فـلا بـاس - ما دام الامر يخفى عليه - بايضاح هذه المسالة , راجيا ممن يجد في قولي هذا غلطا ان يتفضل مشكورا ببيان الصواب فان نقل العلماء الاثبات ,او حتى اهل الصدق من عامة الناس , للروايات
والاخـبـار وسـكـوتـهـم عن تمريضها, يدل على اقتناعهم بصحتها, بصرف النظر عن صحتها في
ذاتـهاوسواء اكان ذلك باسانيد او بغير اسانيد فالطبري مثلا حين يسوق اخبارالفتوح او الفتنة نقلا
عـن سـيف , فانه انما يكتب ما اطمانت اليه نفسه على وجه الاجمال , ولقد كانت المصادر وفيرة بين
يديه فاختاره لهذا السبب فهذا النقل يحمل معنى التوثيق , اي الشهادة الضمنية لهذه الاخباربالصحة .واذا كـان الطبري يطمئن الى رواياته بحيث ينقل عنه ثمانمائة رواية كما احصى الاستاذ مشكورا,
فهذا دليل لا يدحض على انه يراه عمدة في التاريخ , وهذابيت القصيد.ولا يـعـقـل ان يعتقد انه كذاب وضاع وان هذه الاخبار والاسماء مختلقة , وان كلامه من نوع كلام
الـشـياطين والكفار والمنافقين , فينقله ويسكت عليه ,ولو فعل ذلك لكان مفرطا غاشا للامة , وهو ما
صنف كتابه الا لتدوين التاريخ الصحيح على ما وصل اليه علمه واجتهاده وشعوره بالمسؤولية .وهو
يعد من اعظم علماء الاسلام وفقهاء الامة ومؤرخيها.ولا يـنـبغي الخلط بين هذا المعنى وبين صحة الاخبار في ذاتها وقاعدة ان العهدة على الراوي , فان
الـطبري لا يجعل نفسه مسؤولا عن صحتها, وانما اوردهالانه يغلب على ظنه انها صحيحة ومثله
انك اذا استشهدت ببيت من شعراحمد شوقي مثلا و اوضحت مكانه في الديوان , فلانك تعتقد بانه من
شـعـره ,ولـكنك لا تضمن ذلك ولا تسال عنه , فان تبين انه مدسوس على الديوان فالعهدة على ناشر
الـديـوان , ويـترتب على ذلك ان كثيرا من فحول العلماء في جميع العصور - ولا سيما القريبين من
عـصـر سيف - كانوا يعتقدون بصحة رواياته التاريخية على وجه الاجمال , كما كانوا يعتقدون ان
كـلام ابـن الـكـلـبي في الانساب صحيح على وجه الاجمال , لا من باب التسليم الاعمى , بل لانه لم
يظهرلهم ما يدعو الى الارتياب .الاعراض عن الطبري
(16) ولا ارى الـبـحث يتكامل الا ببحث حال الامام محمد بن جرير الطبري -رحمه اللّه - بحثا
صـريـحا, لان روايات سيف ما كانت لتبلغ هذا المبلغ لولاتفضيله اياها على غيرها من تاريخه الذي
اصبح اهم كتب التاريخ . فلا بدمن ايضاح السبب الحادي به الى الاعتماد على مصنع الاكاذيب هذا.ولم ار لدى الاستاذ المالكي عناية ببحث حاله وسبب غشه للامة بهذه الاباطيل الهاذلة , ولا سيما انه
يراها اكاذيب مكشوفة ليس من الصعب اكتشافها حتى على المستشرقين والمبتدعة , بل وجدت لديه
مـراوغة عن بحث هذا الامر(كتاب الرياض , ص 53), بل انه ليعتبر الطبري ممن ضعف سيف بن
عمرفي التاريخ (كتاب الرياض , ص 53), وهذا من العجائب ولكن الاشكال باق على حاله , فاذا كان
سـيـف مـن اعـظم الوضاعين فلا بد ان يكون الطبري من اعظم المغفلين او من اعظم الغشاشين , لا
مـحـالـة , فـلماذا اعرض عن تجريحه كما فعل مع اساتذة الجامعات السعودية اليس هو المسؤول ,
عن اغراق التاريخ وافساده , الا ينطبق عليه ما قاله عنهم تعطيل النصوص والعقول الـسائد, الغش والتدليس واستغفال القارئ وطلاء الباطل بطلاء الحق , تاسيس الجهل العلمي لـغـة اهـل الـعلم والتحقيق الفرق بين الطبري وبينهم ؟
اختلاق الاشخاص
(17) لـقـد كـان يـجـب عـليه - وقد صح عزمه على سلوك هذا الطريق ان يبدابتاصيل القواعد
بـالاسلوب العلمي الصحيح , وطرحها على اصحاب الاختصاص ليقولوا رايهم فيها, ثم يبدا بالتطبيق
بـعـد ذلـك , امـا قـبـل ذلـك فلوكتب مائة مقالة تطبيقية فلا قيمة لها,الا اذا تمكن من اقناع , القراء
بـصـحـة الـمـبادى ء العامة فلا بد من اثبات ان سيف بن عمر كان يختلق اسماءالصحابة والتابعين
والمعارك والاشعار والبلدان , وايضاح اسباب هذا الامرودوافعه والشواهد عليه من حياته وسيرته
واهـوائه واقـوال اهـل عـصـره فـيـه , وهل ثبت ثبوتا اكيدا وقوع ذلك منه ام انه ظنون مجردة
واحتمالات نظرية وشيق صدر برواياته . وهذا هو زمام المسالة كلها.واخـتـلاق الشخصيات امر غريب في ذاته , ويحتاج الى شرح وبيان واثبات , وهواصعب بكثير مما
يـوهم كلامه . فهل من اليسير مثلا على احد رواة الشعرالنبطي ان يخترع اسماء عشرات الشعراء
ويـزعم انهم عاشوا قبل قرن اوقرنين الجواب بطبيعة الحال انه امر غير ميسور لاسباب كثيرة ,
ومن ارادفليجرب اختراع شاعرا واحدا وليس من السهل على احد ان يخدع جميع الناس , فكيف اذا
كـان الـكـذب والـتلفيق بهذا المقدار, فلابد رابعا من اثبات ان باب اختلاق الاشخاص بهذا المقدار
المزعوم امر ممكن , وانهم تمكنوا من خديعة العلماء بذلك .لـقـد كان من الواجب اعتبار التهمة من جميع جوانبها, والنظر في جميع روايات الرجل عن القعقاع
وغـيـره , وهل تابعه احد على ذكر بعض الاشخاص الذين له مصلحة في اختلاقهم , واعتبار جميع
آراء الـعـلـمـاء القولية والعملية فيه , الى آخر الامور التي لا بد من اعتبارها. فتكون النقاط سلبية
وايـجابية ,ثم يحكم له او عليه . وقد فعل القدماء ذلك بهدوء, وانتهى كثير منهم الى قبول رواياته في
التاريخ دون الحديث كما هو معلوم .ثـم لا بد من اثبات ان المسالة التي يدور البحث حولها- القعقاع الان وغيره في المستقبل - من ضمن
تـلـك الـمـخترعات , وايضاح ان اخباره تتضمن من المبالغات غير المعقولة ما يستوجب الجزم بانه
اسـطـورة , مـع الاخـذ فـي الاعتبار ان المبالغة قد تقع في اخبار الاشخاص الحقيقيين . اما جمهور
الـنـاس عـبـر القرون فلم يقراوا في اخباره شيئا يتجاوز الحدود ولقد كان من الافضل ان يفترض
الاستاذ ان الاصل فيه انه شخص حقيقي , لانه مذكورفي كثير من الكتب , والاثبات مقدم على النفي ,
ويعترف بانه يسبح ضدالتيار, ثم يوضح بالدليل القوي والحجة القاهرة لماذا يجب ان يكون الامرعلى
العكس . فهذا هو مقتضى الانصاف , وهكذا يصنع الباحثون وتبرزالجهود.(18) هـب ان احـد الـرواة اورد كـلـمة او خبرا فيه اسم ما, وليكن القول المنسوب الى ابي بكر
الصديق رضي اللّه عنه (سيف القعقاع خير من الف رجل ), ثم اتضح ان الاسناد لا يوثق به لاي سبب ,
فـهـل يـعني ذلك ان ذلك الاسم مخترع لا وجود له اصلا ام انهما مسالتان مختلفتان ولا بد من اثبات
مـسـالة الاختراع على حده الواقع انهما مسالتان مختلفتان جدا, وكون الاخبارلايوثق بها لا يعني ان
الانسان اسطورة . وقد قرر الاستاذ ذلك وهو يتكلم عن الزير سالم وعنترة وحمزة البهلوان وسيف
بـن ذي يـزن , فقال (هؤلاء لهم حقيقة , لكن بولغ فيها جدا), فهل القعقاع في اسوا الاحوال الا كذلك
هل فرق بين المسالتين واثبت الثانية بمعزل عن الاولى كلا, بكل تاكيد.واقع الامر انه لا يخلو مجتمع من شخصيات شعبية يقال انهم عاشوا منذ قرون ,وينسب اليهم الناس
كثيرا من الاخبار والاشعار والبطولات والطرائف التي لا يمكن اثبات شي ء منها, ومع ذلك لا يوجد
مـسـوغ فـي الـغـالـب لـلـشك ,في اصل وجودهم فمن المغالطة ان يخلط بين انفراد سيف برواية
اخبارالقعقاع وبين كونه رجلا من نسج الخيال , ويوهم القراء بان ضعف الاسانيديعني بالضرورة انه
- ومن سياتي عليه الدور من الصحابة وغيرهم -اسطورة مختلقة تماما كمدينة الحشرة .فلو قال العسكري والمالكي عن القعقاع وامثاله انهم مجاهيل انفرد بهم سيف بن عمر لكان لهما بعض
الحجة والعذر, اصابا او اخطئا ولكن كلمة مجهول المنهجية الموضوعية الهادئة لا تخدم الغرض ,
لان المطلوب اثبات ان الاكاذيب الكبرى موجودة في تاريخنا الفاسد الهالك الغريق .اسانيد سيف :
(19) مـن المعلوم بديها - حتى لغير المتخصصين - انه ليس هناك صلة حتمية بين الاخبار الباطلة
وبـيـن الـراوي الذي ذكرها في كتابه , فلو كان القعقاع اسطورة حقا فليس من الضروري ان يكون
سـيـف - مـن بـين الرجال المذكورين في الاسناد - هو الذي اختلقه الا ببرهان واضح . هذا محمد
بن اسحاق مثلا, شحن السيرة بكثير من الاشعار المنحولة كما قال محمد بن سلام الجمحي وغيره ,
فـهـل نـقول : يجب بالضرورة ان يكون هو الذي نظم تلك الاشعار وهل الغزالي هو مؤلف الاحاديث
الـبـاطـلـة الموجودة في احياءعلوم الدين وهذه الاكاذيب التي تقال في المجالس هل من الضروري
ان يكون المتكلم هو الذي اخترعها الواقع ان اكثر رواة الاخبار الباطلة لم يختلقوها بانفسهم . وهذا
لا يعفي احدا من المسئولية , ولكنه شي ء آخر غيرما نحن فيه .وقد اسند سيف اخباره الى رواة سماهم باسمائهم , فيقول الطبري مثلا (كتب الي السري عن شعيب
عـن سـيـف عـن مجالد عن الشعبي ), او (السري عن شعيب عن سيف عن محمد وطلحة وزياد عن
قـدامـة الـكاهلي ) او (السري عن شعيب عن سيف عن النضر عن ابن الرفيل عن ابيه عن حميد بن
ابي شجار), الى آخر هذه الاسانيد المتفرعة بعد سيف وهي كثيرة جدا. فمن الجائز في منطق العقل
والانـصـاف - اذا افـترضنا بطلان هذه الاخبار اووجود مبالغات فيها -ان يكون البلاء من الرواة
الـسـابـقـيـن عـلـيه . وقد اوضح الاستاذ كثرة الضعف والجهالة فيهم وفي بعض الرواة عنه ايضا
(كتاب الرياض , 67 - 69). فاذا كان يرى ان هذه الاسانيد اسطورية وان بعض الاسماء المذكورة
فـيها اسطورية , فهذان فرضان جديدان لا بد من بحثهماواثباتهما قبل البحث في مسالة القعقاع , ومن
الممكن نظريا ان تكون الاسانيد حقيقية والمتون باطلة او العكس .ولـقد قال (استخرجت روايات سيف بنفسى وبحثها رواية رواية سندا ومتنا),ولا اجادله في هذا,
ولـكـني لم ار ما يدل على انه درسها بالتفصيل اللازم واثبت بالدليل القوي ان هذا الجمع والبحث قد
اثـبت ان الاسانيد مخترعة كالمتون او مركبة , ولا ان الرجال المذكورين فيها من الثقات الاثبات او
انـهـم لاوجـود لـهـم اصـلا, بحيث يجب ان تتجه التهمة اليه . وتحتاج هذه الدراسة الى جهد كبير
لاسـتـقـصـاء الـروايات المنسوبة اليهم في جميع الكتب عن سيف وغيره , والمقارنة بين الاسانيد
والمتون لاثبات ان اسانيده اسطورية اومركبة . ولم ار اثرا لذلك في مقالاته ولا منهجا واضحا في
دراسـة هـذا الـجـانـب الـمـهـم . ولا ارى فـائدة مـن جـهـده هذا, لانه يريد الحكم على التاريخ
بمقاييس الحديث , ومعلوم سلفا انه ضعيف في الحديث , ويغني عنه قول ابن ابي حاتم متروك الحديث
وقـد نـادى بالقاء هذه الروايات في مهملات التاريخ بعد ان استخرجها واحصاها, وبالقاء كتاب سيف
الـمطبوع في مهملات التاريخ قبل الاستخراج والاحصاء وانما يكون ذلك مفيدا لو انه بحث المتون
وقـارنـهابالروايات الاخرى و اوضح كم المعلول منها والمعارض بما هو اقوى منه وكم منها يمكن
قبوله .ولا ادري مـاذا يـقـول الاسـتـاذ فـي روايـات سيف المقبولة متونها. هل يقول : ان المتون صحيحة
والاسانيد اسطورية ؟ ام يقول : عقلي هو الفيصل والحكم ؟فان ورد في شي ء منها اسم القعقاع - او
اسـم اي انـسـان مـختلق في رايى -فالسند مختلق ايضا, واذا لم يذكر فيه فالسند صحيح فهذا كله
تـعـسف وتحامل , لانه ليس بيده دليل خارجي مستقل على ان الاسماء المذكورة في المتون اسطورية
والـذي اظنه انه جمع هذه الروايات وقرر ان متونها غيرمقبولة لديه . وراى ان اسم سيف موجود
فـي جـمـيـعـهـا, فـانـتـهى الى اتهامه باختلاق المتون والاسانيد, ولم يعتبر شيئا من الاحتمالات
الكثيرة الاخرى .وهـذا الـجـانـب يمكن ان يعصف بدعوى الاختلاق عصفا, لان القعقاع مذكور في اسانيد متعددة من
روايات سيف عن الشعبي وغيره بحيث يشهد بعضهالبعض , ولا سبيل الى ابطالها جميعا الا باثبات ان
الاسـانـيـد اسطورية ايضا ,بمعنى انه - بعد ان اختلق اسم القعقاع وصنع الاخبار اللازمة - صنع
لهااسانيد لااصل لها باستخدام اسماء حقيقية او خيالية فدعوى الاختلاق يجب ان تكون مزدوجة ذات
شقين وتبحث على هذا الاساس : ان المتون وما فيها من الاسماء مخترعة , و ان الاسانيد المصاحبة لها
مـخـتـرعـة . والذي اراه ان اختراع الاسانيد ما كان ليخفى على جهابذة الحديث من معاصريه او من
تلاميذهم كالطبري وابن ابي حاتم .وفـي كلام الاستاذ في هذا الباب تناقض من اغرب ما يكون فقد قال : من علامات ضعف الراوي انه
يـروي عـن كـثير من المجهولين , مما قد يسبق الى الظن انه يختلق الرواة وينسب اليهم اقوالا مما
عنده , فاوضح مشكورا انه خاطر وقع له وسبق الى ظنه ولكن هذا الظن سرعان ما انقلب الى يقين ,
اذقـال بـعـد قـلـيل : وقد اتهم سيف باختلاق اسماء للرواة الذين ليس لهم وجوداصلا بينما تكون
الروايات من انشائه فـي لائحـة الاتـهـامـات عن هذاالفاعل المجهول فلم اجد احدا من القدماء ذكر انه يختلق الاسماء
المذكورة في الاسانيد, فلم يبق الا ان الاستاذ يعني بذلك نفسه , وتذكرت قاضي واسطالذي تعرض
للمامون في الطريق للثناء على قاضي واسط فـقول الاستاذ: مما قد يسبق الى الظن انه يختلق الرواة يشبه قول العسكري واذا بي اهتدي الى
حقيقة كان التاريخ قد نسيها, كلاهما ظنون لم يهتم اصحابها باخراجها الى عالم الحقائق فنقول لكل
منهما: شكرا لهما على هذاالاقرار غير المقصود
اشكالات اخرى لم يتعرض لها:
(20) ولـقـد قـصـر المالكي - والعسكري من قبله - غاية التقصير ايضا في استيعاب الاشكالات
الاخـرى الـتـي تنشا من تهمة الاختلاق , وفي الصبرعلى مايتطلبه توجيه هذه التهمة الخطيرة من
اعتبار كافة جوانب القضية واشباعها بحثا. ومن ذلك ما يلي :
- مـا حاجة سيف الى اختراع عدد كبير من الشخصيات , ومنهم عشرات الصحابة هل بلغ به التهاون
في امر دينه الى حيث يخترع ويكذب متعمداعلى الرسول (ص ) بدعوى انهم كانوا من اصحابه , الا
يخشى الرجل العاقل من تعريض نفسه لضربة قاضية من علماء عصره هل بلغ به جنون التعصب القبلي
الى هذه الدرجة التي لا يرضاها عاقل لنفسه ؟
- واذا افـترضنا انه يخترع اسماء الناس , فما حاجته الى اختراع اسماء المعارك والبلدان هل وصل
بـه الجنون الى هذا الحد, هب ان انسانا مشهور بالكذب ,فهل يقول للناس قضيت الاجازة الصيفية في
جزر الواق واق .- لماذا سكت علماء الحديث عن اتهامه بهذه التهمة الخطيرة اعن جهل , ام غفلة , ام نسيان , ام مجاملة ,
ام تـستر ام لانهم يرون ان اختراع الاسماء خيروبركة فلا ضرر منه وهل سكتوا ايضا عن امثاله
لـقـد اوضـح الـمـالـكـي حرصهم على مناقشة صحبة الصحابة واحدا فواحدا, وعدم ترددهم في
نفي الصحبة عند اللزوم فمن الغريب ان يختلق مئات الصحابة , ويدعي انهم من كبارهم واخيارهم ,
فلا يلتفتون بكلمة واضحة صريحة الى هذاالقصاص المجنون .- ولماذا - بعد السكوت - قبلوا رواياته في التاريخ الا يجب ان يوضع هذا في الاعتبار الا يدل على
انه لم يبلغ تلك الدرجة المزعومة من الانحطاط لقداستعمل المالكي هذه الحجة في الثناء على وهب
بـن مـنـبه - لانه يرضى عنه - فقال (احتج به البخاري ومسلم في صحيحيهما امااحتجاج امثال الطبري وابن عبد البر وابن عساكر وابن كثير والذهبي وابن حجر, وهم من جبال
العلم الشامخة , بروايات سيف فلا يساوي قلامة ظفر,فسبحان اللّه - لـقـد سـرد المالكي اسماء ستين مؤرخا لم يذكروا القعقاع ولكنه لم يتدبرالاشكال الاعظم , فهل
يعقل ان يختلق سيف عشرات الصحابة والتابعين والفرسان والولاة والبلدان والمعارك والاشعار, فلا
يـوجـد لهذا الكذب الهائل صدى عند هؤلاء المؤرخين الستين وعند اضعاف عددهم ممن لم يذكرهم
انـنـا كـثيرا ما نقرا ان فلانا وضع حديثا او قصيدة او بيتا من الشعر اووثيقة رسمية او كلمة او
حـرفـا واحدا, وقصة الذي زاد عبارة او جناح على احد الاحاديث مشهورة . فهل يعقل ان يسكت
الجميع عن هذا الطوفان من الاكاذيب ولو من باب العصبية المضادة ؟
- هـل انفرد سيف بذكر عشرات الاسماء حقا ام ان التهمة لا تخلو من المبالغة والتهويل ؟ لقد صنف
الـعسكري كتابين ليقول انه انفرد بذكر عبد اللّه بن سبا, وجعل ذلك حجر الزاوية في الكلام على
سـيـف فـاذا ثـبـت ان الاسطورة الكبرى ليست اسطورة على الاطلاق , الا يكون من الظلم العظيم
والتحكم والهوى ان يقول قائل : هذا الاسم صحيح وهذا الاسم مختلق ؟
- امـا كـان يستطيع الصاق نفس الاكاذيب بخرين ممن لا خلاف في وجودهم التاريخي وحضورهم
تـلـك الـمشاهد وهذا هو المعتاد في تمرير الاكاذيب ,بدلا من اختراع (اسماء لم تخطر على قلب
بشر).- هـل يـدل الـتـحـلـيل الادبي على ان الاشعار الواردة في رواياته من النوع الركيك المعهود في
الـمنحولات , وهل تشبه ان تكون من نظم رجل واحد وهل كان شاعرا مجيدا بحيث يضع على لسان
كل انسان ما يلائمه فهذا جانب مهم لابدمن اعتباره لدراسة تهمة التزييف .هـذه - وكثير غيرها - اشكالات حقيقية , لا يشتغلون بالنظر فيه (لقد اجاب العلامة العسكري في
كـتـابـه (خمسون ومائة صحابي مختلق ) على هذا النوع من التساؤلات غير ان الدكتور العزام قد
تـجاهل ذلك .), وانما يقفزون الى النتائج النهائية المقررة سلفا, ويقولون : (انقاذ التاريخ , ابحاث في
غاية الدقة والموضوعية ).(21) لا اريـد الـتـعـنت وتكليف المالكي ما لا يطاق , ولكن المطالبة باستيعاب جميع الجوانب ليست
كـثـيـرة عـلـى مـن ينصب نفسه لانقاذ التاريخ وايقاظالعلماء من غفلة الا موات , وتصحيح المسار
والـتـجـديـد فـي الاصـول والـمناهج واساليب التفكير لان اثبات فساد القواعد الحالية واختراع
قـواعـدجديدة , وتطبيقها تطبيقا صحيحا على احدى القضايا, عمل عظيم يستحق ان ينفق عليه بضع
سـنـوات فـي الـبحث والتحقيق . اذ هو اصعب بكثير من كتابة تاريخ دولة او سيرة رجل بالطريقة
الـمعتادة والمسئولية الاخلاقية تقتضي ممن يتهم احدا باختلاق اسماء الصحابة ان يبذل جهداعظيما
زائدا على المعتاد لاثبات التهمة وابراء ذمته .ولكنه تجنب - كالعسكري من قبل - تاصيل هذه الاصول لان هذه الاراء في واقع الامر مجرد اوهام
وظـنـون غـيـر قابلة للتاصيل . فعمد الى ارسال الدعاوى والقفز الى النتائج , وشيد البناء قبل حفر
الـقـواعـد, وصـور تـهـمـة الاخـتلاق تصويرا سريعا في اول المقالة الاولى كانها قضية مسلمة
كمدينة الحشرة . وانطلق في الكلام المعاد المكرر على كذب سيف بدليل انه اختلق شخصية القعقاع ,
وعـلـى اختلاق شخصية القعقاع بدليل انها من اكاذيب سيف القعقاع من مخترعات سيف الذي اخترع
كثيرا من الشخصيات كالقعقاع كاننا والماء من حولنا قوم جلوس حولهم ماء ومـمـا يـدلك على ارسال الدعاوى والقفز الى النتائج جزمه تقليدا للعسكري -بان الاماكن العراقية
الـمـذكـورة فـي روايـات سـيف اساطير, فليتفضل مشكورا بشرح براهينه الجغرافيه على هذه
الـدعـوى . وطـالـمـا رايـنا في كتابات اثبات العلماء - كالاستاذ حمد الجاسر حفظه اللّه - قولهم
هـذاالـموضوع المذكور في التاريخ غير معروف في عصرنا, وقد كثرت الابحاث عن مكان سوق
عـكاظ مع انه اشهر من نار على علم . فاين بحثه لهذه الاماكن واحدا فواحدا, وما معرفته بجغرافية
العراق وكيف وصل الى اليقين بانها اساطير ؟
عن القعقاع و سيف بن عمر (3/3)
د.
محمد بن عبد اللّه العزامصحيفة الرياض - 3 ربيع الاخر - 1418 هـ
تصنيف القراء
(22) ولـقـد استغربت كثيرا تصنيفه للناس في المقالة الاخيرة (دروس من معركة القعقاع ثلاثة اصناف :
فـالـصـنـف الاول : (يـنفي وجود القعقاع مطلقا والاحداث و الصنف الثاني : (يثبت وجوده و دوره كاملا بكل التضخيمات والتهويلات و الـصـنـف الثالث : (يتوسط فيرى ان سيف بن عمر قد بالغ في دور القعقاع ابن عمرو, ذلك الدور
الذي لم يذكره غيره ثـم قـال : (وفـي ظني ان الصنف الاول والثالث متقاربان جدا, ويمكن ان يتفقا اذاعرفا منهج سيف بن
عمر بالتفصيل - عـلى فرض وجوداحدهما- ممن عاش قبل عصر سيف , والفارق الكبير بين الاختلاق الذي يعني
ان الشخص اسطورة والمبالغة التي تعني انه حقيقة تاريخية .فهذا الكلام يلخص نظرته الى الاشياء, ويدل بوضوح على انه لا يدرك النواقص المشار اليها. فلعله
يـرى فـي ذلك مضيعة للوقت والجهد, ويكفي سرد اقوال المحدثين في تضعيفه للوصول الى النتيجة
الـكـبـرى وهـي انـه (معروف باختلاق الشخصيات والمعارك والاحداث برهان , فهي راسخة في ذهنه ويجب ان تكون راسخة في اذهان الناس واذا وجد احدا من القدماء او
الـمـعـاصرين ينتقد سيف بن عمر في اي شي ءفهو في نظره شبه مؤيد للتهمة , (والصنفان متقاربان
جدا, والخلاف بينهمايسير). ولم يبق الا صنف المغفلين كالطبري واساتذة الجامعات السعودية .فكان
القدماء والمعاصرين يوافقونه من حيث لا يدرون على خراب التاريخ الاسلا مي
نماذج من المغالطات
(23) فـمن مغالطاته : الخلط بين اتهام الاسانيد واتهام المتون , وهما امران مختلفان جدا. فلو قال لك
انسان : قال لي فلان انه رءاك تصلي الجمعة في مسجد كذا,فسوف تدرك حالا ان الخبر غير صحيح
لانـك كـنـت فـي مـسجد آخر, وتظن ان احدهما وقع في خطا غير مقصود. فاذا تكررت الاوهام
والاكاذيب فسوف تتراجع الثقة في الاشخاص , ولعلك ستجد ان الكاذب هو الشخص الذي لم يحدثك .ومـن الواضح ان الثقة توجد او تنعدم في الاخبار اولا ثم في الرواة ثانيا. وهذا في القضايا الحاضرة
الـتي لا مجال للراي فيها مثل صلاتك في ذلك المسجد, فاذا كانت تتعلق بقضايا تاريخية تضاربت فيها
الاراءوالـمـصـالـح والاهـواء فالامر اعسر من ذلك وغاية المؤرخ ان يبحث عن احسن الروايات
واجـدرها بالقبول بصرف النظر عن اشخاص الرواة , واذاامكن معرفة مصدر ضعف الخبر فحسن
ولكنه ليس ضروريا لا بد منه .امـا المالكي - تبعا للعسكري من قبله - فالامر لديه على العكس فقد نظر في اخبار القعقاع فلم يجد
اكـاذيـب تجزم العقول والفطر السليمة بانها باطلة ,وانما هي اخبار في حدود المعتاد والمعقول , ثم
نظر في الاسانيد فراى انهاوردت عن طريق سيف بن عمر, فقرر اربعة امور:
- ان انفراده بها يكفي للجزم بان اخبار القعقاع اكاذيب .- ان انفراده بها يكفي للجزم بان القعقاع نفسه اسطورة ..- ان انفراده باي شي ء آخر يكفي للجزم بانه اسطورة .- انه لا غيره مؤلف هذه الاكاذيب والاساطير.وجـمـيع كلامه لاحق لهذه الامور الاربعة ومرتب عليها, وقد مضت الاشارة الى انه لم يبحث شيئا
منها ويثبته بالدليل الكافي . فقد رد الاخبار لمجرد انها من رواية فلان , ثم حكم على فلان نفسه بانه
كـذاب لانـه روى تـلـك الاخـبـار..بـينما كان الواجب عليه ان يثبت اولا ان الاخبار اكاذيب وان
الاسماءاساطير, ثم اذا شاء يتخذ ذلك دليلا على انعدام الثقة بالرواية .هل القعقاع كمدينة الحشرة تماما
(24) وتتضح المغالطة والقفز الى الاحكام المقررة من المدن الاربع التي ابتداالكلام بها. فالمقالات
منشورة تحت عنوان (القعقاع حقيقة ام اسطورة بـمـديـنـة الـحـشـرة التي هي مثل القعقاع تماما, وهذه مغالطة واضحة وقياس شي ء على شي ء مع
الفارق العظيم , لانه صرح مقدما بان المدينة اسطورة , والقراء يعلمون من الواقع انها اسطورة , بمعنى
ان عـنـصـر الاسطورة فيها مقرر مفروغ منه , فكيف تكون مثالا للقعقاع الذي يدور التساؤل اهو
حـقـيقة ام اسطورة لقد كان الواجب عليه ان يستشهد بمثال واقعي من التاريخ او الجغرافيا, فيذكر
مـثـلااربـع مـدن كبرى زعم احد الجغرافيين - عن سوء نية ورغبة في التزييف من باب التعصب
الاقـلـيمي مثلا - انها موجودة , فتواتر العلماء المحققون جيلابعد جيل على التصديق بها, وذكروا
حـدودها ومواقعها واسماء امرائهاوعدد سكانها واشهر معالمها ورجالها, ثم ثبت بالدليل القاطع انها
من نسج الخيال , فهذا هو المثال الذي يشبه حالة القعقاع .التقول على القدماء
(25) تـقـتـضـي الامانة والموضوعية من الباحث الا يدعي ان الاخرين , وبخاصة العلماء القدامى ,
يـوافـقـونـه على آرائه او انهم سبقوا اليها, الا ببرهان صحيح .واذا كان الراي اجتهادا منه فيجب
التعبير عن ذلك بوضوح , لتتضح الحدودوالفواصل ولا يختلط الحابل بالنابل , وليكون له الغنم وعليه
الغرم .فـمما يدل على ضعف حجة المالكي واندفاعه للبحث عن الشبهات والادلة انه يدعي , بالتلميح القريب
مـن الـتـصـريـح , ان الـقدماء سبقوه الى اتهام سيف باختلاق الاشخاص والوقائع , فيقول مثلا (تلك
الـشـخـصـيـات والـمـعـارك والاشـعار والبلدان التي انفرد بها سيف لم يعرفها احد غيره , لا في
عصره ولاعرفها من سبقه . ولذلك لم يعول احد على كتابه الا بعد موته بنحو مائة سنة ) ومعنى كلمة
ولذلك ترتيب آخر الكلام على اوله , فاهل تلك المائة سنة - في زعمه - اعرضوا عن كتاب سيف
لهذا السبب , اي انهم ادركوا انهامخترعات فتركوها لذلك . وهذه الدعوى لا دليل عليها, وليس بين
يـديـه نـص يـدل عـلى ان القدماء اعرضوا عنه بسبب تهمة الاختراع , ولا انهم كانوايتهمونه بهذه
الـتهمة , فكيف يقول لذلك والقارئ غير المتخصص يدرك كثرة الاسباب الممكنة , فلا بد من دليل
مقنع على تخصيص ذلك السبب بعينه . فهذا من ارسال الكلام على عواهنه .ثـم قـال مؤكدا ومكررا نفس الدعوى بعبارة اقوى (انا هنا اقرر ما اجمع المؤرخون قبل سيف على
اهـمـالـه وعدم ذكره , مما يعد اجماعا على ان الامر مختلق من سيف ) فلم يقف عند دعوى الاجماع
على اهمال القعقاع , بل زعم انهم اجمعوا على انه اسطورة , وانه فقط يقرر ما قالوه واجمعوا عليه
وهـذا فـهـم غريب لمعنى الاجماع , وتقول على العلماء بغير برهان . ومن الغريب في باب الاستدلال
المنطقي ان يكون المؤرخون الذين عاشوا قبل عصر سيف قداجمعوا على ان الاسماء والوقائع التي
سـيـرويـهـا عـنـدما يولد في المستقبل هي امور مختلقة منه . ويكرر نفس المعنى مرة ثالثة فيقول
(ومـتـرجـمـو الـصـحابة المتقدمين لم يذكروا القعقاع , لا في الصحابة ولا في التابعين , مما يعني
انه عندهم مختلق ).واعاد نفس الدعوى تلميحا في قوله عن ابن ابي حاتم (فقد نفى ابن ابي حاتم صحبته ورد على سيف
زعـمه بان القعقاع شهد وفاة النبي صلى اللّه عليه وسلم القعقاع واعادها مرة خامسة في قوله الذي مضت الاشارة اليه عن الحافظ بن حجر, وحاصله انه سبق
الـى مبدا التشكيك في صحبة كثير من الصحابة , وانه لو عاش في عصرنا لوقف ضده نفس الخصوم
يـتـهمونه بالطعن في السابقين والوقوف مع المستشرقين والمبتدعة فهذه خمسة مواضع في المقالة
الاولى وحدها تتضمن الادعاء شبه الصريح بان القدماء كانوا يتفقون معه على هذه الامور, وسمى هذه
الـدعـوى اكـثرية القرون الفاضلة . والرغبة ههنا واضحة في توفيرالغطاء المناسب لهذه الاراء
ونحن لانتهم المالكي - ولا العسكرى من قبله -بضعف الاطلاع , ولا شك انهما قد بذلا غاية الجهد
لاثـبـات الـتـهمة . فلما راى المالكي انه قد رجع بخفي حنين لم يجد امامه الا هذه العبارات الغامضة
التي قد لا يدرك حقيقتها كثير من القراء ولو عثر على دليل لوجدناه يكرره بضع مرات في كل مقالة ,
ولو عثر عليه لشددنا على يديه وشكرناه على ايقاظنا من الغفلة التي كنا فيها.ولـقـد قـال مرارا عن اساتذة التاريخ في جامعاتنا انهم يضحكون على انفسهم وعلى زملائهم وعلى
الـنـاس , فـمـاذا يـكـون قـوله عن القدماء (مما يعني انه عندهم مختلق ) اذا لم يكن تلاعبا بالالفاظ
واسـتـغـفـالا للقراء والغريب ان العسكري كان اصدق منه اذ قال : (و اذا بي اهتدي الى حقيقة كان
الـتاريخ قد نسيها فانطوت في اثنائه وضاعت في تياراته ), فلم يزعم انها كانت موضع اجماع القدماء,
ربما لانه ليس بحاجة الى هذا الاجماع .امـا الـتـاريـخ الصحيح فيدل على انه لا احد من القدماء فيما اعلم - لامن السنة ولامن الشيعة - قد
اتـهـمـه بـهذه التهمة المحددة , وان قبولهم رواياته في التاريخ تدل على ان ضعفه لم يبلغ الغاية التي
يجعلها الباحثان حقيقة مقررة , وان ذكر اللاحقين منهم للقعقاع وغيره تدل على اطمئنانهم اجمالا الى
روايـاتـه .ان كلام المالكي يدل بوضوح - كما قلت اعلاه - على انهم قد وقفوا عنداسماء الصحابة
واحـدا فواحدا, ومنهم القعقاع . فهل يعقل عاقل ان ابن ابي حاتم مثلا ينفي صحبته فقط اذا كان يعتقد
انـه اسـطـورة مختلقة افلا قال عنه شخص خيالي لا وجود له وفي الكلام على سيف يختلق اسماء
العشرات من الصحابة والتابعين والمعارك وا لبلدان ؟
فـلـو قـال قـائل : ان جـميع العلماء, على اختلاف مذاهبهم , منذ عصر الصحابة الى سنة 1369 قد
اجـمعوا على عدم ادعاء ان القعقاع اسطورة , فكيف يجيب المالكي على هذا الاعتراض هل يقول كما
قال : سكوت بعضهم يدل على انه اسطورة .امـا تـفريقه بين المتقدمين والمتاخرين فغير واضح المعالم , والذي فهمته انه يقسم اهل القرن الثالث
الى قسمين :
فالذين عاشوا في اوله متقدمون لم ينخدعوا باكاذيب سيف , والذين عاشوا في آخره من امثال الطبري
وابـن ابي حاتم - الى عصرنا - متاخرون مخدوعون . فان كان هذا هو المقصود فيجب التصريح به
واقامة الدليل على وجود هذا التغير السريع وبيان اسبابه .على ان الامور ليست بهذه البساطة , فالذي يفصل بينه وبين الطبري ورجال طبقته جيلان فقط, فهما
قـريـبان من عصر سيف , ولا يخفى عليهما راي جيل المشايخ والجيل الذي قبله فيه , والجميع انما
يـعـتـمدون في الجرح والتعديل على راي المعاصرين للشخص المقصود. ولا يعقل ان يتحول سيف
فـي نحوخمسين عاما من قصاص وضاع الى مصدر تاريخي مهم , ولا ان يتحول الصحابة من اساطير
الى حقائق بهذه السهولة . ولو افترضنا ان المتقدمين قداجمعوا على اتهام سيف بتزييف التاريخ - كما
يدعي المالكي من غير دليل -فلايعقل ان ياتي تلاميذهم بعكس ذلك من غير ايضاح ولا بيان .(26) وهـهـنـا مـغـالطة اشار اليها الدكتور عبد الرحمن الفريح وتدعو الحاجة للتاكيدعليها فان
الـطـبري رحمه اللّه لم يذهب الى سوق الوراقين بحثا عن كتاب مهملا لقصاص تافه متروك يدعى
سيف بن عمر, وانما حصل كتابه او كتبه من المشايخ بالطرق المعروفة في تحصيل العلم , ونقل منه
في تاريخه بالاسنادهكذا (كتب الي السري عن شعيب عن سيف ).وقـد اوضح الاستاذ المالكي مشكورا اسماء ثلاثة من الرواة عن سيف , وان احدهم ثقة والاخرين -
شـعـيـب بن ابراهيم ونصر بن مزاحم - ضعيفان (كتاب الرياض ,62), وبالطبع لا يمكن ان يكون
الـرواة عنه ثلاثة فقطسواء اعرفناهم ام جهلناهم . فاذا كان العلماء في القرن الثاني والثالث يتناقلون
رواياته بالاسناد المتصل - وما في ذلك من معنى التلمذة عليه -فكيف يندفع الاستاذ المالكي قائلا:
(لم تكن لروايات سيف عند معاصريه اية منزلة , لدرجة انهم لايلتفتون اليهامضعفين ولا مصححين ,
ولم يكونوا يعدونه في المؤرخين ولاالادباء وانماكان اشبه ما يكون بالقصاص ) فهل كاتب المقالة هو
كاتب الكتاب ؟
ومعلوم ان نصر بن مزاحم من مؤرخي الشيعة البارزين , وكتابه في وقعة صفين متداول بايدي الناس ,
ومع ذلك ياخذ عن سيف وياخذ عن الناس روايات سيف , فهل لم يدرك انه ناصبي كذاب على آل البيت ,
وانـه يـخـتـرع الاسـاطـير والاسانيد والاسماء والوقائع والبلدان لنصرة بني امية كما قال اخونا
الـمالكي : ايهما نصدق اولئك المعاصرين ومن بعدهم , الذين اخذوابرواياته في التاريخ , ام الوسواس
الذي خطر.شهرة القعقاع
(27) لا يـنـبغي ان ننسى ان جميع كتب التاريخ الاولى قد ضاعت الا اقل القليل ,ومن يقرا اسماءها
فـي فـهرست ابن النديم يدرك ذلك فليس من الممكن ان نجزم بان اسم القعقاع لم يوجد الا في كتاب
سيف .ومـع ذلـك ليس من الصعب تفسير هذا الامر فلقد كانت تلك الكتب ذات نطاق محدود باخبار رجل او
قـبـيـلة او ناحية , وكان الرواة في عصر بني امية يروون عن قومهم ورجال قبائلهم ما شهدوه من
احـداث ومـا يـدور فـي مـجـتـمعهم من حكايات , الى جانب الرغبة المعتادة عند البعض في ابراز
امـجـادالـقـبيلة او الاقليم . فدخلت هذه الروايات في الكتب الاولى من غيراستيعاب بقية الاقوال ,
وصار يوجد في الكتاب الواحد الاسماء والاخباروالاشعار التي تقل او تنعدم في الكتب الاخرى . ثم
ظـهـرت الـتـواريـخ الـشـاملة في القرن الثالث , وهي تقوم في الغالب على اختيار رواية واحدة او
بضع روايات جديرة بالقبول وترك ماعداها.ولـقـد غـفـل الاسـتاذ عن مسالة كان ينبغي ان لا تخفى عليه , وليس من الصعب ان يتصورها القارئ
الـكـريـم . فـلقد تطاحنت الاحزاب منذ الفتنة الاولى الى سقوط الدولة الاموية , لا يكاد المسلمون
يخرجون من فتنة الا ويدخلون في فتنة اعظم منها, ومن لم يصدق فليقرا تاريخ الطبري وليتحسر
عـلـى تـعـطـل الـفـتـوح وضياع الفرصة التاريخية بسبب الانكفاء على الذات والصراعات القبلية
والاقليمية . فالذي تقتضيه الاحوال والطبيعة البشرية ان يمتد الصراع الى ساحة الفكر ولا يقف عند
سـاحـة الـقـتـال , وان تـتـضـارب الـروايـات وتـكثر الحكايات والشائعات عن الواقعة الواحدة ,
ويختلطالحابل بالنابل والصدق بالكذب , في اثناء تلك الفتن وبعد خمودها. فماحاجة سيف مثلا, كائنة
مـا كـانـت دوافـعه واهواؤه , الى اختلاق الحكايات والحوادث , مع انه يكفيه ان يدلي بدلوه في احد
الابار الكثيرة ليجد ما يريدوما حاجته الى اختراع الرواة اذا كان يكفيه ان يصغي باذنيه الى جيرانه
؟
والـتـاريـخ الحاضر خير شاهد على صحة هذا التفسير الذي تقبله النفوس والعقول , فلا يكاد يخلو
كـتـاب مـن الـتـحـيز الشخصي والاسري والحزبي والقبلي والفكري والبلداني , المقصود وغير
المقصود.وهذا الامر اكثر وضوحا في المصادر الاولية - مثل مذكرات السياسيين واقاربهم وما يكتبه بعض
الـمـبـتدئين عن تاريخ الاسرة او الاقليم او القبيلة -منه في كتب التاريخ المحررة . ومع ذلك فهو
موجود في هذه ايضا, واذا شئت فاقرا كتابا لمؤرخ بريطاني عن الحرب العالمية الثانية , ثم انظر ما
يقوله نظيره الامريكي والفرنسي والروسي , او اقرا ما كتب عن هزيمة حزيران او حرب رمضان
او حرب الخليج , فسوف تجد التحيز القومي والبلداني والعقائدي واضحا جدا.ولو محصنا كتب التاريخ لما خلا كتاب منها من شي ء ينفرد به , واذا كان فيهامبالغات او اخبار ضعيفة
او بـاطلة او رجال لا يوثق بروايتهم فلا باس بالرد عليه وبيان حاله بالاسلوب العلمي الملائم , من
غير حاجة للتهويل والمبالغة وتصوير التاريخ الاسلامي بهذه الصورة البائسة .ليس هناك ما يمنع من النظر في الحوادث المنسوبة الى القعقاع وغيره , فقد تكون المبالغة قد تسربت
اليها, واذا كان بعضها او اكثرها باطلا فليكن .ولـكـن ذلـك لا يعني الشك في اصل وجود الرجال , كما ان المبالغات والاكاذيب في سيرة عنترة لا
تعني الشك في اصل وجوده . ولا يصح ابدا الخلط بين الامرين .فـان اراد الـمـالـكـي او غـيره بحث آحاد الاخبار بالاسلوب العلمي , واثبات ان القعقاع لم يكن من
الـصـحـابـة ولـم يحضر موقعة كذا ولم يكن اميرا على قرية كذا ولم يتزوج فلانة - فالميدان يا
حميدان