سؤال 6
: هبْ أنّك حفظتَ وصُنتَ نفساً مؤمنةً ، ولكنّك في نفس الوقت ارتكبتَ معصيةً تُعدّ من أكبر الكبائر ، أعني الكذب ، فمن وجهة نظر وجدانيّة لقد دنّستَ نفسَك بفساد المعصية الكبيرة على كلّ حال !
.
فهلاّ تكلّمتَ بالصدق ، وتجنّبتَ عن الكذب ! بدون المبالاة بماذا يفعل الكافرون بك بعد ذلك؟! .
الجواب: إذا تعارض السيّئتان ، ولم يمكن التهرّب من كلتيهما ، وترى نفسك ملزماً بأن تختار واحدةً منهما ، فالعقل يحكم أن تختار أقلّ القبيحين ضرراً ، وتتحمّل أدنى الضررين لتجتنب الضرر الأكثر .
وهو ما جعل أصلاً في الشريعة الإسلامية ، والمراد أنّه إذا رأيتَ نفسك في حال لابدّ أن تتلقى الضرر على بعض ممتلكاتك ، فهذا الأصل يقضي أن تتلقّى الضرر الأقلّ قيمةً ، وبذلك تدفع عن نفسك الضرر الأكثر ولاتخسر الأغلى ثمناً ، ولذا قال الإمام فخرالدين الرازي في تفسير ما جرى بين النبيّ موسى والخضر(عليهما السلام)في سورة الكهف: عند تعارض الضررين يجب تحمّل الأدنى لدفع الأعلى ، فهذا هو الأصل المعتبر في المسائل الثلاثة(8) .
وهناك أمثلةٌ كثيرةٌ في الشرع الإسلامي تؤكّد اعتبار هذا الأصل: فالصلاة عمود الدين ، ولا يضاهيها أيّ عمل في الأهميّة والأولويّة ، فلو كنت مشتغلاً بالصلاة ، ووجدتَ أنّ طفلا صغيراً على شرف أن يقع في البئر ، وليس هناك أحد سواك لإنقاذ الطفل من الهلكة ، فالشرعُ ههنا يطلبُ منك أن تقطعَ صلاتك ، وتجتهدَلإنقاذ الطفل من الوقوع في البئر ، وإن لم تفعل هذا فصلاتُك لاتقبل ، وأنتَ تكون مسؤولا عن حياة الطفل .
فالآن نفرضُ أنّ الكفّار مجتمعون لقتل مسلم بري ، لا لأنّه ارتكب جريمة ، بل بسبب أنّه مسلمٌ ، فيختفي المسلم ، وأنت عارف بمحلّ اختفائه ، والكفّار يسألونك: هل تعلم أين ذهب الرجل ؟
فأنت ترى نفسك بين محذورين: إمّا أن تقول: «لاأعلم» وبمجرد هذا القول تكون قد اقترفت سيّئةً وهي الكذب .
أو تقول: «نعم ، هو في المحلّ الفلاني» وبذلك تتعاون معهم في قتل المسلم البري!
فالعقل يقضي ـ والشرع يوافقه ـ بأنّ قبح الكذب في هذه الحالة أهون بكثير من إثم الصدق الذي ينجرّ إلى قتل بريء .
والفرق الإسلاميّة مجتمعون على أنّ التقيّة في مثل هذه الصورة واجبةٌ قطعاً .
انظروا ماذا يقول الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم: «وقد اتّفق الفقهاء على أنّه لو جاء ظالمٌ يطلب إنساناً مختفياً ليقتله أو يطلب وديعةً لإنسان ليأخذها غصباً ،وسأل عن ذلك ; وجب على مَن علمَ ذلك إخفاؤهوإنكار العلم به .
وهذا كذبٌ جائزٌ; بل واجبٌ; لكونه في دفع الظالم» .
والإمام مسلم عقدَ في صحيحه باباً مستقلا في هذا الموضوع بعنوان: «باب تحريم الكذب وبيان الكذب المحلّل»(9) .
والإمام البخاري ـ أيضاً ـ عقد «كتاب الإكراه» في صحيحه كما سيأتي .
والآن نفرض أنّ الكفّار أخذوا مسلماً بسبب إسلامه ـ وذلك المسلم هو أنت بنفسك ـ وهم يُعطونك الخيار بين أمرين: إمّا أن تخلعَ قلادة الإسلام من رقبتك أو تُقتل ، فإن كان نور الإيمان مضيئاً في قلبك فمجرّد التلفّظ بكلمات عديدة ضدّ الإسلام لايضرّ بذلك النور ، ولا يخرجه من قلبك ، بل تكون تلك الكلمات كغطاء أسود على ذلك النور الذي يتشعشع في قلبك ، ولايكون لها أية قدرة لإطفاء ذلك النور ، ولكنّك إن لم تُخْفِ ذلك النور تحتَ الستار فحياتُك في خطر ، ومع قتلك يطفأ نور الإيمان ـ أيضاً ـ ولا يبقى لك أي محلّ أو مجال لخدمة الإسلام والدين في الأيّام الآتية .
فبالتكلّم بكلمات سطحيّة والتظاهر بها ضدّ الإسلام ، تحافظ أنت على حياتك ، وكذلك على إيمانك .
وأمّا في الصورة الأُخرى فحياتك تضيع ، ولايبقى لك أي مجال لخدمة الإسلام والحقّ في المستقبل .
ولذلك أمرك الله سبحانه وتعالى أن تحافظ على نفسك العزيزة ، بالتفوّه ببعض الكلمات الباطلة حسبما يريد الكفّار منك .