
وحضارة الاسلام التي تنطلق من مبدا التوحيد وتعتمد علي الانسان اعتماد كبير تضع للانسان قائمة طويلة من الحقوق ، بحيث لا يمكن تجاوز الانسان ككيان مقدس لاي مصلحة ولاي اعتبار متسرع .
وهذه القائمة تنقسم الي قسمين :
ـ 1 ـ الحقوق المادية ; وهي التي تتصل بنتاج جهد الانسان طوال حياتة .
فهذا الجهد يجب احترامة وتقديرة وعدم التجاوز عليه .
فالانسان حر في التصرف في مالة ، وعلي حسب القاعدة الفقهية الناس مسلطون علي اموالهم ، ولكن بشرط ان لا يوثر علي حرية الاخرين .
2 ـ الحقوق المعنوية ; وهذه الحقوق لا تتمثل في مادة ملموسة ، بل في الامور المعنوية .
ومن هذه الامور علي سبيل المثال لا الحصر، احترام شخصية الانسان .
فتنمية الانسان لنفسة سواء بالعلم او المعرفة او الملاكات والكفاءات الاخري لا تتحقق خلال فترة قصيرة ، بل قد يحتاج ذلك منة الي ان يقضي عمر مديد يتمتع فية بنمط اخلاقي صارم او برنامج قاس لاكتساب مثل هذه الامور.
ان الاسلام ومن باب الحقوق المعنوية للانسان ، حرم تحطيم شخصية الانسان التي كلفتة عمرة .
ولهذا قالوا ان الانسان عادة ما يهتم بشخصيتة اكثر من اهتمامة بشخصة ، فهو يعرض نفسة للاخطار والمغامرات من اجل سمو شخصيتة ، فهل يحق لاحد لان يتجاهل هذه الشخصية بين عشية وضحاها؟! لقد وضع الاسلام للحقوق المعنوية وصايا اخلاقية كثيرة من اجل تقدير قيمة الانسان وما يرتبط بة ، لكننا هنا ونظر لعدم اختصاص هذا الكتاب لذلك نذكر حق واحد فقط هو حق الحرية .
ان التشريعات السماوية تسعي نحو تحقيق اهداف عظيمة من اجل صيانة العقيدة وحفظ الروح والعرض والمال .
والتسلسل الطبيعي كما قلنا يبدا بالتوحيد وتنبثق منة عدة ثمار منها الاستقلال والامن والحرية .
وحديثنا في هذا القسم عن مسالة الحرية التي تشتمل علي عدة حلقات بعضها يكمل بعض .
الا ان الحلقة الاولي منها هي حرية الفرد، وتتجسد هذه الحرية في ارادة الانسان الحرة ، او ما يسمي بحرية القرار لدية .
وتاتي الحلقة الثانية في سلسلة الحرية في الاسلام ، وهي حرية القانون التي تضمن وتكفل حرية الانسان علي ضوء هذا القانون وبنودة .
وتشريعات الاسلام انما شرعت من اجل ضمان هذه الحرية ، ذلك لان الانسان خلق بطبيعتة حر .
لكن تداخل الاوضاع وتشابك الظروف جعل من الضروري توضيح راي الاسلام في حرية الفرد كفرد او كمجتمع .
والاسلام يضمن حرية الفرد عبر الحديث عن الحرمة ، هذه المفردة التي تتكرر كثير في آيات الذكر الحكيم ، دستور معالم الحضارة الاسلامية ، وفي الاحكام الفقهية الاخري .
والحرمة كما يري السيد المدرسي بعد من ابعاد الحرية ، ذلك لان الحرمة والحرية صورتان لبصيرة واحدة .
والاسلام قبل ان يتحدث عن الحرية تحدث اولا عن الحرمة لتحديد قيمة الحرية وابعادها وتطبيقاتها.
فمثلا يقول الاسلام :
>ان المسلم علي السلم حرام دمة ومالة وعرضة هذا الحديث يوكد في البداية علي حرمة التجاوزات علي حقوق الانسان المسلم ، حتي لو كانت تحت شعار الحرية .
لماذا؟ لان هذه التجاوزات تتنافر في حقيقتها مع مفهوم الحرية ، باعتبار ان لكل حرية حدود ، وحدود حرية كل فرد وكل تجمع تنتهي عند بداية حدود الاخرين .
فالانسان لة الحق في طلب حريتة ، ولكن بشرط ان لا تتعدي ولا تتجاوز علي حرية الاخرين .
لكن للاسف المشكلة الحادثة اليوم في الحديث عن الحرية ، ان الانسان بذاتة لا يقدر حدود حرية الاشياء، وهذا ما تنادي بة الحضارة القائمة .
فمثلا التطور والتقدم في الحضارة القائمة اذا تعارض مع مصلحة الانسان ، فان التقدم يقدم عليه بلا قياس .
بينما يعلن التمدن الاسلامي باننا لو خيرنا بين امرين ، احدهما ينفع الانسان والاخر لا يفيد الا التطور الاقتصادي والصناعي ، فاننا ملزمون باختيار ما ينفع الانسان ولو كان علي حساب الصناعة او التطور او الرفاة .
اما الحضارة القائمة فلا تومن بذلك .
فمثلا الاتحاد السوفياتي المرحوم لما وضع ستالين اول خطة خمسية لتطوير الاتحاد السوفياتي ، كلفت هذه الخطة الشعب السوفياتي 02 مليون انسان .
لكن ذلك لم يمنع النظام الشيوعي من التراجع عن هذه الخطة ، علي رغم معارضتها لمصلحة الانسان ، بل لوجودة .
وهكذا الحال في الدول الغربية حيث تتصاعد هذه السنين مشكلة تلوث البيئة ، هذه المشكلة التي فرضت نفسها علي اغلب من يعيشون علي هذا الكوكب .
فالانسان مجبور علي ان يستنشق الهواء الملوث بدخان المصانع التي تصدر الغازات الناتجة من المواد المحروقة .
ولا يخفي ان هذا التلوث يسبب ضعف عام عند الانسان يدعوة الي الخمول والكسل ويا ليت بقيت هذه المشكلة عند هذا الحد، بل انها باتت تهدد الكون كلة ، بل والاجيال القادمة ايض ، لان صعود الغازات المحروقة يسبب ثغرات في الغلاف الجوي الذي يحمي الارض من الاشعة الضارة المتوجهة اليها من الاجرام السماوية .
وهناك عدة مبادرات من بعض الاطراف في اوربا وامريكا، لكن من بيدهم القرار لازالوا يرفضون ذلك تبع للمصالح الهائلة التي تدرها هذه المصانع بحجة ان هذه السموم غير ضارة .
هذا هو اسلوب التفكير الحاكم اذا تعارضت مصلحة الانسان مع الاشياء الاخري .
بينما التمدن الاسلامي يوكد ان السعي لتطوير الاقتصاد ليس مطلوبا لذاتة ، وانما لهدف اكبر هو خدمة الانسان وسعادتة .
الفصل الثاني: عن الحركة الاسلامية
منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 5491م وما تبعة من الاحتلال الصهيوني لفلسطين عام 8491م ، كانت تيارات الاشتراكية والقومية واليسارية تتالي علي مسرح الاحداث في الوطن العربي ، لاسيما وان هذه التيارات كانت ترفع شعارات جذابة جعلت الكثير ينضوون تحت لوائها.