و فيما يلحقه من ذلك بينة و عليه دين الصحة هو كالحر و قد بينا هذه الفصول في الحر في كتاب الاقرار فكذلك في العبد و إذا لم يكن عليه دين في الصحة فأقر في مرضه على نفسه بدين ألف درهم و أقر باستيفاء ألف درهم ثمن مبيع وجب له في مرضه على رجل لم يصدق على قبضه و لكن يقسم ما كان عليه بينه و بين الغريم الآخر نصفين لان إقراره بالقبض بمنزلة إقراره له بالدين و ذلك صحيح منه الا انه قضاه ذلك الدين بماله في ذمته فكانه قضاه ذلك بعين في يده و المريض المأذون لا يملك تخصيص أحد الغريمين بقضاء الدين و هو في ذلك بمنزلة الحر فلهذا كان ما على الغريم بينه و بين الآخر نصفين وادا مرض المأذون و عليه دين الصحة فقضى بعض غرمائه دون بعض لم يجز لانه لو قضي بعضهم في صحته لم يجز و كان للآخرين حق المشاركة معه لتعلق حق الكل بكسبه فإذا قضاه في مرضه أولى و هذا لان في إيثاره بعض الغرماء بقضاء الدين إسقاط حق الباقين عن ذلك المال و هو لا يملك إسقاط حق الغرماء عن شيء من كسبه و لو اشترى في مرضه شيأ بمعاينة الشهود و قبضه ثم نقد ثمنه و هلك الشيء في يده ثم مات العبد لم يكن لغرمائه على البائع سبيل فيما قبض من الثمن لانه في ذلك بمنزلة المولى و هذا التصرف من الحر صحيح مطلقا فمن العبد كذلك ( أ رأيت ) لو استقرض منه ألف درهم ثم ردها عليه بعينها أ كان للغرماء على ذلك سبيل فكذلك ادا رد مثلها و إذا ثبت هذا فيما إذا فعله العبد في مرضه فهو أولى فيما إذا فعله في صحته و لو كان هذا أجر أجيرا أو مهر إمرأة في صحة أو مرض كان للغرماء أن يشاركوا المرأة و الاجير فيما قبض و هذا فرق قد بيناه في الحر انه إذا لم يدخل في ملك نفسه ظاهرا اما أن يكون مثلا لمال أخرجه من ملكه في حق الغرماء فلا يسلم للقابض ما قبض لتحقق معنى إيثار بعض الغرماء فيه بخلاف ما إذا دخل في ملكه مثل ما أخرج من ملكه فيما قبض يتعلق به حق الغرماء قال و إذا حابى العبد في مرضه و لا دين عليه ثم مات فالمحاباة جائزة لان كسبه لمولاه و المولى راض بتصرفه و هو الذي سلطه على هذه المحاباة بخلاف الحرفان ماله لورثته بعد موته و لم يوجد منهم الرضا بمحاباته و كان معتبرا من ثلث ماله و كذلك ان كان عليه دين فوفى ماله في الدين و لم يف ماله بالدين لم تجز المحاباة لان كسبه حق غرمائه و لم يوجد منهم الرضا بتصرفه و محاباته فهو في حقهم بمنزلة الحر المرض و إذا مرض المأذون فوجب له على رجل ألف درهم من ثمن بيع أو غيره فأقر باستيفائها له لزمته و لا دين على المأذون و لا مال له ذلك الدين ثم أقر بعد ذلك على نفسه بدين ألف ثم مات فإقراره بالاستيفاء جائز لانه حين أقر
(57)
بالاستيفاء لم يكن لاحد في تركته حق سوى مولاه و المولى هو المسلط له على هذا الاقرار فيصح إقراره في حقه و ترك ذلك بمنزلة ما لو أقر بدين ثم قضاه و ذلك صحيح منه و ان أقر بالدين بعد ذلك لان ما قضاه يخرج من أن يكون كسبا له و دينه انما يتعلق بكسبه و لو لم يقر بالدين و لكنه لحقه دين بمعاينة الشهود بطل إقراره بالاستيفاء لان ما وجب عليه بالمعاينة بمنزلة الدين الظاهر عليه حين أقر بالاستيفاء اذ لا تهمة في شهادة الشهود فلهذا يبطل إقراره بالاستيفاء و الله أعلم بالصواب ( و من كتاب المأذون الصغير ) ( قال رحمه الله ) و لو أن عبدين تاجرين كل واحد منهما لرجل اشتري كل واحد منهما صاحبه من مولاه فان علم أيهما أول و ليس عليه دين فشراء الاول لصاحبه جائز لان المولى مالك لبيعه و لو باعه من أجنبي جاز بيعه فكذلك إذا باعه من عبد مأذون لغيره ثم قد صار هذا المشترى ملكا لمولى المشترى و صار محجورا عليه فشراؤه الثاني من مولاه باطل لكونه محجورا عليه و لانه يشترى عبد مولاه من مولاه و لا دين عليه و هذا الشراء من المأذون لا يصح لكونه مفيد و ان لم يعلم أى البيعين أول فالبيع مردود كله بمنزلة ما لو حصلا معا و لان الصحيح أحدهما و هو مجهول و البيع في المجهول لا يصح أبدا و ان كان علي واحد منهما دين لم يجز شراء الاول الا أن يجيز ذلك غرماؤه لان بيع مولاه إياه من عبد مأذون كبيعه من حر و ذلك لا يجوز بدون اجازة الغرماء لان ماليته حقهم و لو اشترى المأذون أمة فوطئها فولدت له فادعى الولد و أنكر ذلك مولاه صحت دعواه و ثبت نسبه منه لان الدعوي تصرف منه و هو في التصرف في كسبه بمنزلة الحر و ليس من شرط صحة الدعوي و ثبوت النسب كون الامة حلالا له ( ألا ترى ) ان المكاتب لو ادعى نسب ولد جاريته ثبت النسب و كذلك الحر لو ادعي نسب ولد جاريته و هي ممن لا تحل له ثبت نسبه منه فكذلك العبد فان كانت جارية لمولاه من تجارة العبد لم يثبت النسب منه بالدعوى لانه لاحق له في التصرف فيها و دعواه تصرف منه و هو في سائر أموال المولى كاجنبي آخر فلا تصح دعواه ما لم يصدقه المولى فان أقر انه وطئها و لم تلد ثم استحقها رجل فلا مهر له علي العبد حتى يعتق أما في جارية المولى فلانه لم يأذن له في جماعها ففعله بها يكون زنا و الزنا لا يوجب المهر
(58)
و بالاستحقاق يتقرر معنى الزنا و أما في الجارية التي هى من كسبه فإقراره بوطئها صحيح و ذلك ليس بزنا يوجب الحد حتى يتعلق به ثبوت النسب إذا ادعاه فإذا استحقت أخذه بالعقر في الحال بمنزلة ما لو بأشر وطأها بمعاينة الشهود و لان وجوب المهر هاهنا باعتبار سبب هو تجارة فيؤاخذ به في الحال و قد بينا الفرق بينه و بين النكاح و إذا أذن الراهن للعبد المرهون في التجارة فتصرف و لحقه دين فهو مرهون علي حاله لان قيام حق المرتهن يمنع المولي من اكتساب سبب يثبت الدين به عليه في مزاحمة المرتهن فكذلك إذا أذن له في التصرف فلحقه دين فإذا استوفى المرتهن ماله بيع في الدين لان المانع حق المرتهن و قد سقط فان فضل من دينه شيء فلا سبيل للغرماء حتى يعتق كما لو لم يكن العبد مرهونا و ان كان العبد تاجرا و له علي رجل ألف درهم ثم ان مولى العبد وهب العبد للغريم و قبضه جازت الهبة و الدين لازم عليه لمولى العبد علي حاله لانه وهب العبد دون المال و المال كسب العبد في ذمة المديون فهو نظير مال هو عين في يده فلا تتناوله الهبة و لكنه سالم لمولاه بعد إخراجه العبد من ملكه بالهبة و لو كان على العبد المأذون دين خمسمأة و قيمته ألف فكفل لرجل عن رجل بألف درهم باذن مولاه ثم استدان ألفا أخرى ثم كفل بألف أخرى ثم بيع العبد بألف فيقول أما الكفالة الاولى فيبطل نصفها و يضرب صاحبها بنصفها في ذمته لان الفارغ عن ماليته عند الكفالة الاولى كان بقدر خمسمأة و كفالته باذن المولى انما تصح فيما هو فارغ عن ماليته عن حق غريمه وقت الكفالة فيثبت من دين المكفول له الاول مقدار خمسمأة درهم و الكفالة الثانية باطلة لانه حين كفل بها لم يكن شيء من ماليته فارغا فيضرب صاحب الدين الاول بخمسمائة و صاحب الدين الثاني بجميع دينه و هو ألف و صاحب الكفالة الاولى بخمسمائة فيصير ثمن العبد و هو ألف درهم بينهم أرباعا انك تجعل كل خمسمأة سهما بقدر مائتين و خمسين يسلم لصاحب الدين الاول و مثله لصاحب الكفالة الاولى و مقدار خمسمأة لغريم العبد الآخر و على هذا جميع الاوجه و قياسه و الله أعلم ( كتاب الديات ) ( قال الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الائمة أبو بكر محمد بن أبى سهل السرخسي رحمه الله ) أعلم بان القتل بغير حق من أعظم الجنايات بعد الاشراك بالله تعالى قال الله تعالى
(59)
من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل انه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكانما قتل الناس جميعا و قال النبي عليه السلام الا أن أعباء الناس ثلاثة رجل قتل قاتل أبيه و رجل قتل قبل أن يدخل الجاهلية و رجل قتل في الحرم و قال في خطبته بعرفات ألا ان دماء كم و نفوسكم محرمة عليكم كحرمة يومى هذا في شهري هذا في مقامي هذا و لما قتل محلم بن جنامة رجلا من أهل الجاهلية قال النبي عليه السلام لا يرحم فدفن بعد موته فلفظته الارض ثم دفن فلفظته الارض فقال أما انها تقبل من هو أعظم جرما منه و لكن الله أراكم حرمة القتل و فى قتل النفس إفساد العالم و نقض البنية و مثل هذا الفساد من أعظم الجنايات و معلوم ان الجاني مأخوذ عن الجناية الا انه لو وقع الاقتصار على الزجر بالوعيد في الآخرة ما انزجر الا أقل القليل فان أكثر الناس انما ينزجرون مخافة العاجلة بالعقوبة و ذلك بما يكون متلفا للجاني أو مجحفابه فشرع الله القصاص والدية لتحقق معنى الزجر و هذا الكتاب لبيان ذلك و قد سماه محمد رحمه الله كتاب الديات لان وجوب الدية بالقتل أعم من وجوب القصاص فان الدية تجب في الخطأ و في شبه العمد و في العمد عند تمكن الشبهة و كذلك الدية تتنوع أنواعا و القصاص لا يتنوع فلهذا رجح جانب الدية في نسبة الكتاب إليها و اشتقاق الدية من الاداء لانها مال مؤدى في مقابلة متلف ليس بمال و هو النفس و الارش الواجب في الجناية على ما دون النفس مؤدى أيضا و كذلك القيمة الواجبة في سائر المتلفات الا أن الدية اسم خاص في بدل النفس لان أهل اللغة لا يطردون الاشتقاق في جميع مواضعه لقصد التخصيص بالتعريف و سمى بدل النفس عقلا أيضا لانهم كانوا اعتادوا ذلك من الابل فكانوا يأتون بالابل ليلا إلى فناء أوليآء المقتول فيعقلونها فتصبح أوليآء القتيل و الابل معقولة بفنائهم فلهذا سموه عقلا ثم بدأ الكتاب فقال قال أبو حنيفة رحمه الله القتل علي ثلاثة أوجه عمد و خطأ و شبه العمد و المراد به بيان أنواع القتل بغير حق فيما يتعلق به من الاحكام كان أبو بكر الرازي يقول القتل على خمسة أوجه عمد و شبه عمد و خطأ و ما أجرى مجرى الخطأ و ما ليس بعمد و لا خطأ و لا أجرى مجرى الخطأ أما العمد فهو ما تعمدت ضربه بسلاح لان العمد هو القتل و قصد ازهاق الحياة و هي محسوسة لقصد أخذها فيكون القصد إلى ازهاق الحياة بالضرب بالسلاح الذي هو جارح عامل في الظاهر و الباطن جميعا ثم المتعلق بهذا الفعل أحكام منها المأثم و ذلك منصوص عليه في قوله و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا
(60)
فيها الآية و منها القصاص و هو ثابت في قوله تعالى و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس و ما أخبر الله تعالى أنه كتبه على من قبلنا فهو مكتوب علينا ما لم يقم دليل النسخ فيه و قد نص على أنه مكتوب علينا فقال كتب عليكم القصاص في القتلى ثم بين وجه الحكمة فيه بقوله و لكم في القصاص حياة و فيه معنيان أحدهما أنه حياة بطريق الزجر لان من قصد قتل عدوه فإذا تفكر في عاقبة أمره انه إذا قتله قتل به انزجر عن قتله فكان حياة لهما و الثاني أنه حياة بطريق دفع سبب الهلاك فان القاتل بغير حق يصير حربا على أوليآء القتيل خوفا على نفسه منهم فهو يقصد افناءهم لازالة الخوف عن نفسه و الشرع مكنهم من قتله قصاصا لدفع شره عن أنفسهم و احياء الحى في دفع سبب الهلاك عنه و قال عليه الصلاة و السلام العمد قود أى موجبه القود فان نفس العمد لا يكون قودا و قال صلوات الله عليه و سلامه كتاب الله القصاص أى حكم الله و القصاص عبارة عن المساواة و فى حقيقة اللغة و هو اتباع الاثر قال الله تعالى و قالت لاخته قصيه و اتباع أثر الشيء في الاتيان بمثله فجعل عبارة عن المساواة لذلك و من حكمه حرمات الميراث ثبت ذلك بقوله عليه الصلاة و السلام لا ميراث لقاتل عبد صاحب البقرة و في رواية لا شيء للقتل أى من الميراث و من حكمه وجوب المال به عند التراضى أو عند تعذر إيجاب القصاص للشبهة ثبت ذلك بقوله تعالى فمن عفى له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف و أداء إليه بإحسان أى فمن أعطى له من دم أخيه شيء لان العفو بمعنى الفضل قال الله تعالى يسئلونك ماذا ينفقون قل العفو و المراد به إذا رغب القاتل في اداء الدية فالمولى مندوب إلى مساعدته على ذلك و على القاتل اداؤه اليه بإحسان إذا ساعده الولي و هذه الدية تجب في مال القاتل إذا كان بطريق الصلح و التراضي فكانه هو الذي التزمه بالعقد و أما إذا كان عند تعذر استيفاء القصاص فلان في الدية الواجبة عليه معنى الزجر و معنى الزجر انما يتحقق فيما يكون اداؤه مجحفا به و هو الكثير من ماله و يختلفون في وجوب الدية بهذا لافضل عند وجوب القصاص به فالمذهب عندنا انه لم تجب الدية بالعمد الموجب للقصاص الا أن يصالح الولى القاتل على الدية و للشافعي رضى الله عنه فيه قولان في أحد القولين موجب العمد احد شيئين القصاص أو الدية يتعين ذلك باختيار المولى و فى القول الآخر موجبه القصاص الا أن للولي أن يختار أخذ الدية من رضا القاتل و احتج في ذلك بقوله عليه الصلاة و السلام من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين ان أحبوا قتلوا و ان أحبوا أخذوا الدية فهذا تنصيص
(61)
علي ان كل واحد منهما موجب القتل و ان الولى مخير بينهما و لما أتى بالقاتل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال عليه السلام للولي أ تعفو فقال لا فقال أ تأخذ الدية فقال لا فقال القتل فقال نعم ففى هذا بيان أن الولي يستبد بأخذ الدية كما يستبد بالعفو و القتل و المعنى فيه ان هذا إتلاف حيوان متقوم فيكون موجبا ضمان القيمة كإتلاف سائر الحيوانات و قيمة النفس الدية و هذا لان الحيوان ليس من ذوات الامثال و إتلاف المقوم مما لا مثل له يوجب القيمة و قيمة النفس الدية بدليل حالة الخطأ فان الدية انما تجب بالاتلاف لا بصفة الخطأ لانه عذر مسقط و المتلف في حالة العمد ما هو المتلف في حالة الخطأ الا أن الشرع أو جب القصاص بمعنى الانتقام و شفاء الصدر للولي و دفع الغيظ عنه فكان ذلك بخلاف القياس لانه إتلاف و الاتلاف لا يكون واجبا بمقابلة الاتلاف و هو ليس بمثل ( ألا ترى ) ان الجماعة يقتلون بالواحد و لا مماثلة بين العشرة و الواحد فعرفنا أنه ممنوع بمعنى زيادة النظر للولي و ذلك في أن لا يسقط حقه في الواجب الاصلى بل يكون متمكنا فيه كما لو قطع يد إنسان و يد القاطع شلاء أو ناقصة باصبع فان القصاص واجب و لصاحب الحق أن يأخذ الارش بغير رضا الجاني لهذا المعنى و لان النفس محترمة بحرمتين و فى إتلافها هتك الحرمتين جميعا حرمة حق الله تعالى و حرمة حق صاحب النفس و جزاء حرمة الله تعالى العقوبة زجرا و جزاء هتك حرمة العبد الغرامة جبرا و لكن تعذر الجمع بينهما هاهنا لان كل واحد منهما يوجب حقا للعبد حتى يعمل فيه إسقاطه و يورث عنه و يسقط باذنه و لا يجوز الجمع بين الحقين لمستحق واحد بمقابلة محل واحد فأثبتنا الجميع بينهما على سبيل التخيير و قلنا ان شاء مال إلى جانب هتك حرمة حق الله تعالى و استوفى العقوبة و ان شاء مال إلى جهة حرمة حق العباد فاستوفى الدية و لا خلاف ان أحد الشريكين في الدم إذا عفا ان للاخر ان يستوفى المال و لو لم يكن المال واجبا له بنفس القتل لما وجب بالعفو لان العفو مسقط و لو وجب بالعفو لوجب على العافي و ان كان محسنا كضمان الاعتاق يجب على المعتق إذا كان موسرا و لما وجب المال للآخر على القاتل عرفنا انه كان واجبا بنفس القتل و لما ظهر ذلك عند العفو في حق من لم يعف فكذلك يظهر في حق العافي إذا عفا عن القصاص فقلنا يتمكن من أخذ المال و لان القاتل في الامتناع من أداء الدية بعد ما استحقت نفسه قصاصا ملق نفسه في التهلكة فيكون ممنوعا شرعا كالمضطر إذا وجد طعاما يشتريه و معه ثمنه يفترض عليه شراؤه شرعا لهذا المعنى
(62)
فكذا هاهنا و حجتنا في ذلك قوله عليه الصلاة و السلام العمد قود فقد أدخل الالف و اللام في العمد و ذلك للمعهود فان لم يكن فللجنس و ليس هاهنا معهود فكان للجنس و فيه تنصيص على ان جنس العمد موجب للقود فمن جعل المال واجبا بالعمد مع القود فقد زاد على النص و إلى هذا أشار ابن عباس رضى الله عنه في قوله العمد قود و لا مال له فيه و عن على و ابن مسعود رضى الله عنهما قالا في دم عمد بين شريكين عفا أحدهما انقلب نصيب الآخر ما لا فتخصيصهما العافي بوجوب المال له دليل على أن العافي لا شيء له فأما ما روى من قوله فأهله بين خيرتين فقد اختلفت الرواية فيه فان في بعض الروايات ان أحبوا قتلوا و ان أحبوا فادوا و المفاداة على ميزان المفاعلة يقتضى وجود القتل بين اثنين بالتراضي و ذلك أخذ الدية بطريق الصلح و تأويل الرواية التي قال و ان أحبوا أخذوا الدية من جهتين احداهما انه انما لم يذكر رضا القاتل لان ذلك معلوم ببديهة العقل فان من أشرف على الهلاك إذا تمكن من دفع الهلاك عن نفسه باداء المال لا يمتنع من ذلك الا من سفهت نفسه لان امتناعه لا بقاء منفعة المال سفه و لا يتصور ذلك بعد ما تلفت نفسه و هو نظير قوله عليه الصلاة و السلام خذ سلمك أو رأس مالك و هو في أخذ رأس المال يحتاج الي رضا المسلم اليه و لم يذكره لا لانه محتاج اليه بل لانه معلوم بطريق الظاهر و الثاني ان المراد أن لا يجبر الولى على أخذ الدية شاء أو أبى لا ان له أن يجبر غيره على اداء الدية بدليل قصة الحديث فانه روى ان رجلا من خزاعة قتل رجلا من هذيل يوم فتح مكة بعد ما أمر رسول الله صلى اله عليه و سلم بالكف عن القتل فخطب رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال أما أنتم يا معاشر خزاعة فقد قتلتم هذا القتيل من هذيل و أنا و الله عاقلته فوداه بمائة من الابل من عند نفسه ثم قال فمن قتل له بعد اليوم قتيل فأهله بين خيرتين فقد أجبر الولى على أخذ الدية ثم تبين بهذا اللفظ ان الحكم قد انتسخ و ان الولى لا يجبر على أخذ الدية بعده و في الحديث الآخر عرض الدية على الولى و هذا لا ينفى كون رضا القاتل مشروطا فيه و لكنه اما أن يكون قصد التبرع باداء الدية من عنده و لم يعتبر رضا القاتل في هذه الحالة أو أراد أن يعلم رغبة المولى في أخذ الدية ثم يشتغل باسترضاء القاتل كمن سعى بالصلح بين اثنين يسترضى أحدهما فإذا تم له ذلك حينئذ استرضى الآخر و المعنى في المسألة انه أتلف شيأ مضمونا فيتقدر ضمانه بالمثل ما أمكن كإتلاف المال و تفويت حقوق الله تعالى من الصوم و الصلاة و الزكاة يكون الواجب فيها