سؤال 12
: الآن علمنا أنّ التقيّةَ جائزةٌ في حالات مخصوصة ، بل هي مستحسنةٌ ، بل واجبةٌ ، فالرجاء أن تبيّنوا لنا: لماذا لم يعمل الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء بالتقيّة؟
.
لماذا ضحّى بكلّ ما عنده لأجل إقامة الحقّ والصدق ، ولم يلتجئ إلى التقيّة؟.
الجواب: لقد بيّنا في البداية أنّ التقيّة مبنيّة على أساس «اختيار أقلّ الضررين» فالتكلّم بكلمة باطلة ليس بأكبر من إلقاء نفس محترمة في التهلكة ، ولذا يكون الكذب الظاهريّ راجحاً على الاقتحام على الموت .
فالآن نفرض أنّ احتفاظ حياتك بالتقيّة يتوقّف على إلقاء مؤمن آخر في التهلكة ، فماذا تفعل أنت ؟
العقل يحكم بأن تضحّي بنفسك ، ولاتعرّض مسلماً آخر للموت ; لأنّ المفروض أنّ مؤمناً سيقتل لامحالة في الحالين: إمّا أنت ، أو ذلك المؤمن ، فالأفضل أن تتقدّم أنتَ ، ولا تلتجئ إلى التقيّة ، لئلاّ تكون سبباً لهلاك مؤمن آخر .
ثمّ نفرض أنّ رجلاً لو تمسّك بالتقيّة ، فهذا العمل يكون سبباً لوقوع خلق كثير في الضلالة والردى ، فبناءً على الأصل المتقدّم التقيّة تكون حراماً لهذا المؤمن ; لأنّ احتفاظ بنفس واحدة وحتى نفوس عديدة ليس له أيّ وزن في مقابل فتح باب الضلالة للخلائق .
والآن ننظر إلى واقعة كربلاء ومعطياتها:
فسيرة يزيد المليئة بالفسق والفجور والمجون والخلاعة ، معروفة ، ولا حاجة لنا إلى ذكر تفاصيلها ههنا .
وهكذا رجل يطلب البيعة من الإمام الحسين (عليه السلام)!! .
والحسين من هو ؟
هو ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) رمز القيم الإسلامية ، وشارة الاستقامة الدينية .
كتب يزيد إلى عامله بالمدينة أن يطالب الحسين بالبيعة له ، فإن أبى فليرسل رأسه إلى يزيد بدمشق .
فالإمام (عليه السلام) كان يعلم ـ علم اليقين ـ ماذا تكون نتيجة رفضه لتلك البيعة ، وفي نفس الوقت كان متيقّناً ـ حقّ اليقين ـ أنّه لو بايع يزيد الفجور ، والخمور ، والكفر ، والطغيان ، فالمسلمون في أنحاء العالم سيثقون بأنّ يزيد هو خليفة الرسول حقّاً ، وسيؤدّي هذا إلى التوقيع على جميع تصرّفات يزيد والتصديق بها وصيرورتها من شريعة الإسلام .
وبعبارة أُخرى : لو قبل الإمام الحسين (عليه السلام) بيزيدكخليفة قانونيّ لرسول الله(صلى الله عليه وآله)لفسد الإسلام ، ومسخت صورته بالكلّية .
ولذا رفض الإمام البيعة ، ولم يكترث بنتائج هذا الإنكار ، ولم يلتفت إلى التقيّة أصلا .
ويظهر من هذا أنّه إن كان هناك رجلٌ في أعلى المراتب الروحانيّة وأسمى المدارج الإيمانية ، وهو يعلم أنّه لو تمسّك بالتقيّة فكثيرون يضلّون بسببه ! فالأصل الإسلامي يقتضي تحريم التقيّة على هذا الرجل ، فيجب عليه أن يعلن بالصراحة عمّا هو الحقّ الصريح ، والصدق الواقع ، ويضحّي بنفسه في سبيل الله تعالى لإعلاء كلمة الحقّ ، فإنّ الاحتفاظ بنفس أو نفوس ليس بأهمّ من إنقاذ نفس أو نفوس من الضلالة والردى ، فيجب إبقاؤها على صراط الله العزيز الحميد .
وأخيراً ، فنؤكّد مرّة أُخرى أنّ التقيّة ليست بشيء مخصوص بالشيعة ، بل كلّ فرق الإسلام تعترف به وبجوازه ، بلوجوبه ، كما يظهر من الروايات المتقدّمة عن صحيحي البخاري ومسلم ، وكتب التفاسير لأهل السنّة .
وتقدّم أنّ الإمام الشافعي(رحمه الله) أجاز التقيّة لامن الكافرين فقط; بل من المسلمين ـ أيضاً ـ .
وعلماء أهل السنّة ـ بدون استثناء ـ يعتقدون أنّ التقيّة جائزةٌ إلى يوم القيامة .
ومن أراد التفصيل فلينظر في «فلك النجاة» لمولاناعلي محمّد ، ومولانا أمير الدين(قدس سرهم) فإنّه سيرى عشرات منالادلّة(32) .
ويقول العالم المعروف نجم الدين الطوفي الحنبلي:
«واعلم أنّ النزاع الطويل بينهم في التقيّة ، استدلالا وجواباً ، ذاهب هدراً ، أمّا التقيّة: فلا مبالاة بإثباتهاوجوازها ، وإنّما يكره عامّة الناس لفظها لكونها من مستنداتالشيعة ، وإلاّ فالعالم مجبول على استعمالها ، وبعضهم يسمّيها «مداراةً» وبعضهم «مصانعةً» وبعضهم «عقلا معيشياً» ودلّ عليها دليل الشرع»(33) .