مكانة الحجِّ في نهج البلاغة
يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه
السلام)في الخطبة الأولى بشأن الحج:
«وفرضَ
عليكم حجَّ بيته الحرام، الذي جعلَه قبلةً للأنام، يَرِدونَهُ ورودَ الأنعام،
ويألهُونَ إليه وُلُوهَ الحَمام، وجعلَه ـ سبحانه ـ علامةً لِتواضعهم لعظمته،
وإذعانِهم لعزتِه، واختارَ مِن خلقِهِ سُمّاعاً أجابوا إليه دعوتَه، وصدّقوا
كلمتَه، ووقفوا مواقفَ أنبيائه، وتشبَّهوا بملائكته المُطيفينَ بعرشة،
ويحرزُونَ الأرباحَ في متجرِ عبادتِه، ويتبادَرونَ عنده موعدَ مغفرته، جعله ـ
سبحانه وتعالى ـ للإسلام علَماً، وللعائِذين حرماً، فرضَ حَقَّهُ، وأوجبَ
حجَّهُ، وكتب عليكم وِفادتَهُ، فقال سُبحانه: {ولله على النّاس حِجُّ البيتِ من استطاع إليه
سبيلا ومَن كفرَ فإن الله غنيٌّ عن
العالمين}.
ويقول (عليه السلام) في الخطبة
العاشرة بعد المائة:
«إن أفضل ما توسَّل به المتوسلونَ
إلى الله سبحانه وتعالى الإيمانُ به وبرسوله، والجهاد في سبيله ... وحجُّ
البيت واعتمارُهُ، فإنهما يَنفيان الفقرَ ويرَحَضَانِ الذنبَ
...».
ويقول (عليه السلام) في أواسط الخطبة
القاصعة ناظراً إلى التواضع ونبذ الاستكبار:
«أَلا ترونَ أنَ الله ـ سبحانه ـ
اختبرَ الأولينَ من لدن آدَم ـ صلوات الله عليه ـ إلى الآخِرينَ من هذا
العالَم، بأحجار لا تضرُّ ولا تنفعُ، ولا تُبصِرُ ولا تَسمَعُ، فجعلَها بيتَه
الحرامَ «الذي جعلَه للناسِ قياماً»
. ثمَّ وضعَهُ بِاَوْعَرِ بِقاعِ الأرض حَجراً، وأقلِّ نتائِقِ
الدنيا مدراً، وأضيقِ بطونِ الأودية قُطراً. بين جبال خَشِنَة ورمال دَمِثة
وعيون وَشِلة وقُرًى مُنقطعة، لا يَزكُو بها خُفٌّ ولا حافِرٌ ولا ظِلفٌ. ثمّ
أمرَ آدمَ (عليه السلام)وَولدَهُ أن يثنُوا أعطافَهم نحوهُ، فصارَ مثابةً
لمنتجعِ أسفارِهم، وغايةً لمُلقى رحالِهم، تهوي إليه ثمارُ الأفئدةِ من
مفاوِزِ قِفار سحيقة، ومهاوِي فِجاج عميقة، وجزائرِ بحار منقطعة، حتى يهزّوا
مناكبَهم ذُللا يهلّلونَ لله حولَه، ويرمُلُونَ على أقدامِهم شُعْثاً غُبْراً
له. قد نبذوا السرابيلَ وراءَ ظهورِهم، وشوَّهوا بإعفاء الشعورِ محاسنَ
خلقهم، ابتلاءً عظيماً، وامتحاناً شديداً، واختياراً مُبيناً، وتمحيصاً
بليغاً، جعله الله سبباً لرحمته، ووصلةً إلى جنّته. ولو أراد ـ سبحانه ـ أن
يضعَ بيته الحرامَ، ومشاعره العِظامَ، بين جنّات وأنهار وسهل وقَرار، جمَّ
الأشجارِ دانِي الثمارِ، مُلتفَّ البُنى، مُتصل القُرى، بين برّة سمراء،
وروضة خضراءَ، وأرياف محدقة، وعِراص مُغدقة، ورياض ناضرة، وطرق عامرة، لكان
قد صَغُر قدرُ الجزاء حسن ضعفِ البلاء. ولو كان الإِساسُ المحمولُ عليها،
والأحجار المرفوع بها، بين زُمرّدة خضراءَ، وياقوتة حمراء، ونور وضياء،
لخفَّفَ ذلك مصارعةَ الشكّ في الصدور، ولوضعَ مجاهدةَ إبليس عن القلوبِ ولنفى
معتلجَ الريبِ من الناس، ولكنّ الله يَختبر عباده بأنواع الشدائِدِ،
ويتعبدهُم بأنواع الَمجَاهِدِ، ويبتليهم بضروب المكارة، إخراجاً للتكبّر من
قلوبهم، وإسكاناً للتذلل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبواباً فُتُحاً إلى فَضله،
وأسباباً ذللا لعفوه»37.
وفي موضع آخر من
نهج البلاغة يقول (عليه السلام) حين وصيته للحسنين (عليهما السلام)والناس
كافة بعد أن جُرِحَ على يد ابن ملجم المرادي عليه اللعنة:
«الله الله في
بيت ربّكم، لا تخلّوه ما بقيتم، فإنّه إن تُرك لم تُناظروا»38.
وقال (عليه السلام) في كتاب أرسله
إلى واليه على مكة قثم بن عباس:
«أما بعدُ، فأقِم للناسِ الحجَّ،
وذكّرهم بأيام الله، واجلس لهم العصرَيْنَِ فَأفْتِ المستفتي، وعلّم الجاهلَ،
وذاكر العالمَ، ولا يكُن لكَ إلى الناس سفيرٌ إلاّ لسانُكَ، ولا حاجبٌ إلاّ
وجهُكَ ... وَمُرْ أهْلَ مكّة ألاّ يأخذوا من ساكن أجراً، فإن اللهَ سبحانهُ
يقول: {سواءً العاكفُ فيه
والبادِ}فالعاكف: المقيم به، والبادي: الذي يحجّ إليه من غير
أهله. وفقنا اللهُ وإياكم لِمحابّهِ والسلام»39.