شجاعته واستشهاده
بعد عودته رضوان الله عليه إلى المدينة من الحبشة ـ كان رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
بخيبر سنة 7هـ ـ بعد أن قضى فيها سنين عدداً مهاجراً ، وكان بصحبته زوجته أسماء وأولاده الثلاثة محمد وعبدالله وعوف ، تقول الرواية المنقولة عن الشعبي . . . قال : لما فتح النبي
(صلى الله عليه وآله)
خيبر قدم جعفر بن أبي طالب رضوان الله عليه من الحبشة ، فالتزمه رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
، وجعل يقبّل بين عينيه ويقول : «ما أدري بأيهما أنا أشدّ فرحاً بقدوم جعفر أم بفتح خيبر؟!»(19) وقد آخى بينه وبين معاذ بن جبل .
فأقام بالمدينة شهراً ثمّ جعله رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
أحد الامراء الثلاثة على جيش غزوة مؤتة بناحية الكرك بالبلقاء . فتوجه إلى هناك حيث خاض معركة لم يخض المسلمون معركة مثلها ، كما وصفت ، وكان أعداء المسلمين من المشركين الروم قد ادّرعوا بالعتاد والأعداء ما يملأ السهل والجبل ، وما لا طاقة للعرب ولا للمسلمين به ، وكان جعفر أحد قواد الجيش الثلاثة الذين عيّنهم رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
فعن عروة بن الزبير : أنه بعث ذلك البعث (بعث رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
الجيش إلى مؤتة) في جمادى . . لسنة ثمان من الهجرة ، واستعمل عليهم زيد بن حارثة ، وقال : إن أُصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس ، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس(20) .
وقد ذكر الدكتور الجميلي صاحب كتاب صحابة النبي
(صلى الله عليه وآله)
وصفاً للمعركة ولاستشهاد جعفر : واشتبكت الأسنة ، واشتجر الوغى ، وعلا رهج الحرب ، وأدرك الروم أنهم إزاء فارس لا ضريب له ، لا تثلم له ضربة ، ولا يغل له سنان ، ولا تنبو له ضريبة ، فاعتوره الأعداء من كل صوب وجهة ، وهو يرميهم ذات اليمين وذات الشمال ، يستأصل شأفتهم ، ويبيد خضراءهم ، وهو ممسك بالراية بيده اليمنى ، فقطعوها له ، فالتقطها بيده اليسرى ، ولا يزال صامداً متماسكاً ، إلاّ أن الروم ظلوا يتدافعون إليه ، واحتوشوه حتى قطعت يده اليسرى ، فاحتضن الراية بعضديهَ شهامةً حتى الموت ، واندفعت الأمور لنهاياتها الحتمية ، فقتل جعفر رضي الله عنه وسقط شهيداً مضرجاً بدمائه مثخناً بجراحه ، مزملا في ثيابه ، مدثراً ببطولة لا مثل لها .
يقول عبد الله بن عمر : كنت مع جعفر في غزوة مؤتة ، فالتمسناه ، فوجدناه وبه بضع وتسعون ما بين طعنة ورمية .
وقال الزركلي في أعلامه : وحضر موقعة مؤتة بالبلقاء من أرض الشام ، فنزل عن فرسه وقاتل ثمّ حمل الراية وتقدم صفوف المسلمين ، فطعنت يمناه فحمل الراية باليسرى فطعنت أيضاً ، فاحتضن الراية إلى صدره ، وصبر حتى وقع شهيداً وفي جسمه نحو تسعين طعنة ورمية ، فقيل : إن الله عوضه عن يديه جناحين في الجنة ، وقال حسان :
فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر
وقد روى عكرمة عن ابن عباس : أن النبي
(صلى الله عليه وآله)
قال : دخلت الجنة فرأيت جعفر الطيار مع الملائكة وجناحاه مضرجان بالدم .
يقول بن عوف ـ وهو ممن حضر معركة مؤتة ـ عن شجاعة جعفر : لكأني أنظر إلى جعفر بن أبي طالب يوم مؤتة حين اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ، ثمّ تقدم فقاتل حتّى قتل ، قال بن اسحق : فهو أول من عقر في الإسلام وهو يرتجز :
يا حبذا الجنة واقترابُها طيبةٌ وباردٌ شرابُها
والرومُ رومٌ قد دنا عذابُها عليّ إن لاقيتها ضرابُها
وفيما قاله رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
عن إيمان جعفر الثابت وشجاعته : . . ولما أخذ جعفر ابن أبي طالب الراية ، جاءه الشيطان فمناه ، وكره إليه الموت ، فقال : الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تمنيني الدنيا ، ثمّ مضى قدماً حتى استشهد . فصلى عليه رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
ودعا له ، ثمّ قال رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
: «استغفروا لأخيكم جعفر فقد استشهد ودخل الجنة ، وهو يطير فيها بجناحين من ياقوت حيث شاء من الجنة» .
ولما ورد خبر استشهاد زيد وجعفر وعبدالله بكى أصحاب رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
وهم حوله فقال : ما يبكيكم؟ فقالوا : ما لنا لا نبكي وقد ذهب خيارنا وأشرافنا وأهل الفضل منا . فقال : لا تبكوا ، فإنما مثل أمتي كمثل حديقة قام عليها صاحبها فأصلح رواكيها وهيّأ مساكبها ، وحلق سعفها ، فأطعمت عاماً فوجاً ، ثمّ عاماً فوجاً ، ثمّ عاماً فوجاً ، فلعل آخرها طعماً أن يكون أجودها قنواناً ، وأطولها شمراخاً . والذي بعثني بالحقّ ليجدن ابن مريم في أمتي خلفاً من حواريه(21) .
ولما استشهد جعفر وأصحابه أتى رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
بيت جعفر ، تقول أسماء بنت عميس زوجة جعفر : لما اصيب جعفر وأصحابه أتاني رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
، ولقد هيأت أربعين مناً(22) من أدم ، وعجنت عجيني ، وأخذت بنيّ فغسلت وجوههم
ودهنتهم ، فدخل عليّ رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
فقال : يا أسماء ، أين بنو جعفر؟ فجئت بهم إليه ، فضمهم إليه وشمهم ، ثمّ ذرفت عيناه فبكى ، فقلت : أي رسول الله لعله بلغك عن جعفر شيء ، فقال : نعم ، قتل اليوم . فقالت : فقمت أصيح ، واجتمع إليّ النساء ، قالت : فجعل رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
يقول : يا أسماء : لا تقولي هُجراً ، ولا تضربي صدراً .
قالت : فخرج رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
حتى دخل على ابنته فاطمة ، وهي تقول : واعماه ، فقال رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
: على مثل جعفر فلتبك الباكية ، ثمّ قال رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
: اصنعوا لآل جعفر طعاماً ، فقد شغلوا عن أنفسهم اليوم . . . ثمّ صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أيها الناس ، إن جعفر بن أبي طالب مرّ مع جبريل وميكائيل له جناحان ، عوضه الله من يديه فسلّم عليّ . . وأخبرني أنه لقي المشركين يوم كذا وكذا . . . . فقال : لقيت المشركين فأصبت في جسدي من مقاديمي ثلاث وسبعين طعنة وضربة ، ثم أخذت اللواء بيدي اليمنى فقطعت ، ثمّ أخذته بيدي اليسرى فقطعت فعوضني الله من يدي جناحين أطير بهما مع جبريل وميكائيل ، أنزل من الجنة حيث شئت . . . فلذلك سمّي الطيار في الجنة .