الفصل الخامس: في خامس افعال العمرة، و هو التقصير
و فيه مسائل:
المسالة الاولى:
اذا فرغ المعتمر بعمرة التمتع عن السعي يقصر راجحا، بلا خلاف يعرف، بل
بالاجماعين (1) ، و تدل عليه المستفيضة من الاخبار:
كصحيحة ابن عمار: «اذا فرغت من سعيك و انت متمتع فقصر من شعر راسك من جوانبه
و لحيتك، و خذ من شاربك، و الق اظفارك، و ابق منها لحجك، فاذا فعلت ذلك فقد
احللت من كل شي ء يحل منه المحرم و احرمت منه، فطف بالبيت تطوعا ما شئت » (2) .
و صحيحته الاخرى، و فيها: «ثم قص[من]راسك من جوانبه و لحيتك و خذ من شاربك، و
قلم اظفارك و ابق منها لحجك » الحديث (3) .
و ابن سنان: «طواف المتمتع ان يطوف بالكعبة، و يسعى بين الصفا و المروة، و يقصر
من شعره، فاذا فعل ذلك فقد احل » (4) .
و رواية عمر بن يزيد: «ثم ائت منزلك فقصر من شعرك، و حل لك كل شي ء» (5) ، و غير ذلك مما
ياتي.
و هل هو واجب عليه، كما هو المشهور، بل لا يعرف فيه خلاف الا من الخلاف؟
او هو الافضل و ان جاز الحلق ايضا؟ كما عن الخلاف (6) ، و حكي عن والد الفاضل ايضا (7) ؟
الحق هو: الاول.
لا لصحيحتي ابن عمار الاوليين، لعدم وجوب المامور به فيهما بخصوصه قطعا من
الاخذ من شعر الراس من جوانبه و اللحية.
و لا لصحيحة ابن سنان، لقصورها عن افادة الوجوب.
بل لرواية عمر بن يزيد و صحيحة ابن عمار «اذا احرمت فعقصت (8) راسك او لبدته (9) فقد
وجب عليك الحلق و ليس لك التقصير، و ان انت لم تفعل فمخير لك التقصير و الحلق في
الحج، و ليس في المتعة الا التقصير» (10) .
و تدل عليه ايضا الاخبار الواردة في صفة اصناف الحج و الاقتصار فيها في عمرة
التمتع على التقصير (11) ، و الاخبار المتضمنة لوجوب الدم على من اتى النساء قبل
التقصير (12) ، و لبطلان العمرة اذا اهل بالحج قبل التقصير، و الاخبار المثبتة
للدم على ناسي التقصير و على الحالق.
هذا في صورة عدم عقص شعر الراس او تلبيده.و اما معه، فحكي في المنتقى عن المفيد:
وجوب الحلق خاصة كما في احرام الحج، و نسب الى ظاهر التهذيب موافقته في
ذلك، و مال هو نفسه اليه ايضا (13) .
و استحسنه في الذخيرة (14) ، و استدل له بصحيحة ابن عمار الاخيرة، بجعل قوله: «في
الحج » قيدا للحكم الاخير، و بصحيحة اخرى له، و صحيحة للعيص و رواية ابي سعد الآتيتين
في بحث تحليل الحج، الدالتين على تعين الحلق على المعقص و الملبد مطلقا، و بصحيحة
هشام الآتية فيه ايضا، الدالة عليه في الحج او العمرة.
قال في المنتقى: ان هذه اخص مما مر، لاختصاصها بالمعقص و الملبد، فيجب حمل
العام على الخاص (15) .
اقول: ان ما ذكره في الاولى محض احتمال، و بمجرده لا يمكن تخصيص عموم قوله
اخيرا: «و ليس في المتعة الا التقصير» .
و الاربعة الباقية و ان اختصت بالمعقص و الملبد الا ان الاوليين اعمان من الحج
و العمرة، و الاخيرة من العمرة المتمتع بها و المبتولة، فالنسبة بين
الفريقين بالعموم من وجه دون المطلق، و لكن لا مرجح لاحدهما على الظاهر، و
الترجيح بالشهرة فتوى عندي غير ثابت، و الاصل بالنسبة اليهما على السواء.
و المسالة قوية الاشكال، و ان كان مقتضى الاستدلال التخيير حينئذ الا انه لا اعلم
به قائلا، بل يتاتى هذا الاشكال في حق الصرورة ايضا، لتعارض اخبارها الآتية في
تحليل الحج مع اخبار التقصير بالعموم من وجه، الا انه لم ينقل عن احد القول
بتعين الحلق في حقه.
و يمكن رفع الاشكال فيه بذلك، حيث ان مخالفة الشهرة القوية لا اقل موهنة للخبر مخرجة
له و لو لعمومه عن الحجية.
بل بذلك يمكن دفع الاشكال في المعقص و الملبد ايضا، سيما و ان كلام الشيخ (16) ليس
صريحا و لا ظاهرا في ذلك.
نعم، سكت هو عن رد قول المفيد، و ذلك ليس بظاهر في المخالفة، بل في ظهور قول المفيد في
ذلك ايضا كلام، فتامل.
المسالة الثانية:
و حيث عرفت وجوب التقصير عليه، فهل يجوز له معه الحلق مطلقا، او بعد التقصير،
ام لا؟ حكي عن القاضي و ابن حمزة و الشهيد: الحرمة في الحالين (17) ، و اطلق في الشرائع
عدم جوازه (18) ، و ظاهر النافع التحريم قبله خاصة.
و تردد في المدارك في اصل التحريم (19) .و هو في محله، لان الاصل ينفيه، و لا دليل
يثبته اصلا سوى ما في بعض الاخبار من ايجاب الدم له، و هو محل مناقشة كما
ياتي.
و على فرض الثبوت لا يثبت التحريم، لجواز ترتبه على فعل مباح او ترك مستحب
ايضا، و لذا اثبته بعضهم (20) في الحلق المستحب تركه قبل الاحرام ايضا.
نعم، يمكن القول بتحريمه قبله بالاستصحاب.
و القول-بانه لو لم يحرم بعده لم يحرم اصلا، لان اوله تقصير- مردود بالمنع، لان
التقصير: جعل الشعر او غيره قصيرا، و الحلق هو امر آخر، و بينهما فرق ظاهر عرفا و
لغة، و لا يمكن استصحاب التحريم فيما بعد، لقوله في الاخبار المتقدمة: «فقد احللت
من كل شي ء» .
و قد يستدل على التحريم-و لو بعد التقصير-بقوله في صحيحتي ابن عمار المتقدمتين:
«و ابق منها لحجك » (21) ، حيث ان الامر بالشي ء نهي عن ضده العام.
و فيه: انه لا يتعين في الحج حلق الراس على الاطلاق، بل يتخير غير الصرورة و
المعقص و الملبد بينه و بين التقصير، فلا يجب ابقاء شي ء من الراس مطلقا قطعا،
فيمكن ارجاع الضمير المجرور الى المذكورات من اللحية و الشارب و الاظفار و
الراس، فلا دلالة فيها اصلا.
ثم على القول بالتحريم، فهل المحرم حلق جميع الراس، او يحرم بعضه ايضا؟
، و حكي عن جمع ايضا (23) : عدم تحريم البعض، و لا ارى وجها
للتفرقة بين الكل و البعض.
و عليه ايضا هل يكون مجزئا عن التقصير، ام لا؟
قيل: نعم مطلقا (24) .و قيل: باجزاء حلق البعض (25) .و الحق: عدم الاجزاء، لما اشرنا اليه
من مباينة الحلق و التقصير.
ثم لو حلق فهل عليه دم، ام لا؟
المشهور-كما قيل (26) -: الاول، بل ربما يلوح من كلام بعضهم مظنة كونه اجماعا (27) ، و
في النافع اختصاصه بما قبل التقصير (28) .و ظاهر طائفة من المتاخرين التامل فيه (29) .
و ما يدل عليه رواية اسحاق: عن المتمتع اراد ان يقصر فحلق راسه، قال: «عليه دم
يهريقه » (30) .
و صحيحة جميل: عن متمتع حلق راسه بمكة، قال: «ان كان جاهلا فليس عليه شي ء، و ان تعمد
ذلك في اول اشهر الحج بثلاثين يوما فليس عليه شي ء، و ان تعمد بعد الثلاثين التي
يوفر فيها الشعر للحج فان عليه دما يهريقه » (31) .
و يرد على الاولى: انها ظاهرة في الناسي، و ظاهرهم الاجماع-كما قيل (32) -ايضا على
عدم الوجوب عليه، و لكن كلام المحقق مطلق (33) ، و لكنه لا يخرجها عن الشذوذ المخرج
عن الحجية، و مع ذلك مخصوص بما قبل التقصير، فلا يصلح حجة للتعميم.
و على الثانية: انه لا ظهور فيها على كون الحلق بعد الاحرام، كذا قيل (34) .
و فيه نظر، بل ظاهر التعليق على المتمتع و على كونه بمكة كونه بعده و ان احتمل
بعيدا كونه قبله.
نعم، يرد عليها: انه لا دلالة فيها على كون الدم لاجل الحلق بعد الاحرام، و الا لم
يكن للتخصيص بما بعد الثلاثين المذكورة وجه، فلعله للاخلال بتوفير الشعر
المستحب عند الاكثر و الواجب عند بعضهم (35) ، بل عن المفيد: ايجاب الاخلال به
للدم (36) .
و ظهر من ذلك انه لا دليل على وجوب الدم به في صورة التاخير عن التقصير.
و اما مع التقديم، فظاهر الرواية الاولى الوجوب على الناسي، و هو خلاف المعروف
بين الاصحاب، و به تخرج الرواية عن الحجية، فلا تكون دليلا في صورة التقديم
ايضا.
و لو احتيط حينئذ-مع العمد، لمظنة الاجماع، و مع النسيان، للرواية، بل في صورة
التاخير، للشهرة حتى في حلق البعض، لصدق حلق الراس الوارد في الرواية-كان اولى.
المسالة الثالثة:
يكفي المسمى في التقصير، لاطلاق، الاخبار، و المشهور كفايته من الشعر او الظفر، و
عن بعضهم: لزوم كونه في الشعر (37) ، و هو المستفاد من الاخبار.
و لا يلزم كون التقصير بالمقراض، كما صرح به في صحيحة ابن عمار (38) و رواية محمد
الحلبي (39) ، و لا بالحديد، بل يكفي القطع و لو بالسن او الظفر، كما صرح به في رواية محمد
المشار اليها، و صحيحتي حماد بن عثمان (40) و الحلبي (41) .
المسالة الرابعة:
لو ترك التقصير حتى احرم بالحج، فان كان عمدا فعن الشيخ بطلان متعته و
صيرورة حجه مفردة (42) .و عن الحلي: بطلان احرامه الثاني (43) .
و تدل على الاول رواية ابي بصير: «المتمتع اذا طاف و سعى ثم لبى قبل ان يقصر،
فليس له ان يقصر، و ليس له متعة » (44) .
و رواية العلاء: عن رجل متمتع طاف ثم اهل بالحج قبل ان يقصر، قال: «بطلت متعته، هي
حجة مبتولة » (45) .
و لم اعثر لدليل على الثاني.
و ان كان نسيانا فيصح تمتعه، بلا خلاف يعرف كما في الذخيرة (46) ، للاخبار الآتية،
و عليه دم شاة على الاظهر، (وفاقا لعلي بن بابويه و الشيخ و القاضي و الارشاد (47) .
لموثقة اسحاق: الرجل يتمتع فينسى ان يقصر حتى يهل بالحج، قال: «عليه دم يهريقه » (48) .
و خلافا للفقيه و الديلمي و الحلي و القواعد، فلا دم عليه وجوبا (49) .
لصحيحة ابن سنان: في رجل متمتع نسي ان يقصر حتى احرم بالحج، قال: «يستغفر الله و
لا شي ء عليه » (50) .
و ابن عمار: عن رجل اهل بالعمرة و نسي ان يقصر حتى دخل الحج، قال: «يستغفر الله و
لا شي ء عليه و تمت عمرته » (51) .
و البجلي: عن رجل تمتع بالعمرة الى الحج فدخل مكة، فطاف و سعى و لبس ثيابه و
احل و نسي ان يقصر حتى خرج الى عرفات، قال:
«لا باس به، يبني على العمرة و طوافها، و طواف الحج على اثره » (52) .
فيحملون الموثقة على الاستحباب، لهذه الاخبار.
و فيه: ان هذه الاخبار عامة، لان نفي الشي ء اعم من الذم و العقاب و غيرهما، و
الموثقة خاصة، و التخصيص مقدم على التجوز) (53) .
1) كما في الخلاف 2: 330، و الغنية (الجوامع الفقهية) : 579، و كشف اللثام 1: 349، و
الحدائق 16: 297.
2) الكافي 4: 438-1، الفقيه 2: 236-1127، التهذيب 5: 157-521، الوسائل 13: 506
ابواب التقصير ب 1 ح 4، بتفاوت يسير.
3) التهذيب 5: 148-487، الوسائل 13: 505 ابواب التقصير ب 1 ح 1، و ما بين
المعقوفين، اثبتناه من المصادر.
4) التهذيب 5: 157-522، الوسائل 13: 505، ابواب التقصير ب 1 ح 2.
5) التهذيب 5: 157-523، الوسائل 13: 506 ابواب التقصير ب 1 ح 3.
6) الخلاف 2: 330.
7) حكاه عنه في المختلف: 294.
8) عقص الشعر: جمعه و جعله في وسط الراس و شده-مجمع البحرين 4: 175.
9) تلبيد الشعر: ان يجعل فيه شي ء من صمغ او خطمي و غيره عند الاحرام لئلا يشعث و يقمل
اتقاء على الشعر-مجمع البحرين 3: 140.
10) التهذيب 5: 160-533، الوسائل 14: 224 ابواب الحلق و التقصير ب 7 ح 8، و
فيهما: فعقصت شعر راسك..
11) الوسائل 14: 221 ابواب الحلق و التقصير ب 7.
12) انظر الوسائل 13: 117 ابواب كفارات الاستمتاع ب 5.
13) المنتقى 3: 332.
14) الذخيرة: 649.
15) المنتقى 3: 333.
16) التهذيب 5: 160.
17) حكاه عنهم في الحدائق 16: 299، و كشف اللثام 1: 350.
18) الشرائع 1: 302.
19) المدارك 8: 461.
20) كالصدوق في الفقيه 2: 238، و حكاه في الرياض 1: 436.
21) الكافي 4: 438-1، الفقيه 2: 236-1127، التهذيب 5: 157-521، الوسائل 13: 506
ابواب التقصير ب 1 ح 4.
22) المنتهى 2: 711.
23) حكاه في الرياض 1: 436.
24) كما في المنتهى 2: 711.
25) كما في الدروس 1: 415.
26) انظر المدارك 8: 461.
27) انظر الرياض 1: 436.
28) النافع: 108.
29) كما في المدارك 8: 461، الذخيرة: 649، الرياض 1: 436.
30) الفقيه 2: 238-1133 و فيه: عن ابي بصير، و في التهذيب 5: 158-525و الاستبصار
2: 242-842 و الوسائل 13: 510 ابواب التقصير ب 4 ح 3: عن اسحاق بن عمار، عن ابي
بصير.
31) الكافي 4: 441-7، الفقيه 2: 238-1137، التهذيب 5: 158-526، الاستبصار 2:
242-843، الوسائل 13: 510 ابواب التقصير ب 4 ح 5.
32) انظر الرياض 1: 436.
33) الشرائع 1: 302.
34) انظر الرياض 1: 436.
35) كالشيخ في النهاية 1: 206.
36) المقنعة: 391.
37) انظر التحرير 1: 100.
38) الكافي 4: 439-6، التهذيب 5: 158-524، الوسائل 13: 507 ابواب التقصير ب 2 ح 1.
39) التهذيب 5: 162-542، الاستبصار 2: 244-851، الوسائل 13: 509 ابواب التقصير
ب 3 ح 4.
40) الفقيه 2: 238-1138، الوسائل 13: 508 ابواب التقصير ب 3 ح 2.
41) الكافي 4: 441-6، التهذيب 5: 162-543، الاستبصار 2: 244-852، الوسائل 13: 508
ابواب التقصير ب 3 ح 2.
42) الخلاف 2: 332.
43) السرائر 1: 581.
44) التهذيب 5: 159-529، الاستبصار 2: 243-846، الوسائل 12: 412ابواب
الاحرام ب 54 ح 5.
45) التهذيب 5: 90-296، الاستبصار 2: 175-580، الوسائل 12: 412 ابواب الاحرام
ب 54 ح 4.
46) الذخيرة: 649.
47) حكاه عن علي بن بابويه في الذخيرة: 649، الشيخ في النهاية: 246، القاضي في
المهذب 1: 225، الارشاد 1: 328.
48) التهذيب 5: 158-527، الاستبصار 2: 242-844، الوسائل 12: 412ابواب
الاحرام ب 54 ح 6.
49) الفقيه 2: 237، الديلمي في المراسم: 124، الحلي في السرائر: 136، القواعد 1: 85.
50) الكافي 4: 440-1، الفقيه 2: 237-1129، التهذيب 5: 90-297، الاستبصار 2:
175-577، الوسائل 12: 410 ابواب الاحرام ب 54 ح 1.
51) الكافي 4: 440-2، التهذيب 5: 91-299، الاستبصار 2: 175-579، الوسائل 13: 411
ابواب الاحرام ب 54 ح 3.
52) الكافي 4: 440-3، التهذيب 5: 90-298، الاستبصار 2: 175-578، الوسائل 13: 411
ابواب الاحرام ب 54 ح 3.
53) بدل ما بين القوسين في «ح » : و قد مرت المسالة مفصلة في بحث احكام الاحرام.