المقدمـة
تفكر في نفسك ثم انظر الى ما حولك من الطبيعة، ماذا ترى؟ أفلا تجد كل شيء -في مملكة ذاتك كما في آفاق العالم- قد نظّم تنظيماً حسناً. فابتداءً من الذرة المتناهية في الضآلة وانتهاءً بالمجرة التي تحتوي على ملايين الشموس، لا تجد شيئـاً من خلق اللـه إلاّ وقد قدّر اللـه له سنّة حكيمة.
تلك السنن هي الفطرة الالهية، والانحراف عنها فساد، والعودة اليها صلاح.. والطهر تعبير عن فطرة اللـه في الانسان، فكل ما نفع الانسان وصلح له فهو طهارة ونقاء. وكل ما اضرّ به وأفسده فهو قذر..
صفة الصدق تنفع الانسان وتصلحه، فهي طهارة القلب، وكذلك العطاء والايثار.. بينما الكذب خلاف فطرة الانسان، وانحراف عن سنّة اللـه، فهو رين القلب، وكذلك الخيانة والاستئثار.
والخبائث ( البول والغائط والمني) تضر بالانسان ولم تدفعها الطبيعة خارج الجسد إلاّ لفسادها. فهي قذارة، بينما التخلص منها طهر ونقاء وهكذا..
ولقد امر اللـه عباده بالطهارة فيما يتصل بالروح والجسد والبيئـــة، وهكذا شرع الدين
اجتناب القذر والاهتمام بالتطهـر. قال ربنا سبحانــه: « وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا » (الشمس/7-9)
فإذا طهرت النفس من الشرك والشك والعصبيات وسائر الرذائل.. عادت الى فطرة اللـه الاولى .
وأما عن اجتناب قذارة الجسد فقد امر الدين بذلك حين قال ربنا سبحانه: « وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ » (المدثر/4-5)
وأما طهارة البيئة فقد امر اللـه بها فقال سبحانه: « وَلا تُفْسِدُوا فِي الاَرْضِ بَعْدَ اِصْلاَحِهَا» (الاعراف/56 و85)
وحرّم الخبائث التي تعني القاذورات باختلاف انواعها كما تشمل ما يضر بالانسان، فقال سبحانه:« وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ.. » (الاعراف/157)
وفرض اجتناب النجس فقال سبحانه: « إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا » (التوبة/28)
واعتبر اجتناب الرجس حالة فطرية عند البشر، فبيّن ان الرجس المعنوي كما الرجس المادي يقتضي الاجتناب، فقال سبحانه: « إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ » (المائدة/90)
وهكذا نستفيد امرين:
اولاً: ان الهدف الأسمى من فرض التطهرّ واجتناب الخبائث، وبالتالي من بيان الاحكام الشرعية التي سوف نستعرضها في الكتاب هو: العودة الى اللـه والى تلك الفطرة النقية التي خلق اللـه الانسان عليها. وعلينا تحقيق هذا الهدف من خلال تطبيق الاحكام الشرعية السامية التي امر الدين باتباعها.
ثانياً: على المسلم السعي نحو الطهر والنظافة بكل وسيلة ممكنة حسب المستطاع تنفيـذاً
لعمومات النصوص السابقة التي استعرضناها، بلى إن ذلك لايرقى الى مستوى الالزام إلاّ بدليل قاطع، والامثلة التالية تهدينا الى ذلك:
ألف: لو احتوى طعام او شراب على سم نقيع او فيروس قاتل وجب الاجتناب عنه تحصيلا للطهر، واجتناباً للنجس وتطبيقاً لنصوص "لا ضرر" ومحافظة للحياة المحترمة.
باء: ولدى تلوث طعام او شراب او شيء من المتاع بالميكروب غير القاتل او احتمال ذلك احتمالاً عقلانياً، فان الاجتناب عنه يكون مستحباً ولا يجب إلاّ عند خوف ضرر بالغ.
جيم: يستحب رعاية الطهر والنظافة والجمال ابداً، لتكون البيئة المحيطة بالانسان (البيت -الشارع -المتاع -والادوات) تعبيراً عن جمال الشريعة وطهرها ونقائها، كما يكره تلويث البيئة (مثل؛ إلقاء القمامة في الشارع او تخريب الحدائق او صب الغُسالة في المياه النظيفة او ما أشبه) ويحرم ذلك إذا أدّى الى ضرر بالنفس أو بأموال المسلمين، أو أدّى الى فساد في الارض بأي نوع حسب رأي الخبراء الموثوقين.
ثم إن احكام الدين في التطهر نافعة للآخرة وللدنيا أيضاً، فاللـه يحب التوابين ويحب المتطهرين. وأي فطرة سليمة لا تحب الطهارة والنقاء؟ واللـه يأمرنا بأن نأخذ زينتنا عند كل مسجد، وأي إنسان لا يرتاح للزينة؟.
ومن هنا فقد اتبعنا سيرة السلف الصالح في بيان سنن الزينة، وآداب النظافة مع بيان فقه التطهر.. كما تطرقنا عند الحديث عن فقه الوفاة، الى آداب المرض وما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية في هذه المرحلة الحساسة من حياة كل إنسان.
وسوف تجد كيف استوعبت تعاليم الشريعة الغرّاء، أبعاد حياة البشر فيما يتصل بعقله وروحه وجسمه وعلاقاته بالناس. وكتاب الطهارات دليل حي على هذه الحقيقة الهامة.
ومن هنا فقد روينا لك المزيد من نصوص الكتاب والسنة، وبالتدبر فيها تستطيع ان تستفيد نوراً، أليس القرآن نور؟ أو ليس كلام الرسول وأهل بيته ضياء؟
وقد اخترنا من كل مجموعة من الأحاديث المتقاربة حديثاً، وحرصنا على نقل ما اعتمد عليه الفقهاء في فتاويهم الشرعية، وأيضاً على نقل غرر كلمات المعصومين صلوات اللـه عليهم اجمعين حسب فهمنا.
وقد قسمنا الكتاب الى فصول سبعة؛ عن :(المطهرات) و(النجاسات) و(الوضوء وآدابه) و(الغسل والتيمم) و(الدماء الثلاثة) و(النظافة والزينة) و(آداب المرض وفقه الوفاة).
نسأل اللـه أن يتقبل منا هذا الجهد اليسير، ويرزقنا من لدنه فضلاً كبيراً، ويجعل العمل بهذا الكتاب مجزياً عنده، إنه سميع الدعاء قريب مجيب، والحمد لله رب العالمين.
محمد تقي المدرسي
طهران 4/رجب / 1418هـ
الفصل الأول
الـمُطهِّـرات
الطهـارة
القرآن الكريم:
1- « إِنَّ اللـه يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» ( البقرة/222)
2- « مَا يُرِيدُ اللـه لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِنْ حَرَجٍ وَلكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (المائدة/6)
3- « وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِنَ السَّمَآءِ مَآءً لِيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الاَقْدَامَ » (الانفال/11)
4- « فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللـه يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ » (التوبة/108)
تبصّرنا الآيات بأن الطهر قيمة سامية جاءت شرائع الاسلام المختلفة من أجل تحقيقها في الحياة.
ألا ترى كيف يعبّر القرآن عن هذه القيمة المطلوبة بأن اللـه يحب المتطهرين، والذي يدل على أن الانسان أقرب الى اللـه تعالى إذا كان طاهراً، مما يوحي بضرورة الطهارة عند إقامة الفرائض العبادية، كالصلاة والطواف.
ويعبّر ربنا سبحانه عن هذه القيمـة في الآيـة الاخرى بأن اللـه « يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ » مما
لا يدع غموضاً في أن الطهر مراد اللـه منا عبر الغسلات المطلوبة قبل الصلاة.
ولكن هل طهر ظاهر البدن يكفي لتحقيق هذا الهدف؟
كلا إنما طهارة القلب هي الاخرى مطلوبة، مما يوحي بضرورة نية التقرب الى اللـه عند الوضـوء والغسـل . ألا تـرى كيف يُعبِّــر السياق القرآني عن ذلك مـرة بأن اللـه « يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتـِمَّ نِعْمَتَـهُ عَلَيْكُــمْ لَعَلَّكُــمْ تَشْكُــرُونَ » ومرة بأن الهدف من الطهارة هو أن « يُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ » .
ولعل رجز الشيطان هو رين الغفلة عن اللـه الذي يحيط بالقلب، وهو ايضاً ظلام الوساوس التي تغمر النفس، وكل ذلك يذهبه اسباغ الوضوء بنية التقرب الى اللـه .
وفي الآية الاولى نجد العلاقة بين التوبة والطهارة، ونستلهم من ذلك؛ أن التوبة طهارة جوانح الروح، وأن الطهارة توبة جوارح البدن.
ونستوحي من الآية الاخيرة أن الصالحين يحبون الطهارة ولذلك تراهم إذا أصابهم حدث سارعوا الى رفعه بالطهارة، فهم على طهر دائم.
وقد حدد الشرع طائفة من المطهرات التي فصّلها وبيّن احكام التطهر بها (الماء -التراب - الشمس) ولكنـه لم يخصص التطهير بها فحسب ، انما امرنا بصراحة وبكلمات مطلقة وعامة بضرورة التطهير بكل وسيلة ممكنة ، فقال سبحانـه: « وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ » (المدثر/ 5)
وقال تعالى: « فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاَوْثَانِ » (الحج/30)
وقال سبحانه: « إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ » (المائده /90)
وحين أمر بالطهر والنظافة فقد امر بتحقيق الطهر والنظافة بكل وسيلة ممكنة. فلو علمنا بان مادة مطهرة تزيل الخبث ولا تدع له أثـراً، فان علينا الاستفـادة منها لتنفيذ أمر
الشرع بالطهارة.
مثلاً: الدم الـذي تجمّـد على الثـوب او البدن ان لم يمكن ازالته إلاّ بالصابـون، فعلينا استخدامه لإزالته.
وكذلك القذارة التي تصيب مكاناً ولا تذهب الا بالمواد المطهرة، فعلينا استخدامها لتحقيق هدف النظافة.
ومن زاوية اخرى، يجب إجتناب الوسوسة في الطهارة، فالنجس هو الرجز الذي يجب ان يهجر، اما المتنجس به فإنما وجب الاجتناب عنه لوجود أثر النجس فيه، اما اذا عرفنا يقيناً انعدام أثر النجس فلا يجب الاجتناب عنه. ومن هنا يشترط في سراية النجاسة؛ الرطوبة، علماً بأن اللـه تعالى قد جعل في الخليقة نظاماً للتطهير، فالماء يطهر بعضه بعضاً، والارض تطهر بعضها بعضاً، والشمس والتحولات الكيمياوية وغيرها تطهر الاشياء، حتى ان تقادم الزمان قد يؤدي الى طهارة الاشياء بسبب ذلك النظام الالهي المودع في الخلق.
ومن هنا كانت القاعدة العامة طهارة الطبيعة من حولنا إلاّ عند العلم بقذارتها. وقد جاء في الحديث عن الامام الصادق عليه السلام: " كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قـذر". ([1])
السنَّة الشريفة:
1- " الطهور نصف الايمان". ([2])
2- قال النبي صلى اللـه عليه وآله: "تنظفوا بكل ما استطعتم، فان اللـه تعالى بنى الاسلام على النظافة، ولن يدخل الجنة إلاّ كل نظيف". ([3])
3- وقال صلى اللـه عليه وآله ايضاً: " ان الاسلام نظيف فتنظفوا فانه لا يدخل الجنة إلاّ نظيف". ([4])
4- وقال ايضاً: " ان اللـه طَيِّب يحب الطيّب؛ نظيف يحب النظافة ". ([5])
5- عنه صلى اللـه عليه وآله: " النظافة من الايمان ". ([6])
6- وعن النبي صلى اللـه عليه وآله: " النظافـة تدعو الى الايمان، والايمان مع صاحبه فـي الجنة ".
7- وقال النبي صلى اللـه عليه وآله لأنس: " يا أنس أكثر من الطهور يزد اللـه في عمرك، فان استطعت أن تكون بالليل والنهار على طهارة فافعل، فإنك تكون إذا مت على طهارة متَّ شهيداً ". ([7])
تعريف الطهارة:
الطهارة لغة: هي النظافة والنزاهة عن الاوساخ والادناس، وفي المصطلح الشرعي: هي اسم للوضوء او الغسل او التيمم، ويعرّفها الفقهاء بانها: (استعمال طهور مشروط بالنية).
ولقد اهتم الاسلام اهتماماً بالغاً بأمر الطهارة، حيث جعلها من الامور الاساسية في حياة الانسان، واعتبر الطهور نصف الايمان -حسب الحديث الشريف- كناية عن اهميتها في الشريعة الاسلامية.
وبالطهارة يتخلص الانسان من الاوساخ الحسّية والنجاسات التي عبّر عنها الفقه الاسلامي بالخبث، كما وتحصل بها الطهارة والنقاوة المعنوية من الادناس الروحية والتي عبر عنها الفقه بالحدث، وقد اشار القرآن الكريم الى كل ذلك في قوله تعالى: « وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِنَ السَّمَآءِ مَآءً لِيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الاَقْدَامَ » (الانفال/11)
وان من اول المواضيع التي يبحثها الفقهاء في كتبهم هي (الطهارة) نظراً لأهميتها في الشريعة الاسلامية، ولانهم جعلوها اساساً ومدخلاً للمباحث الفقهية. وقد يكون هذا الاهتمام نابعاً من توجيه الرسول العظيم صلى اللـه عليه وآله المسلمين في كثير من الاحاديث الى النظافة والطهارة، والى بناء مجتمع منزّه عن الاوساخ المادية والمعنوية، كما جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى اللـه عليه وآله: " تنظفوا بكل ما استطعتم فان اللـه تعالى بنى الاسلام على النظافة، ولن يدخل الجنة الا كل نظيف ".
ولقد امر الاسلام بالطهارة وحث عليها كي يكون المؤمن على نظافة دائمة، ويهجر الادناس والاوساخ المادية والمعنوية، وكي تطهر روحه وتتزكى نفسه، اذ ليس المقصود من تشريع الطهارة جانبها المادي المحسوس فحسب، بل الطهارة الروحية ايضاً.
والطهارة الحسّية هي ازالة النجاسة عن الثوب والبدن وما شابه ذلك، وتحصل بواسطة الماء والشمس والارض وغيرها من المطهرات حسب شروط معينة يأتي تفصيلها.
وأما الطهارة المعنوية فهي الوضوء والغسل والتيمم والتشرف بالاسلام، وهي تحصل بواسطة الماء والأرض والاقرار بالشهادتين ، حسب شروط معينة ايضاً.
وبالطهارة تتهيأ للصلاة وللطواف (الواجب) ومس كتابة القرآن وما أشبه.
اقسام المطهرات
الأول: الماء
القرآن الكريم:
1- « وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِنَ السَّمَآءِ مَآءً لِيُطَهِّرَكُم بِهِ » (الانفال/11)
2- « وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً » (الفرقان/48)
السنة الشريفة:
1- قال الامام ابو عبد اللـه الصادق عليه السلام في حديث: "ان اللـه جعل التراب طهوراً كما جعل الماء طهورا ". ([8])
2- وقال ايضاً: " كل ماء طاهر إلاّ ما علمت انه قذر ". ([9])
3- وقال في حديث آخر: " الماء يطهّر ولا يطهّر". ([10])
4- وجاء عن الامـام الصادق عليه السلام ايضاً: " الماء كله طاهر حتى يعلم انه قـذر". ([11])
5- وجاء في دعاء الامام أمير المؤمنين عليـه السلام عند الوضوء وعند النظر الى الماء : " الحمد لله الذي جعل الماء طهورا ولم يجعله نجساً ". ([12])
6- وقال الامام الباقر عليه السلام قال: " افطر على الحلو، فان لم تجده فافطر على الماء، فان الماء طهور ". ([13])
تفصيل القول:
تعريف وتقسيمات الماء:
الماء -وجمعه مياه- ينقسم الى: مطلق ومضاف.
أ - اما الماء المطلق فهو: ما كان على أصل خلقته، أو ما يمكن أن نطلق عليه لفظة (الماء) من دون إضافة كلمة اخرى لتعريفه، وهو كل ما جادت به السماء؛ كماء المطر وما يذوب من الثلج والبَرَد المتساقط من السماء، وكل ما استقر في الارض -باطنه وظاهره- كمياه البحار والانهار والشلاّلات والعيون والآبار والمياه المعدنية، سواءً كان عذباً أو مالحاً.
والماء المطلق طاهر ومطهِّر، مزيل للخبث ورافع للحدث.
ولا يضر باطلاقه ما يطرأ عليه من تغيير بواسطة طول المكث، او بسبب جرفه للتراب والأعشاب وأوراق الشجر والطحالب وما الى ذلك، اذا كان التغيير لا يخرجه عن اسم الماء عرفاً.
ب- واما الماء المضاف فهو ما عدا الماء المطلق من السوائل، كماء الورد، والخل، او ما يُعْصَر من الاجسام كعصير الفواكه، او غير ذلك مما يحصل من امتزاج الماء مع غيره من الاجسام كالشاي وغيره. وهو طاهر -بذاتـه- غير مطهّـر لغيره ، ولا مزيل للخبث ولا
رافع للحدث.
ج- وينقسم الماء المطلق الى خمسة اقسام:
1- ماء المطر
2- الماء الجاري
3- ماء البئر
4- ماء الكر
5- الماء القليل
المـاء المطلـق
1- ماء المطر
القرآن الكريم:
1- « وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِنَ السَّمَآءِ مَآءً لِيُطَهِّرَكُم بِهِ » (الانفال/11)
2- « وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً » (الفرقان/48)
السنة الشريفة:
1- روى هشام بن سالم أنه سأل ابا عبد اللـه الصادق عليه السلام عن السطح يبال عليه فتصيبه السماء فيكف فيصيب الثوب؟ فقال: " لا بأس به ما اصابه من الماء اكثر منه ". ([14])
2- وفي رواية الكاهلي عن الامام ابي عبد اللـه عليه السلام: "كل شيء يراه ماء المطر فقد طهر". ([15])
3- وروي عـن ابي الحسن عليه السلام في طين المطر أنـه قـال: "لا بأس به ان يصيب
المطر الثوب ثلاثة ايام الا ان يعلم انه قد نجّسه شيء بعد المطر". ([16])
تفصيل القول:
لكي يطهِّر الماء النازل من السماء يشترط ان يكون بقدر يصدق عليه " ماء المطر" والاحوط ان يكون بقدر يجري لو نزل على ارض صلبة.
فاذا أصاب المطر شيئاً متنجساً ليس فيه عين النجاسة، طهر منه ما أصابه المطر، ولا يعتبر في الثوب والفراش وما شابه العصر اذا نفذ فيه المطر، بحيث اعتبره العرف مغسولاً به.
وفيما يلي بعض التفصيل في هذه المسألة:
1- اذا سقط المطر على ارض ملوّثة بعين النجاسة كالارض التي عليها الخمرة او الدم، ثم تطايرت بعض القطرات منه فانها طاهرة.
بلى اذا تغير لون تلك القطرة من الماء او رائحتها او طعمها بسبب ملاقاة النجاسة فهي متنجسة.
2- اذا سقط المطر على سطح الدار وكان عليه بول او دم او غيره من الاعيان النجسة، فان الماء الجاري من السطح طاهر حال تقاطر المطر حتى ولو مرّ على العين النجسة، وهكذا لو جرى الدم وماء المطر فاختلطا وسال الماء على جسم طاهر، فانه طاهر حال سقوط المطر.
اما اذا توقف المطر: فإذا عرفنا بملاقاة النجس للماء بعد توقف المطر فانه نجس، وكذلك اذا تغير الماء بأوصاف النجس.
وكذا الحكم بالنسبة الى ماء المطر الذي يتقاطر عبر السقف.
3- كما تطهر الارض النجسة بسقوط المطر عليها مباشرة، كذلك تطهـر بجريـان مـاء المطر عليها، كما لو كانت الارض تحت السقف او كانت قطعتان متجاورتان فنزل
على احداهما المطر فجرى الماء من القطعة الاولى على القطعة الثانية.
4- طين المطر طاهر، فاذا سقط المطر على تراب نجس فتحول طيناً فان المطر يطهّره.
5- إذا سقط المطر على حوض ماء أو غدير أقل من الكر، فانه يصبح حال تقاطر المطر كماء الكر والجاري، تجري عليه احكامهما.
2- الماء الجاري
السنة الشريفة:
1- قال داود بن سرحان: سألت أبا عبد اللـه عليه السلام: ما تقول في ماء الحمام؟ قال: هو بمنزلة الماء الجاري. ([17])
2- وقال الامام الباقر عليه السلام: ماء الحمام لا بأس به إذا كانت له مادة . ([18])
3- وروي ابن ابي يعفور أنه قال للامام الصادق عليه السلام: اخبرني عن ماء الحمام يغتسل منه الجنب والصبي واليهودي والنصراني والمجوسي؟ فقال: إن ماء الحمام كماء النهر يطهِّر بعضه بعضاً. ([19])
تفصيل القول:
ماهو الماء الجاري؟
الماء الجاري هو كل ماء يسيل عن مادة (مخزون)، كالعيون والقنوات ([20]) والأنهر، سواءً منها ما تكونت من العيون او من ذوبان الثلوج، ويلحق به كل مـاء متصل بما
يمده، ولو كان واقفاً مثل عين الماء التي لا تجري .
وهكذا لا يعتبر الماء المنفصل عن المادة جارياً إلاّ اذا كان عظيماً، فيحسب وجود كميات كبيرة من الماء المتدفق مادة له.
وفي المسألة فروع نشير اليها فيما يلي:
1- لا ينجس الماء الجاري بملاقاة النجس سواءً كان كراً او اقل -مادام متصلاً بالمادة-.
2- الماء الجاري على الارض ان لم يكن متصلا بكُرّ ولا بنبع ولم يكن بمقدار كر، فهو كالماء القليل يتنجس بملاقاة النجس.
3- النبع الذي ينبع زماناً ويتوقف عن النبع زماناً آخر، حكمه حكم الجاري حال النبع.
4- النبع الذي لا يجري ولا ينبع الا اذا اخذ منه الماء، فحكمه حكم الماء الجاري بالرغم من انه ليس بجار وذلك لأنه متصل بمادة، أي بـ (مخزون).
5- حكم الغدران والاحواض المتصلة بالماء الجاري، حكم الماء الجاري مادام متصلا بالجاري عرفـاً، ولا فرق بين ان يكون الاتصال من ظاهر الارض او باطنها.
6- اذا اندفع ماء قليل من محل بقوة، والتقى أسفله بالنجاسة، فلا تسري نجاسة الاسفل الى الاعلى.
7- ماء الحمام المتجمع في الاحواض الصغيرة والمتصلة بمادتها المتجمعة في المخزن، يعتبر بحكم الجاري يُطَهِّر بعضه بعضا، شريطة ان يكون في المخزن مقدار كرّ من الماء، او يكون مجموع ما في الاحواض الصغيرة والمخزن قدر كر او أكثر.
8- تعتبر شبكة أنابيب المياه المتصلة بمخازنها التي هي أكثـر -بـالطبع- من مقدار الكر بمثابـة الكـر.
9- اذا صادفنـا ماءً جاريــاً ولم نعلم هل انه بقدر الكـر ام اقــل، وهل هو متصل بمادة
ومخزون أم لا، فهو بمثابة الماء القليل، لان شرط الاعتصام عن النجاسة غير معلوم، وهو الاتصال بالمادة او بلوغه قدر كر من ماء.
10- لابد ان يستمر اتصال الماء الجاري بمادته ولو بصورة الرشح او التقاطر المتوالي والكثيف، اما لو انقطع الاتصال بأية طريقة -بحيث لا يمده- فانه يصبح بمثابة الماء الراكد، فلو كان اقل من الكر كان حكمه حكم الماء القليل.
3- ماء البئر
السنة الشريفة:
1- قال الامام الرضا عليه السلام: "ماء البئر واسع لا يفسده شيء الا ان يتغير به".([21])
2- وروى ابو بصير انه سأل الامام الصادق عليه السلام عن بئر يستقى منها ويتوضأ به، وتغسل به الثياب، ويعجن به، ثم علم انه كان فيها ميت؟ قال: "لا بأس، ولا يغسل منه الثوب، ولا تعاد منه الصلاة". ([22])
3- روى معاوية بن عمار انه سمع الامام ابا عبد اللـه الصادق عليه السلام يقول: "لا يغسل الثوب، ولا تعاد الصلاة مما وقع في البئر الا ان ينتن، فان انتن غسل الثوب، واعاد الصلاة، ونزحت البئر". ([23])
تفصيل القول:
ماء البئر معتصم لا ينجسه شيء إلاّ ما غيّر لونه او طعمه او رائحته. وفروع المسألة كالتالي:
1- اذا وقع في البئر نجس، كما لو مات فيه انسان او بعير او شاة او كلب، او صُبَّ فيه خمر او غير ذلك من النجاسات، فانه يستحب مؤكداً ان ينزح منها مقدار من الماء يناسب حجم النجاسـة التي وقعت فيهـا، حتى يرتفع الاستقذار العـرفي عنها، بل لا يترك الاحتياط بنزح دلاءٍ منها اذا اريد استعمـالهـا في الشرب، خصوصـاً مع وقوع الخمر والميت المتلاشي فيهـا. كل ذلك اذا لم يتغير الماء بالنجاسة وإلاّ فانه نجس مادام التغيـير باقيـاً.
2- اذا صبّت نجاسة في بئر فغيرت لونه او رائحته او طعمه ثم زال ذلك التغيير، فان ماء البئر يطهر مرة ثانية وان لم ينزح منه شيء.
4- ماء الكر
السنة الشريفة:
1- روى أبو بصير انه سأل الامام أبا عبد اللـه الصادق عليه السلام عن الكر من الماء كم يكون قدره؟ فقال: "اذا كان الماء ثلاثة اشبار ونصف في مثله ثلاثة اشبار ونصف في عمقه في الارض، فذلك الكر من الماء". ([24])
2- وروي ان الكر هو ما يكون ثلاثة اشبار طولا، في ثلاثة اشبار عرضاً، في ثلاثة اشبار عمقـاً". ([25])
3- وقال الامام الصادق عليه السلام: "الكر من الماء الذي لا ينجسه شيء الف ومائتا رطل ". ([26])
4- وقال ايضاً: "اذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء". ([27])
5- قال شهاب بن عبد ربّه: أتيتُ أبا عبد اللـه عليه السلام أسأله، فابتدأني فقال: إن شئت فسل يا شهاب، وإن شئت اخبرناك بما جئت له. قلت: اخبرني. قال: جئت تسألني عن الغدير يكون في جانبه الجيفة، أتوضأ منه او لا؟ قلت: نعم. قال: توضأ من الجانب الآخر، الا أن يغلب الماء الريح فينتن، وجئت تسأل عن الماء الراكد من الكر مما لم يكن فيه تغيّر او ريح غالبة. قلت: فما التغيّر؟ قال: الصفرة، فتوضأ منه وكلّما غلب كثرة الماء فهو طاهر. ([28])
تفصيل القول:
الكر مكيال كان الناس يستخدمونه في العصور السابقة. ويرى اللغوي المعروف لويس معلوف: انه عبراني. ([29])
واصل الكلمة يعني البئر، ويبدو ان المزارعين كانوا يكيلون انتاجهم بحفرة يحفرونها في الارض شبيهة بالبئر.
وبالرغم من اختلاف الفقهاء في تحديد الكر، الا ان التحديد لم يكن بالدقة الحسابية بل بالمنهج العرفي.. فهو في اقل مقاديره سبعة وعشرون شبراً مكعباً. وفي اكثر مقاديره حوالي ثلاثة واربعين شبراً مكعباً. وهذا يعني كفاية المقدار الاقل أما المقدار الاكبر فهو الافضل، ولأن الاشبار مختلفة الطول فالمرجع هو الشبر المتوسط.
ويبدو ان اصل الكر كان اسطواني الشكل كهيئة البئر، وقد جاءت التحديدات الشرعية على اساس تلك الهيئة الاسطوانية. فاذن؛ اذا اردت معرفة مقدار الكر في ظرف مدور ([30]) فما عليك إلاّ ان تقيس قطره وعمقه، فاذا كان كل منهما اكثر من ثلاثة اشبار ونصف كفى.
واذا كانت الهيئة غير اسطوانية (مثل حوض مربع الشكل) فيكفي ان يكون كل من الطول والعرض والعمق ثلاثة اشبار.
واذا اضفت نصف شبر الى كل من التقديرين كان اوفق للاحتياط واقرب الى الطهر، ولكنه غير واجب.