في عصر معاوية انتشر اصحاب الرسول ـ المستضعفون في الارض الذين كانوا قد التفوا حول علي في عصره ((855)) ـ في البلاد بعد عام الجماعة , والتف المسلمون حولهم في كل مكان يستمعون
الى احاديثهم وياخذون منهم معالم دينهم , وكان الحديث يوم ذاك يدور في اندية المسلمين عن صفين ,
والجمل , والفتنة في عصر عثمان , وفي كله ذم لامية , وعن الفتوح في عصر الخليفتين , وجل ما فيه
مـن المدح لغير امية , ويتبارى اصحاب الرسول في ذكر غزواته وحروبه , وتعذيب قريش اياهم ,
وهـنالك تخشع النفوس , وتستمع الى الحديث باجلال واكبار والحديث هذا ـ كما ذكرنا ـ كله مجد
لـهـاشـم , وفـي جله ذم لامية , فانهم كانوا يذكرون للناس ((856)) غزوة بدر, وكيف قتلوا جد
مـعـاويـة وخـالـه واخـاه وغـيرهم من افراد اسرته , وكيف سبوا فيها من سبوا من اهله وذويه ,
ويـذكرون غزوة احد, وكيف بقرت هند عن كبد حمزة ولا كته , وكيف نادى ابو سفيان فيها: اعل
هـبل , وينشدون شعر حسان في هند, وما هجاها به , وما كانوا يغمزون من نسب معاوية ويذكرون
اسـلام ابـي سـفـيان وبنيه , وكيف الف النبي قلوبهم على الاسلام بالمال في حنين , ويذكرون ان ابا
سفيان لم يكن مخلصا في اسلامه , فقد قال بعد اسلامه : لو عاودت الجمع لهذا الرجل وقال في حنين :
لا تـنـتـهـي هـزيمتهم دون البحر وقال يوم اليرموك حين راى فرار المسلمين : ايه بني الاصفر وعندما ركبهم المسلمون : ويح بني الاصفر وبنو الاصـفر الكرام ملوك
الــروم لم يبق منهم مذكـور.
كـل هـذا يـجري في سلطان معاوية والعربي في الجزيرة كان لا يعنى بشي ء عنايته بالتغني بامجاد
القبيلة , ينفق ما عز وغلا في سبيل نشر مثرها, وهذا ما لم يمح اثره الاسلام , وانما خففه في نفوس
النزر اليسير من معتنقيه , ولم يكن معاوية من ذلك النزر اليسير, فانه لم يتطبع بالخلق الاسلامي في
مـدة مـكـثـه القصيرة , بالمدينة , وكيف يكون غير هذا وقد رايناه في ايام امارته بالشام ياكل الربا,
ويـحـمل اليه روايا الخمر, ويتلاعب باموال المسلمين , ويقوم الخطيب ويمدحه في وجهه , ويعقد
المجالس للمفاخرة , ويقول في بعضها: قد عرفت قريش ان ابا سفيان كان اكرمها وابن اكرمها الا ما
جـعـل اللّه لـنـبـيه (ص ) فانه انتخبه واكرمه , واني لاظن ابا سفيان لو ولد الناس كلهم لم يلد الا
حازما ((857)) .
ارايـت مـفاخرة ابعد من هذه في التيه اكرمها وابن اكرمها لولا نبوة النبي كـانت حدود مفاخرته ابعد مدى من هذه واشد, فقد اجمتعت لديه يومذاك الى داعي المفاخرة دواع
اخرى , كانت في حسابه اهم من دواعي التغني بامجاد القبيلة , فانه قد اصبح ملكا يبذل قصارى جهده
في تثبيت ملكه وترسيخ اساسه , وكيف يتم له ذلك وفي المسلمين من يقول له في وجهه مقال صعصعة
بـن صوحان العبدي : ولقد كنت انت وابوك في العير والنفير ممن اجلب على رسول اللّه (ص ) انما
انت طليق وابن طليق اطلقكما رسول اللّه , فانى تصح الخلافة لطليق ((858)) ؟.
ومقال عبدالرحمن بن غنم الاشعري لابي هريرة وابي الدرداء عندما ارسلهما معاوية الى علي :.
واي مـدخـل لـمـعـاوية في الشورى رؤوس الاحزاب ((859)) , وكيف يستقر له الامر بعد قول عمر:.
هذا الامر في اهل بدر ما بقي منهم احد ثم في اهل احد, ثم في كذا وكذا, وليس فيها لطليق ولا لولد
طليق ولا لمسلمة الفتح ((860)) .
وقـول عـلـي فـيه : وخلاف معاوية اياي الذي لم يجعل اللّه له سابقة في الدين , ولا سلف صدق في
الاسلام , طليق ابن طليق , وحزب من الاحزاب , لم يزل للّه ولرسوله وللمسلمين عدوا هو وابوه ,
حتى دخلا في الاسلام كارهين مكرهين ((861)) .
وقـال لـه : واعـلم انك من الطلقاء الطين لاتحل لهم الخلافة ولا تعقد معهم الامامة ولا يدخلون في
الشورى ((862)) .
ومقال عبداللّه بن بديل يوم صفين فيه :.
ان مـعـاويـة ادعى ما ليس له , ونازع الامر اهله , ومن ليس مثله الى قوله : قاتلوا الفئة الباغية الذين
نازعوا الامر اهله , وقد قاتلتهم مع النبي (ص ), واللّه ما هم في هذه بازكى ولا اتقى , ولا ابر منها,
قوموا الى عدو اللّه , وعدوكم , رحمكم اللّه ((863)) .
ومقال عمار فيها: يا اهل الاسلام على المسلمين , وظاهر المشركين , فلما اراد اللّه ان يظهر دينه , وينصر رسوله , اتى النبي فاسلم ,
وهـو واللّه فـيـما يرى راهب غير راغب , وقبض اللّه ورسوله (ص ) وانا واللّه لنعرفه بعداوة
المسلم , ومودة المجرم ؟ الا وانه معاوية , فالعنوه , لعنه اللّه , وقاتلوه ممن يطفى ء نور اللّه , ويظاهر
اعداء اللّه ((864)) .
ومـقـال الاسـود بـن يـزيـد لعائشة : الا تعجبين من رجل من الطلقاء ينازع اصحاب رسول اللّه في
الـخـلافة ؟ مصر اربعمائة سنة , وكذلك غيره من الكفار ((865)) .
وكـتب اليه الحسن : فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية فـي الدين معروف , ولا اثر في الاسلام محمود, وانت ابن حزب من الاحزاب , وابن اعدى قريش
لرسول اللّه , ولكتابه ((866)) .
وقال له : شعبة بن غريض .
انك كنت ميت الحق في الجاهلية , وميته في الاسلام اما في الجاهلية , فقاتلت النبي والوحي حتى جعل
اللّه كيدك المردود, واما في الاسلام , فمنعت ولد رسول اللّه (ص ) الخلافة , وما انت وهي طليق ابن طليق ((867)) .
كيف يستقر له الملك وهذه اقوال ائمة المسلمين فيه ؟ باكثر من قولها: ان ذلك سلطان اللّه يؤتيه البر والفاجر.
كـيـف يـسـتـقـر لـه الملك , ويتم له ما يريد من جعل الخلافة وراثة في عقبه ؟ وهذه اقوال ائمة
الـمسلمين فيه , وفي المسلمين الحسن والحسين , وارثا مجد هاشم , وسبطا الرسول , وقد خصهما
الـمـسلمون بالحب والاكبار؟ يـصـرف الـمسلمين عن بيت علي خاصة الى بيته , بيت امية , فاعلن على هذا البيت واشياعه وتابعيه
حربا يشيب من هولها الوليد, وبذل في سبيل هذه الحرب ما ملك من مكر ودهاء, ومال وقوة , ولما لم
تـكن له سابقة حسنة في الاسلام ليتشبث بها فيما يريد, لم يكن له بد من التذرع بدم عثمان للوصول
الى ما يروم .
روى الطبري ((868)) وقال : استعمل معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة احدى واربعين ,
فـلـمـا امـره عليها دعاه وقال له : وقد اردت ايصاءك باشياء كثيرة انا تاركها اعتمادا على بصرك ,
ولست تاركا ايصاءك بخصلة , لا تترك شتم علي وذمه , والترحم على عثمان والاستغفار له , والعيب
لاصـحـاب عـلـي والاقصاء لهم , والاطراء لشيعة عثمان والادناء لهم , فقال له المغيرة : قد جربت
وجربت , وعملت قبلك لغيرك , فلم يذممني , وستبلو فتحمد او تذم , فقال : بل نحمد ان شاء اللّه .
وروى المدائني في كتاب الاحداث وقال : كتب معاوية نسخة واحدة الى عماله ـ بعد عام الجماعة ـ
ان برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل ابي تراب واهل بيته , وكان اشد البلاء حينئذ اهل الكوفة .
وكـتـب مـعاوية ((869)) الى عماله في جميع الافاق الا يجيزوا لاحد من شيعة علي واهل بيته
شـهـادة , وكـتب اليهم ان انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه , واهل ولايته , والذين يروون
فـضائله ومناقبه , فادنوا مجالسهم وقربوهم , واكرموهم , واكتبوا الي بكل ما يروي كل رجل منهم ,
واسـمـه , واسم ابيه , وعشيرته , ففعلوا ذلك حتى اكثروا في فضائل عثمان ومناقبه , لما كان يبعث
الـيهم معاوية من الصلات , والكساء والحباء والقطايع , ويفضيه في العرب منهم والموالي , فكثر ذلك
فـي كـل مـصـر, وتـنافسوا في المنازل والدنيا فليس يجي ء احد مردود من الناس عاملا من عمال
معاوية , فيروي في عثمان فضيلة او منقبة الاكتب اسمه وقربه وشفعه , فلبثوا بذلك حينا, ثم كتب
الـى عـمـاله ان الحديث في عثمان قد كثر, وفشا في كل مصر, وفي كل وجه وناحية , فاذا جاءكم
كتابي هذا فادعوا الناس الى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الاولين , ولا تتركوا خبرا يرويه
احـد مـن الـمـسلمين في ابي تراب الا واتوني بمناقض له في الصحابة فان هذا احب الي واقر الى
عـيني , وادحض لحجة ابي تراب وشيعته , واشد عليهم من مناقب عثمان وفضله فقرئت كتبه على
الـنـاس , فـرويـت اخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها, وجرى الناس في رواية ما
يجري هذا المجرى حتى اشادوا بذكر ذلك على المنابر, والقي الى معلمي الكتاتيب , فعلموا صبيانهم
وغـلـمـانهم من ذلك الكثير الواسع , حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن , وحتى علموه بناتهم
ونساءهم وخدمهم وحشمهم , فلبثوا بذلك الى ما شاء اللّه , فظهرت احاديث كثيرة موضوعة , وبهتان
منتشر, ومضى على ذلك الفقهاء, والقضاة والولاة ) الحديث ((870)) .
وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه ـ وهو من اكابر المحدثين واعلامهم ـ في تاريخ ما يناسب
هـذا الـخبر وقال : ان اكثر الاحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في ايام بني امية تقربا
اليهم بما يظنون انهم يرغمون به انوف بني هاشم ((871)) .
وكـانت لمعاوية قبل هذا سابقة في الوضع والدس , ومنها ما روى الطبري عنه , انه لما ايس معاوية
مـن قيس ان يتابعه على امره , شق عليه ذلك , لما يعرف من حزمه وباسه , واظهر للناس قبله : ان قيس
بـن سـعـد قد تابعكم , فادعوا اللّه له , واختلق معاوية كتابا من قيس بن سعد, فقراه على اهل الشام ,
وهو:.
(بـسم اللّه الرحمن الرحيم : للامير معاوية بن ابي سفيان من قيس بن سعد: سلام عليك , فاني احمد
الـيـكـم اللّه الذي لا اله الا هو, اما بعد: فان قتل عثمان كان حدثا في الاسلام عظيما, وقد نظرت
لـنـفـسي وديني , فلم ار يسعني مظاهرة قوم قتلوا امامهم مسلما محرما برا تقيا, فنستغفر اللّه عز
وجـل لـذنوبنا, ونساله العصمة لديننا, الا واني قد القيت اليكم بالسلام ((872)) واني اجبتك الى
قـتـال قـتلة عثمان (رض ), امام الهدى المظلوم , فعول علي فيما احببت من الاموال , والرجال اعجل
عليك والسلام ) ((873)) .
هـكذا كان معاوية لا يتحرج من الكذب والاختلاق فيما فيه تاييد لسياسته , ويوم امتد سلطانه وعم
البلاد والعباد, وازدادت حاجته الى الوضع والاختلاق , استمد في ذلك من غيره .
وفـي هـذه الـحرب ـ حرب الدعاية , ومسابقة وضع الحديث لذم جماعة ومدح آخرين ـ استجاب
لمعاوية جماعة من الصحابة نظراء المغيرة بن شعبة , وعمرو بن العاص , وسمرة بن جندب , وابي
هريرة من طلاب الامرة , والمال ممن كان في دينه رقة , وفي نفسه ضعف .
روى ابـن ابي الحديد ((874)) عن ابي جعفر الاسكافي وقال : ان معاوية وضع قوما من الصحابة
وقوما من التابعين على رواية اخبار قبيحة في علي (ع ) تقتضي الطعن فيه والبراءة منه , وجعل لهم
على ذلك جعلا يرغب في مثله , فاختلقوا ما ارضاه منهم ابو هريرة , وعمرو بن العاص , والمغيرة بن
شعبة , ومن التابعين عروة بن الزبير, روى الزهري : ان عروة بن الزبير حدثه قال :.
حـدثتني عائشة , قالت : كنت عند رسول اللّه اذ اقبل العباس وعلي , فقال : يا عائشة على غير ملتي , او قال : ديني .
وروى عـبـدالرزاق عن معمر قال : كان عند الزهري حديثان عن عروة عن عائشة في علي (ع )
فـسـالته عنهما يوما, فقال : ما تصنع بهما وبحدثيهما؟ اللّه اعلم بهما اني لاتهمها في بني هاشم فاما الحديث الاول , فقد ذكرناه , واما الحديث الثاني فهو ان عروة زعم ان عائشة حدثته قالت : كنت
عند النبي (ص ) اذ اقبل العباس وعلي , فقال : يا عائشة فانظري الى هذين قد طلعا, فنظرت فاذا العباس وعلي بن ابي طالب .
وامـا عـمـرو بـن الـعـاص , فقد روى فيه الحديث الذي اخرجه البخاري ((875)) ومسلم في
صـحـيـحـيـهـما مسندا متصلا بعمرو بن العاص , قال : سمعت رسول اللّه يقول ـ جهارا غير سر
ـ ((876)) ان آل ابي طالب ليسوا لي باولياء, انما وليي اللّه , وصالح المؤمنين .
وفي البخاري بعده بطريق آخر عنه : ولكن لهم رحم ابلها ببلالها ـ يعني اصلهما بصلتها انتهى .
وامـا ابو هريرة , فقد روى الاعمش وقال : لما قدم ابو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة , جاء
الى مسجد الكوفة , فلما راى كثرة من استقبله من الناس , جثا على ركبتيه , ثم ضرب صلعته مرارا,
وقـال : يا اهل العراق سمعت رسول اللّه (ص ) يقول : ان لكل نبي حرما وان حرمي بالمدينة ما بين عير الى ثور ((877))
فـمن احدث فيها حدثا, فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس اجمعين , واشهد باللّه ان عليا احدث فيها
فلما بلغ معاوية قوله , اجازه , واكرمه , وولاه المدينة .
وامـا سـمرة فقد قال ابو جعفر شيخ ابن ابي الحديد فيه : قد روى ان معاوية بذل لسمرة بن جندب
مائة الف درهم حتى يروي ان هذه الاية نزلت في علي (ع ) (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة
الـدنـيـا ويشهد اللّه على ما في قلبه وهو الد الخصام واذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك
الـحـرث والنسل واللّه لا يحب الفساد) وان الاية الثانية نزلت في ابن ملجم وهي قوله تعالى : (ومن
الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات اللّه ) ((878)) , فلم يقبل , فبذل له مائتي الف درهم , فلم يقبل ,
فبذل له اربعمائة الف درهم فقبل ((879)) .
اسـتـجـاب لمعاوية جمع من الصحابة والتابعين , فاصابوا من دنيا معاوية العريضة وخالفه آخرون ,
فـاصـابـهـم الـتشريد والتقتيل , ووقعت بين الطرفين معارك ضارية كانت نتائجها آلاف الاحاديث
الموضوعة التي ورثناها اليوم من جانب , وآلاف الضحايا البريئة من خيار المسلمين .
وكان سمرة هذا ممن امتثل اوامر معاوية , فاصاب الامرة في البصرة فاسرف في قتل من خالفه .
روى الـطبري ((880)) وقال : سئل ابن سيرين : هل كان سمرة قتل احدا؟ فقال : وهل يحصى من
قـتـل سـمرة بن جندب ؟ الناس , وروى انه قتل في غداة واحدة سبعة واربعين كلهم قد جمع القرآن .
وقال : مات زياد وعلى البصرة سمرة بن جندب فاقره معاوية اشهرا ثم عزله , فقال سمرة : لعن اللّه
معاوية , واللّه لو اطعت اللّه كما اطعت معاوية ما عذبني ابدا ((881)) .
وكان منهم المغيرة بن شعبة , فانه اقام سبع سنين واشهرا في الكوفة لا يدع شتم علي والوقوع فيه ,
والعيب لقتله عثمان , واللعن لهم , والدعاء لعثمان بالرحمة , والاستغفار له , والتزكية لاصحابه , غير
ان المغيرة كان يداري , فيشتد مرة , ويلين اخرى .
روى الـطـبـري ((882)) : ان الـمغيرة بن شعبة قال لصعصعة بن صوحان العبدي , وكان المغيرة
يومذاك اميرا على الكوفة من قبل معاوية : (اياك ان يبلغني عنك انك تعيب عثمان عند احد من الناس ,
وايـاك ان يـبـلغني عنك انك تذكر شيئا من فضل علي علانية , فانك لست بذاكر من فضل علي شيئا
اجـهـلـه بل انا اعلم بذلك , ولكن هذا السلطان قد ظهر, وقد اخذنا باظهار عيبه للناس , فنحن ندع
كـثـيـرا مما امرنا به , ونذكر الشي ء الذي لا نجد منه بدا ندفع به هؤلاء القوم عن انفسنا تقية , فان
كـنـت ذاكرا فضله , فاذكره بينك وبين اصحابك وفي منازلكم سرا, واما علانية في المسجد, فان
هذا لا يحتمله الخليفة لنا ولا يعذرنا فيه ) الحديث .
وامـا زيـاد, فانه كان اشد من غيره من ولاة معاوية في هذا الامر, وقد سبق ذكر قصته مع حجر,
ومن قصصه في هذه المعركة ايضا ما وقع بينه وبين صيفي ابن فسيل , فانه امر فجي ء به اليه , فقال
لـه : يا عدو اللّه قـال : امـا تـعرف علي بن ابي طالب فقال : ما قولك في علي ؟ قال : احسن قول انا قائله في عبد من عبيد اللّه اقوله في امير المؤمنين , قال :
اضـربـوا عـاتـقـه بالعصا حتى يلصق بالارض , فضرب حتى الصق بالارض , ثم قال : اقلعوا عنه ,
فـتـركـوه , فقال له : ايه سـمـعـت مـني , قال لتلعننه او لاضربن عنقك , قال : اذا واللّه تضربها قبل ذلك , فاسعد وتشقى , قال :
ادفعوا في رقبته , ثم قال : اوقروه حديدا واطرحوه في السجن , ثم قتل مع حجر ((883)) .
وكتب الى معاوية في رجلين حضرميين ((884)) انهما على دين علي ورايه , فاجابه : من كان على
دين علي ورايه , فاقتله , ومثل به , فصلبهما على باب دارهما بالكوفة ((885)) .
كما امره بدفن الخثعمي (الذي مدح عليا وعاب عثمان ) حيا, فدفنه حيا ((886)) .
وخـتـم حـياته بما ذكره المسعودي , وابن عساكر, قال ابن عساكر: جمع اهل الكوفة فملا منهم
المسجد والرحبة والقصر, ليعرضهم على البراءة من علي وقال المسعودي ((887)) : وكان زياد
جـمع الناس بالكوفة بباب قصره يحرضهم على لعن علي , فمن ابى ذلك عرضه على السيف ثم ذكر
انه اصيب بالطاعون في تلك الساعة فافرج عنهم .
وكـان عـمـرو بـن الـحـمق الخزاعي ممن اصابه التشريد والقتل في هذه المعركة , فانه فر الى
الـبـراري , فـبـحثوا عنه حتى عثروا عليه , فحزوا راسه , وحملوه الى معاوية , فامر بنصبه في
الـسـوق , ثـمـ بـعـث بـراسه الى زوجته في السجن ـ وكان قد سجنها في هذا السبيل ـ فالقي في
حجرها ((888)) .
عـمـت هـذه السياسة البلاد الاسلامية , واتبعها ونفذها غير من ذكرنا من الامراء ايضا, كبسر بن
ارطـاة فـي ولايته البصرة , وابن شهاب في الري ((889)) فقد كانت لهم قصص في ذلك ذكرها
الـمـؤرخـون , ثم اصبحت هذه سياسة بن امية التقليدية , ولعن علي بن ابي طالب على منابر الشرق
والغرب ما عدا سجستان , فانه لم يلعن على منبرها الا مرة , وامتنعوا على بني امية , حتى زادوا في
عهدهم ان لا يلعن على منبرهم احد في حين كان يلعن على منبر الحرمين ((890)) .
وقد كانوا يلعنون عليا على المنابر بمحضر من اهل بيته , وقصصهم في ذلك كثيرة نكتفي منها بذكر
واحدة اوردها ابن حجر ((891)) في تطهير اللسان , وقال : ان عمرا صعد المنبر فوقع في علي ,
ثـمـ فعل مثله المغيرة بن شعبة , فقيل للحسن : اصعد المنبر لترد عليهما, فامتنع الا ان يعطوه عهدا
انـهـم يـصدقوه ان قال حقا, ويكذبوه ان قال باطلا, فاعطوه ذلك , فصعد المنبر, فحمد اللّه واثنى
عـلـيـه , ثـمـ قال : انشدك اللّه يا عمرو احدهما فلان , قالا: بلى , ثم قال : يا معاوية قالها لعنة , قالا: اللّه م بلى ) الحديث .
ولما كان الناس لا يجلسون لاستماع خطبهم لما فيها من احاديث لا يرتضونها, خالفوا السنة وقدموا
الخطبة على الصلاة قال ابن حزم في المحلى ((892)) :.
احدث بنو امية تقديم الخطبة على الصلاة , واعتلوا بان الناس كانوا اذا صلوا تركوهم , ولم يشهدوا
الخطبة , وذلك لانهم كانوا يلعنون علي بن ابي طالب (رض ) فكان المسلمون يفرون , وحق لهم ذلك .
وفي الصحيحين ((893)) وغيرهما عن ابي سعيد الخدري قال :.
خرجت مع مروان وهو امير المدينة ـ في اضحى او فطر ـ فلما اتينا المصلى اذا منبر بناه كثير بن
الـصـلـت , فاذا مروان يريد ان يرتقيه قبل ان يصلي , فجبذت بثوبه , فجبذني , فارتفع , فخطب قبل
الصلاة , فقلت له : غيرتم واللّه .
فـقـال : يـا ابا سعيد يجلسون لنا بعد الصلاة , فجعلتها قبل الصلاة .
وكانوا لا يكتفون بذلك , بل يامرون الصحابة به ايضا, ففي صحيح مسلم ((894)) .
وغيره عن سهل بن سعد قال :.
اسـتعمل على المدينة رجل من آل مروان , فدعا سهل بن سعد, فامره ان يشتم عليا, فابى سهل , فقال
له : اما اذا ابيت فقل : لعن اللّه ابا التراب , فقال سهل : ما كان لعلي اسم احب اليه من ابي التراب , وان كان
لـيفرح اذا دعي بها, فقال له : اخبرنا عن قصته , لم سمي ابا تراب ؟ قال : جاء رسول اللّه (ص ) بيت
فاطمة , فلم يجد عليا في البيت , فقال : اين ابن عمك ؟ فقالت : كان بيني وبينه شي ء, فغاضبني , فخرج ,
فـلـم يقل عندي , فقال رسول اللّه (ص ) لانسان : انظر اين هو؟ فجاء, فقال : يا رسول اللّه الـمـسـجد راقد, فجاءه وهو مضطجع , وقد سقط رداءه عن شقه فاصابه تراب , فجعل رسول اللّه
(ص ) يمسحه عنه , ويقول : قم ابا التراب , قم ابا التراب .
وعن عامر بن سعد بن ابي وقاص , قال : امر معاوية سعدا, فقال : ما منعك ان تسب ابا التراب ؟ فقال : اما
ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول اللّه (ص ) فلن اسبه , لان تكون لي واحدة منهن احب الي من حمر النعم
.
سمعت رسول اللّه (ص ) يقول له وقد خلفه في بعض مغازيه , فقال له علي : يا رسول اللّه الـنـساء والصبيان ؟ فقال له رسول اللّه (ص ): اما ترضى ان تكون مني بمنزلة هارون من موسى الا
انـه لا نـبوة بعدي , وسمعته يقول يوم خيبر: لاعطين الراية رجلا يحب اللّه ورسوله ويحبه اللّه
ورسـوله , قال : فتطاولنا لها, فقال : ادعوا لي عليا فاتي به ارمد, فبصق في عينه , ودفع الراية اليه ,
ففتح اللّه عليه , ولما نزلت هذه الاية : (فقل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ) دعا رسول اللّه (ص ) عليا,
وفاطمة , وحسنا, وحسينا, فقال : اللّه م ((895)) .
ورواه الـمسعودي ((896)) عن الطبري هكذا: قال : لما حج معاوية طاف بالبيت ومعه سعد, فلما
انـصرف معاوية الى دار الندوة , اجلسه معه على سريره , ووقع في علي , وشرع في سبه , فزحف
سـعـد, ثـم قال : اجلستني معك على سريرك ؟ ثم شرعت في سب علي ؟ واحـدة من خصال على احب الى ثم ساق الحديث باختلاف يسير وذكر في آخره انه قال : وايم اللّه
لادخلت لك دارا ما بقيت ثم نهض .
امـا ابـن عـبد ربه فقد اورده باختصار في اخبار معاوية من العقد الفريد ((897)) قال : ولما مات
الـحـسن بن علي , حج معاوية , فدخل المدينة , واراد ان يلعن عليا على منبر رسول اللّه (ص ) فقيل
لـه : ان هـهـنا سعد بن ابي وقاص لا نراه يرضى بهذا, فابعث اليه وخذ رايه , فارسل اليه وذكر له
ذلـك , فـقال : ان فعلت لاخرجن من المسجد, ثم لا اعود اليه , فامسك معاوية عن لعنه حتى مات سعد,
فـلـمـا مات لعنه على المنبر, وكتب الى عماله ان يلعنوه على المنابر, ففعلوا, فكتبت ام سلمة زوج
الـنـبـي (ص ) الـى معاوية انكم تلعنون اللّه ورسوله على منابركم , وذلك انكم تلعنون علي بن ابي
طالب , ومن احبه , وانا اشهد اللّه ان اللّه احبه , ورسوله , فلم يلتفت الى كلامها, انتهى .
كـان مـعـاوية ذا نفسية معقدة بما كان يغمز عليه من نسبه , ويعاب عليه من مواقف بيته من الاسلام
وزاده تـعقيدا ما كان يرى من اذلال الاسلام بيته الرفيع في الجاهلية , وما وصمه النبي ووصم اباه
واخـاه بـانهم الطلقاء, وكان يزيده تعقيدا على تعقيد ما كان يرى من ارتفاع ذكر بني هاشم , وخلوده
عـبـقـا ابـد الدهر في حين كان يرى خمول ذكر ابيه وسائر ابناء بيته , وكان ما ذكرنا من مواقف
الـصـحابة وخيار المسلمين يزيد في نار حقده تاججا حين لا يستطيع ابراز دخيلة نفسه حتى اذا
خلا بالمغيرة ذات ليلة كشف له عن سره المكتوم .
روى زبير بن بكار في كتابه (الموفقيات ) عن مطرف بن المغيرة بن شعبة انه قال :ـ وفدت مع ابي
الـمـغـيـرة الـى معاوية فكان ابي ياتيه يتحدث عنده ثم ينصرف الي , فيذكر معاوية , ويذكر عقله ,
ويعجب مما يرى منه , اذ جاء ذات ليلة , فامسك عن العشاء, فرايته مغتما فانتظرته ساعة , وظننت انه
لشي ء حدث فينا او في عملنا, فقلت له : مالي اراك مغتما منذ الليلة قال : يا بني اني جئت من عند اخبث
الـنـاس , قـلـت لـه : وما ذاك ؟ قال : قلت له , وقد خلوت به : انك قد بلغت مناك يا امير المؤمنين اظـهـرت عـدلا, وبـسـطت خيرا, فانك قد كبرت , ولو نظرت الى اخوتك من بني هاشم فوصلت
ارحـامـهم , فواللّه ما عندهم اليوم شي ء تخافه فقال لي : هيهات فعل , فواللّه ماغدا ان هلك , فهلك ذكره الا ان يقول قائل : ابو بكر, ثم ملك اخو عدي فاجتهد وشمر
عـشـر سنين , فواللّه ما غدا ان هلك فهلك ذكره الا ان يقول قائل : عمر, ثم ملك اخونا عثمان فملك
رجل لم يكن احد في مثل نسبه فعمل ما عمل , وعمل به , فواللّه ما غدا ان هلك فهلك ذكره , وذكر ما
فـعل , وان اخا هاشم يصرخ به في كل يوم خمس مرات : اشهد ان محمدا رسول اللّه , فاي عمل يبقى
مع هذا لا ام لك ((898)) .
وكان معاوية يرغب اشد الرغبة في ان لايبقى من بني هاشم نافخ نار على ما وصفه علي في قوله :.
واللّه لود معاوية انه ما بقي من بني هاشم نافخ ضرمة الا طعن في بطنه اطفاء لنور اللّه , ويابى اللّه
الا ان يتم نوره ولو كره الكافرون ((899)) .
وحـيث لم يتات له ذلك جد في اطفاء ذكرهم , وحشر جنوده لوضع احاديث في ذمهم ودفع ما وصم
بـه بـيـته , فان ورد عن الرسول احاديث في لعنه , ولعن ابيه , ولعن آل ابيه , وغيرهم من بني امية ,
كالحكم بن ابي العاص , وامثاله , فليتحدث الناس ان الرسول قد قال : اللّه م انما انا بشر فاي المسلمين
لعنته , او سببته فاجعله له زكاة وطهورا ((900)) .
ان هذا الحديث وامثاله سلاح ذو حدين في صالح معاوية فانه حين يرحض عن اسرته ما وصموا به ,
يـضـع مـن رسـول اللّه , ويجعله في عداد من لا يملكون انفسهم عند الغضب خلافا لقول اللّه فيه ,
(وانـك لعلى خلق عظيم ) وقوله فيه : (ولا ينطق عن الهوى ), وقد فات قصد معاوية عن كثير من
الـمسلمين , فجاروه فيما يريد, وهو اذ لم يستطع اظهار دخيلة نفسه عن الرسول فانه استطاع ان
يعلنها صريحة سافرة في مجالات اخرى كالدفاع عن عثمان وذويه وسياسته , والحط من علي وآله
واشياعه وسياسته , على ما سبق منا الاشارة اليه آنفا, وكان معاوية شديدا على من لم يجاره في هذه
السياسة , يذيقهم الهوان , ويصلبهم , ويدفنهم احياء, وقد عاصرته ام المؤمنين , وكانت مرعية الجانب
فـي بـادئ عـهـده , وكـانا على وفاق تام في حرب علي , اما موقفها من سياسته في معركة التحديث
خـاصة , فيكشفها لنا اولا قول حكيم بن افلح لسعد بن هشام عندما طلب سعد من حكيم ان يذهب معه
الـى عـائشـة فقال حكيم : ما انا بقاربها اني نهيتها ان تقول في هاتين الشيعتين شيئا فابت هي الا مضيا
الحديث ((901)) ثانيا حديثها الاتي في عثمان .
حديثها في عثمان :
.
في مسند احمد عن النعمان بن بشير قال : (كتب معاوية كتابا الى عائشة قال :.
فـقدمت على عائشة , فدفعت اليها كتاب معاوية , فقالت : يا بني الا احدثك بشي ء سمعته من رسول اللّه
(ص ), قـلـت : بلى , قالت : فاني كنت انا وحفصة يوما ذاك عند رسول اللّه (ص ) فقال : لو كان عندنا
رجـل يـحـدثـنا, فقلت : يا رسول اللّه الا ابعث لك الى ابي بكر؟ فسكت , ثم قال : لو كان عندنا رجل
يـحـدثنا, فقالت حفصة : الا ارسل لك الى عمر؟ فسكت , ثم قال : لا, ثم دعا رجلا فساره بشي ء فما
كان الا ان اقبل عثمان , فاقبل عليه بوجهه , وحدثه , فسمعته يقول له : يا عثمان ان اللّه عزوجل لعله
يقمصك قميصا فان ارادوك على خلعه فلا تخلعه (ثلاث مرات ) فقلت : يا ام المؤمنين هذا الحديث ((902)) فقالت : يا بني واللّه لقد انسيته حتى ما ظننت اني سمعته ((903)) انتهى .
فـي هـذا الحديث كتاب من معاوية الى عائشة , ثم رواية من عائشة عن النبي انه كان قد اوصى الى
عـثمان الا يخلع نفسه عن الخلافة , فما علاقة كتاب معاوية بحديث ام المؤمنين هذا؟ قـد طـلب منها في الكتاب ان تدافع عن عثمان ؟ الـحـديـث ؟ ام مـاذا وايا ماكان الامر, فان هذا الحديث ونظائره الاتية في باب احاديثها, واحاديثها
الـلاتي تتضمن فضائل ابيها ابي بكر, والخليفة عمر, وابن عمها طلحة , وامثالهم تجعلها على راس
مـن ارضـى مـعاوية في سياسته في الحديث , ولابد انها كانت في نشر فضائل ذويها واشياعهم اشد
اهتماما من غيرها, اذ (ليست الثكلى كالمستاجرة ) ((904)) ونحن اليوم لايهمنا نشر فضائل هذا
او ذاك , ولا بث مثالب غيرهم , وانما يهمنا من هذه الاحاديث ما سنذكره في خاتمة البحث .
.
خاتمة البحث :.
الـمـمـنـا بـحـياة ام المؤمنين عائشة (رض ) تمهيدا لدراسة احاديثها, فوجدناها حكيمة في قيادة
الجيوش , قديرة على تهديم الحكم القائم متى ما شاءت تهديمه , ذات حنكة في فنون السياسة , خبيرة
بـمـا يـؤثر في النفوس , وكانت الى ذلك اطوع الناس في الناس , وكانت متهالكة في بر ذوي قرباها
وحـفظ مصالحهم , شديدة في نقمتها على خصومها, فذة في حدة طبعها, رقيقة احساساتها, وكان في
طبعها طموح الى بلوغ القمة من كل شي ء, وكانت تحطم كل ما يقف في سبيلها.
هـذه اهم مناحي عظيمة ام المؤمنين , وليس لنا ان نصف لها من العظمة مالم تتصف به , كما ليس لنا ان
نختلق للشاعر الملهم بطولات لم تكن فيه , وللعالم المدرك فنا لم يكن له ولا لام المؤمنين اولادا لم
تـنـجـبـهـم مـن الرسول , بل علينا ان نعرف ام المؤمنين كما كانت , ونعرف غيرها من الشخصيات
الاسـلامـيـة كما كانوا, وليس لنا ان نصف لهم ما لم يكن فيهم لانا احببنا لهم ذلك الممنا بنواحي من
حـيـاة ام الـمؤمنين , فوجدناها من عظيمات النساء الخالدات , ولعلنا لا نجد لها نظيرا خلال احقاب
كثيرة من التاريخ .
درسنا حياة ام المؤمنين , فوجدناها قوية في دفاعها عن انصارها ومعارضة خصومها, وتهديم كيانهم
الاجـتـمـاعـي , وجدناها ترسل الكلمة في تاييد من تشاء تاييده , فاذا الكلمة تبقى له وساما خالدا مع
التاريخ , كما كانت ترسل الكلمة القارصة في تحطيم خصومها, فتبقى عليه وصمة سوداء في التاريخ
الى ما شاء اللّه , وجدناها ترسل الكلمة للتهديم او التاييد, فاذا الكلمة تنطلق على الافواه , وتسير بها
الركبان , ثم تستقر في بطون الكتب لتستعرضها القرون والاجيال , وهذه اهم مجالات عظمتها.
والذي يهمنا من جميع ما ذكرنا انا وجدناها في كل ذلك تنتزع من حياة الرسول لما تشاء, فاذا ارادت
التحريض على عثمان , اخرجت نعلا, وقالت :.
هـذا نعل الرسول , واذا ارادت تحطيم مروان ذكرت قول النبي فيه , ولعنه , وفي بيان فضل عثمان
وحـيـاته , حدثت عن ستر الرسول فخذه عنه , بعد ان كانت مكشوفة امام غيره , وهكذا حديثها في
غير عثمان , وغير مروان , وبذلك اصبح حديثها اكثر استعراضا لحياة الرسول من اي حديث آخر,
وهـذا مـا دفعنا الى تجشم هذا البحث لانا نريد ان نبحث في امر الرسول وحياته , فقد بعث لنا اماما
وقـدوة , فـليعذرنا من ينكر علينا هذا البحث , وليعلم بان كل ذلك لا يقلل من حرمة ام المؤمنين لدينا
(فلها بعد حرمتها الاولى ) ((905)) .
وللبحث عن احاديثها راجعنا الصحاح , والمسانيد, والتفاسير, والسير, والتواريخ , واستخرجنا منها
ابـحـاثـا عقدنا لدراستها ابواب القسم الثاني من هذا الكتاب , وفقنا اللّه تعالى لنشره بحوله وقوته ,
وآخر دعوانا ان الحمد للّه رب العالمين .
الملحق .
آراء العلماء حولالكتاب احاديث ام المؤمنين عائشة .
.
بسمه تعالى .
الدكتور حامد حفني داود, استاذ الادب العربي بكلية الالسن .
العليا ورئيس قسم الادب العربي بجامعة عين شمس القاهرة , مؤلف .
مكثر مجيد, وباحث ناقد حصيف منصف في المذاهب الاسلامية .
كتب البحث الاتي حول كتاب احاديث عائشة (رض ) في طبعته الاولى .
(امـا بعد, فان اصدق الحديث كتاب اللّه تعالى , وخير الهدى هدى سيدنا محمد (ص ), وشر الامور
محدثاتها, وكل محدثة بدعة , وكل بدعة ضلالة , وكل ضلالة في النار).
بـهذه الكلمات كان عبداللّه بن مسعود رضي اللّه عنه يفتتح مجالسه العلمية بين اقرانه من الصحابة
وتـلامـيـذه مـن التابعين , وهو حين يبدا بها مقاله العلمي انما يعني اسمى ما يقصد اليه علماء الدين ,
وطـلاب الـحـقيقة من حيث السعي وراء الحق وحده , والابتعاد عن الضلالة والزيغ وهجر القول
وفـحـشـه وانـه لا سبيل الى ذلك الا بالاستمساك بركني الدين الحنيف وهما: كلام اللّه سبحانه ,
وكلام رسوله عليه السلام .
امـا (الاول ) فـلانـه الحق الاسمى الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم
حميد, كيف لا, وهو كلام اللّه سبحانه المعجز للبشر, الدال على نبوة محمد عليه السلام .
وامـا (الثاني ) فلانه كلام هذا النبي الامي الامين الكريم الناطق بكتاب اللّه تعالى , فهو لا ينطق الا
عن وحي , ولا يقول الا عن صدق , ان هو الا وحي يوحى , علمه شديد القوى , وقد نعته سبحانه في
محكم آياته بقوله : (وانك لعلى خلق عظيم ).
فكل ما جاء عن هذين الطريقين فهو الحق الصراح الذي لا جدال فيه ولا مرية وكل ما جاء عن غير
هذين الطريقين فهو عرضة للنقد والتقويم , والاستحسان , والاستهجان , والتعديل والتجريح .
ولعل القارئ الحصيف قد وقف على ما اعنيه من هذه المقالة , وهو ان هذه الكلمات الحكيمة التي كان
يـفـتـتح بها هذا الصحابي الجليل مجالسه كان يقصد بها امرا عظيما في مجال (التشريع الاسلامي )
وهو العكوف على الكتاب والسنة .
امـا الـكـتـاب : فـهو واضح ظاهر متفق على الفاظه وترتيبه اتفاقا توقيفيا لاجدال فيه , واما السنة :
فينبغي ان تؤخذ بالتواتر عن الثقات الذين لا يتواطؤون على الكذب على رسول اللّه .
وشـي ء آخـر يجمل بنا ان نستخلصه من هذه الكلمات الصادقة الحكيمة هو ان هذين المصدرين قد
ارتفعا عن مقام النقد والتقويم والتعديل والتجريح , وان ما سواهما ينبغي ان يخضع لميزان النقد وان
نـحـكـم فـيـه عقولنا, وان نزنه بموازين الكلام , حتى نميز سقيمه من صحيحه , غثه من سمينه ,
صريحه من مزيفه .
ونحن في ابان ذلك لا يهولنا امر المتكلم مهما بلغت منزلته من المجتمع ومكانته من الناس , لان المعنى
عندنا هو الحقيقة , وكلمة الحق , وليس شي ء اكثر من هذا, ولو كان ذلك المتكلم من اصحاب رسول
اللّه (ص ).
ذلك لان (الصحابة ) ـ رضي اللّه عنهم ـ مهما بلغوا من درجة العدالة والضبط والدقة في المحافظة
عـلـى الـفـاظ الـرسـول وعـباراته , فانه يجوز عليهم ما يجوز على سائر البشر من يحث الخطا
والـنسيان , فمنهم المعيب , والمخطئ , ومنهم صحيح الذاكرة والنساء, ومنهم خالص القصد والعقيدة
ومن في عقيدته دخل او زيغ , ومنهم الجلة المقربون من حضرة الرسول الاعظم , ومنهم المنافقون
والخارجون عن الجماعة بنص القرآن .
(ومـمـن حـولـكم من الاعراب منافقون ومن اهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم
سنعذبهم مرتين ثم يردون الى عذاب عظيم ) ((906)) .
ولـيـس فـي ذلك ما يهولنا او يزعزع عقيدتنا في الصحابة , او يضعف من موقفنا من حملة لواء هذه
الـرسـالة الكبرى , اذ ليس هناك جماعة ظهرت على وجه الارض الا وفيها هذه الانماط البشرية
المختلفة , ابتداء من درجة العدل الثقة الى درجة السفيه الوضاع والمنافق المارق , وذلك قدر اجمعت
عـليه (القرائن التاريخية ) وايدته (قوانين الاحصاء) في دراسة الجماعات الانسانية منذ آدم حتى
اليوم الا ان ناموس التطور في عقلية الجماعات الدينية وفي اساليب الدعوة الى اللّه بلغت منتهاها في
شـخص محمد وصحبه فلم يكن هناك نبي جاء باعظم مما جاء به , ولم تكن هناك جماعة اصدق عزما
ولا اكـثـر عـددا مـن جـماعته فكان صلوات اللّه عليه يمثل ـ حقا ـ نقطة الكمال فيما انتهت اليه
الرسالات السماوية , كمال في ذاته الشريفة فهو سيد الانبياء, وامام المرسلين , وكمال في دستوره
وقـرآنـه لانـه جـامـع لما جاء قبله من شرائع , وكمال في اصحابه لانه كان بهم اكثر اولي العزم
المرسلين تابعا ((907)) وفي ذلك يقول : صلوات اللّه عليه : (ما من نبي الا وقد اعطي من الايات ما
مـثله آمن عليه البشر, وانما كان الذي اتيته وحيا اوحاه اللّه تعالى الي فارجو ان اكون اكثرهم تابعا
يوم القيامة ).
ولكن هذا الكمال الذي عرف به اصحاب محمد (ص ) لايناقض ان يكون من بين الجماعة نفر اخلوا
بما امر به صلوات اللّه عليه من استمساك باهداب الشريعة واعتصام بما جاء به محمد من هدى كما
ان ذلـك فـي نـفـس الـوقـت لا يمنع من ان تضع هذه الصفوة من الجماعة او هذا الرعيل الاول من
المسلمين تحت نواميس النقد.
فـهـذه الصفوة لم تكن من نمط واحد من العدالة , كما انها لم تسلم من الدخيل عليها, ولا من التظاهر
بـالاسـلام المخفي للكفر, على الرغم مما كان يهدف اليه صلوات اللّه عليه من هداية البشر جميعا,
وما يرجوه من الوصول بهم الى اسمى درجات الهداية واعلى منازل الصديقين .
وقـد اشـار اللّه فـي مـحكم آياته الى ما كان يعتلج في صدر هذا الرسول الاعظم من رغبة صادقة
عنيف في اخذ الناس جميعا الى طريق اللّه , وميل في السلوك بهم كل سبيل يحقق لهم معاني الهداية ,
بلا استثناء فرد واحد من البشر.
وقد اشار اللّه الى هذا الخلق العظيم في مواضع كثيرة فقال في موضع : (فذكر انما انت مذكر لست
عليهم بمسيطر) ((908)) .
وقال في آخر: (انك لا تهدي من احببت ولكن اللّه يهدي من يشاء) ((909)) .
وقال في ثالث : (فذكر ان نفعت الذكرى ) ((910)) الى عشرات الايات التي تشير الى اصرار هذا
الـمصلح الاكبر, ورغبته الشديدة في هداية الناس جميعا, واشفاقه عليهم من ان يسلكوا غير سبيل
الهداية , وهو في هذا النهج القويم لا يرضى وواحد منهم خارج عن الجماعة .
وقـد اثـنـى اللّه عـلـى رسوله فيما كان يهدف اليه من مثالية في الدعوة الى اللّه , فقال عزمن قائل :
(وانـك لـعـلى خلق عظيم ) وواساه فيما لم يتحقق له من هداية الناس جميعا, وفيما كان يرجوه من
انـقـاذهـم مـن ضـلال الكفر, وظلام الجهل بما قدمه له من قصص اخوانه الانبياء والمرسلين في
العصور السوالف وان هذه سنة اللّه في خلقه , (ولن تجد لسنة اللّه تبديلا) ((911)) .