و إني عداني أن أزورك محكم ** متى ما أحرك فيه ساقي يصخب و من هاهنا بمعنى عن و قد جاءت في كثيرمن كلامهم كذلك قال ابن قتيبة في أدب الكاتب قالوا حدثني فلان من فلان أي عن فلانو لهيت من كذا أي عنه و يصير ترتيب الكلام و تقديره فما صرفك عما بدا منك أي
[164]
ظهر و المعنى ما الذي صدك عن طاعتي بعد إظهارك لها وحذف الضمير المفعول المنصوب كثير جدا كقوله تعالىوَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْقَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا
أي أرسلناه و لا بد من تقديره كي لا يبقى الموصول بلاعائد. و قال القطب الراوندي قوله فما عدا مما بدا له معنيان أحدهما ما الذي منعكمما كان قد بدا منك من البيعة قبل هذه الحالة و الثاني ما الذي عاقك و يكونالمفعول الثاني لعدا محذوفا يدل عليه الكلام أي ما عداك يريد ما شغلك و ما منعكمما كان بدا لك من نصرتي من البدا الذي يبدو للإنسان و لقائل أن يقول ليس في الوجهالثاني زيادة على الوجه الأول إلا زيادة فاسدة أما إنه ليس فيه زيادة فلأنه فسر فيالوجه الأول عدا بمعنى منع ثم فسره في الوجه الثاني بمعنى عاق و فسر عاق بمنع وشغل فصار عدا في الوجه الثاني مثل عدا في الوجه الأول. و قوله مما كان بدا منكفسره في الأول و الثاني بتفسير واحد فلم يبق بين الوجهين تفاوت و أما الزيادةالفاسدة فظنه أن عدا يتعدى إلى مفعولين و أنه قد حذف الثاني و هذا غير صحيح لأنعدا ليس من الأفعال التي تتعدى إلى مفعولين بإجماع النحاة و من العجب تفسيرهالمفعول الثاني المحذوف على زعمه بقوله أي ما عداك و هذا المفعول المحذوف هاهنا هومفعول عدا الذي لا مفعول لها غيره فلا يجوز أن يقال إنه أول و لا ثان. ثم حكىالقطب الراوندي حكاية معناها أن صفية بنت عبد المطلب أعتقت عبيدا ثم ماتت ثم ماتالعبيد و لم يخلفوا وارثا إلا مواليهم و طلب علي (ع) ميراث العبيد بحق التعصيب و طلبهالزبير بحق الإرث من أمه و تحاكما إلى عمر فقضى عمر بالميراث للزبير .
[165]
قال القطب الراونديرحمه الله تعالى حكاية عن أمير المؤمنين (ع) إنه قال هذا خلاف الشرع لأن ولاء معتقالمرأة إذا كانت ميتة يكون لعصبتها و هم العاقلة لا لأولادها .قلت هذه المسألة مختلف فيها بينالإمامية فأبو عبد الله بن النعمان المعروف بالمفيد يقول إن الولاء لولدها و لايصحح هذا الخبر و يطعن في راويه و غيره من فقهاء الإمامية كأبي جعفر الطوسي و منقال بقوله يذهبون إلى أن الولاء لعصبتها لا لولدها و يصححون الخبر و يزعمون أنأمير المؤمنين (ع) سكت و لم ينازع على قاعدته في التقية و استعمال المجاملة معالقوم. فأما مذاهب الفقهاء غير الإمامية فإنها متفقة على أن الولاء للولد لاللعصبة كما هو قول المفيد رحمه الله تعالى . و روى جعفر بن محمدالصادق عن أبيه عن جده (ع) قال سألت ابن عباس رضي الله عنه عن ذلك فقال إني قد أتيتالزبير فقلت له فقال قل له إني أريد ما تريد كأنه يقول الملك لم يزدني على ذلكفرجعت إلى علي (ع) فأخبرته . و روى محمد بن إسحاق و الكلبي عن ابنعباس رضي الله عنه قال قلت الكلمة للزبير فلم يزدني على أن قال قل له إنا مع الخوف الشديد لنطمع[166]
قال و سئل ابن عباس عما يعني بقوله هذا فقال يقول إنا على الخوف لنطمع أننلي من الأمر ما وليتم. و قد فسره قوم تفسيرا آخر و قالوا أراد إنا مع الخوف منالله لنطمع أن يغفر لنا هذا الذنب. قلت و على كلا التفسيرين لم يحصل جواب المسألة .من أخبار الزبير و ابنه عبد الله :
كان عبد الله بن الزبير هو الذي يصليبالناس في أيام الجمل لأن طلحة و الزبير تدافعا الصلاة فأمرت عائشة عبد الله أنيصلي قطعا لمنازعتهما فإن ظهروا كان الأمر إلى عائشة تستخلف من شاءت. و كان عبدالله بن الزبير يدعي أنه أحق بالخلافة من أبيه و من طلحة و يزعم أن عثمان يومالدار أوصى بها إليه. و اختلفت الرواية في كيفية السلام على الزبير و طلحة فرويأنه كان يسلم على الزبير وحده بالإمرة فيقال السلام عليك أيها الأمير لأن عائشةولته أمر الحرب.و روي أنه كان يسلم على كل واحد منهما بذلك. لما نزل علي (ع) بالبصرة و وقف جيشه بإزاء جيش عائشة قال الزبير و الله ما كان أمر قط إلا عرفت أينأضع قدمي فيه إلا هذا الأمر فإني لا أدري أ مقبل أنا فيه أم مدبر فقال له ابنه عبدالله كلا و لكنك فرقت سيوف ابن أبي طالب و عرفت أن الموت الناقع تحت راياته فقالالزبير ما لك أخزاك الله من ولد ما أشأمك .
[167]
كان أمير المؤمنين (ع) يقول ما زال الزبير منا أهل البيت حتى شب ابنه عبد الله . برز علي (ع) بين الصفين حاسرا و قال ليبرزإلي الزبير فبرز إليه مدججا فقيل لعائشة قد برز الزبير إلى علي (ع) فصاحت وا زبيراهفقيل لها لا بأس عليه منه إنه حاسر و الزبير دارع فقال له ما حملك يا أبا عبد اللهعلى ما صنعت قال أطلب بدم عثمان قال أنت و طلحة وليتماه و إنما نوبتك من ذلك أنتقيد به نفسك و تسلمها إلى ورثته ثم قال نشدتك الله أ تذكر يوم مررت بي و رسول اللهص متكئ على يدك و هو جاء من بني عمرو بن عوف فسلم علي و ضحك في وجهي فضحكت إليه لمأزده على ذلك فقلت لا يترك ابن أبي طالب يا رسول الله زهوه فقال لك مه إنه ليس بذيزهو أما إنك ستقاتله و أنت له ظالم فاسترجع الزبير و قال لقد كان ذلك و لكن الدهرأنسانيه و لأنصرفن عنك فرجع فأعتق عبده سرجس تحللا من يمين لزمته في القتال ثم أتىعائشة فقال لها إني ما وقفت موقفا قط و لا شهدت حربا إلا و لي فيه رأي و بصيرة إلاهذه الحرب و إني لعلى شك من أمري و ما أكاد أبصر موضع قدمي فقالت له يا أبا عبدالله أظنك فرقت سيوف ابن أبي طالب إنها و الله سيوف حداد معدة للجلاد تحملها فئةأنجاد و لئن فرقتها لقد فرقها الرجال قبلك قال كلا و لكنه ما قلت لك ثم انصرف. و روى فروة بن الحارث التميمي قال كنت فيمن اعتزل عن الحرب بوادي السباع مع الأحنفبن قيس و خرج ابن عم لي يقال له الجون مع عسكر البصرة فنهيته[168]
فقال لا أرغب بنفسي عن نصرة أم المؤمنين و حواري رسول الله فخرج معهم وإني لجالس مع الأحنف يستنبئ الأخبار إذا بالجون بن قتادة ابن عمي مقبلا فقمت إليهو اعتنقته و سألته عن الخبر فقال أخبرك العجب خرجت و أنا لا أريد أن أبرح الحربحتى يحكم الله بين الفريقين فبينا أنا واقف مع الزبير إذ جاءه رجل فقال أبشر أيهاالأمير فإن عليا لما رأى ما أعد الله له من هذا الجمع نكص على عقبيه و تفرق عنهأصحابه و أتاه آخر فقال له مثل ذلك فقال الزبير ويحكم أبو حسن يرجع و الله لو لميجد إلا العرفج لدب إلينا فيه ثم أقبل رجل آخر فقال أيها الأمير إن نفرا من أصحابعلي فارقوه ليدخلوا معنا منهم عمار بن ياسر فقال الزبير كلا و رب الكعبة إن عمارالا يفارقه أبدا فقال الرجل بلى و الله مرارا فلما رأى الزبير أن الرجل ليس براجععن قوله بعث معه رجلا آخر و قال اذهبا فانظرا فعادا و قالا إن عمارا قد أتاك رسولامن عند صاحبه قال جون فسمعت و الله الزبير يقول وا انقطاع ظهراه وا جدع أنفاه واسواد وجهاه و يكرر ذلك مرارا ثم أخذته رعدة شديدة فقلت و الله إن الزبير ليس بجبانو إنه لمن فرسان قريش المذكورين و إن لهذا الكلام لشأنا و لا أريد أن أشهد مشهدايقول أميره هذه المقالة فرجعت إليكم فلم يكن إلا قليل حتى مر الزبير بنا متاركاللقوم فاتبعه عمير بن جرموز فقتله. أكثر الروايات على أن ابن جرموز قتل مع أصحابالنهر و جاء في بعضها أنه عاش إلى أيام ولاية مصعب بن الزبير العراق و أنه لما قدممصعب البصرة خافه ابن جرموز فهرب فقال مصعب ليظهر سالما و ليأخذ عطاءه موفورا أيظن أني أقتله بأبي عبد الله و أجعله فداء له فكان هذا من الكبر المستحسن.[169]
كان ابن جرموز يدعو لدنياه فقيل له هلا دعوت لآخرتكفقال أيست من الجنة.الزبير أول من شهر سيفه في سبيل الله قيل له في أول الدعوة قدقتل رسول الله فخرج و هو غلام يسعى بسيفه مشهورا. و روى الزبير بن بكار فيالموفقيات قال لما سار علي (ع) إلى البصرة بعث ابن عباس فقال ائت الزبير فاقرأ عليهالسلام و قل له يا أبا عبد الله كيف عرفتنا بالمدينة و أنكرتنا بالبصرة فقال ابنعباس أ فلا آتي طلحة قال لا إذا تجده عاقصا قرنه في حزن يقول هذا سهل. قال فأتيتالزبير فوجدته في بيت يتروح في يوم حار و عبد الله ابنه عنده فقال مرحبا بك يا ابنلبابة أ جئت زائرا أم سفيرا قلت كلا إن ابن خالك يقرأ عليك السلام و يقول لك ياأبا عبد الله كيف عرفتنا بالمدينة و أنكرتنا بالبصرة فقال :علقتهم أني خلقت عصبه قتادة تعلقت بنشبه لن أدعهم حتى أؤلف بينهم قال فأردت منهجوابا غير ذلك فقال لي ابنه عبد الله قل له بيننا و بينك دم خليفة و وصية خليفة واجتماع اثنين و انفراد واحد و أم مبرورة و مشاورة العشيرة قال فعلمت أنه ليس وراءهذا الكلام إلا الحرب فرجعت إلى علي (ع) فأخبرته.[170]
قالالزبير بن بكار هذا الحديث كان يرويه عمي مصعب ثم تركه و قال إني رأيت جدي أبا عبدالله الزبير بن العوام في المنام و هو يعتذر من يوم الجمل فقلت له كيف تعتذر منه و أنت القائل علقتهم أني خلقت عصبه قتادة تعلقت بنشبه لن أدعهم حتى أؤلف بينهم فقال لم أقلهاستطراد بلاغي في الكلام على الاستدراج :
و اعلم أن في علم البيان بابا يسمى بابالخداع و الاستدراج يناسب ما يذكره فيه علماء البيان قول أمير المؤمنين (ع) يقول لكابن خالك عرفتني بالحجاز و أنكرتني بالعراق. قالوا و من ذلك قول الله تعالى حكايةعن مؤمن آل فرعون
وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْبِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْيَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْهُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ
فإنه أخذ معهم في الاحتجاج بطريق التقسيم فقال هذا الرجلإما أن يكون كاذبا فكذبه يعود عليه و لا يتعداه و إما أن يكون صادقا فيصيبكم بعضما يعدكم به و لم يقل كل ما يعدكم به مخادعة لهم و تلطفا و استمالة لقلوبهم كي لاينفروا منه لو أغلظ في القول و أظهر لهم أنه يهضمه بعض حقه. و كذلك تقديم قسمالكذب على قسم الصدق كأنه رشاهم ذلك و جعله برطيلا لهم ليطمئنوا إلى نصحه.
[171]
و من ذلك قول إبراهيم على ما حكاه تعالى عنه في قولهإِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لايُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْيَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا يا أَبَتِ لا تَعْبُدِالشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُأَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا
فطلب منهفي مبدأ الأمر السبب في عبادته الصنم و العلة لذلك و نبهه على أن عبادة ما لا يسمعو لا يبصر و لا يغني عنه شيئا قبيحة ثم لم يقل له إني قد تبحرت في العلوم بل قالله قد حصل عندي نوع من العلم لم يحصل عندك و هذا من باب الأدب في الخطاب ثم نبههعلى أن الشيطان عاص لله فلا يجوز اتباعه ثم خوفه من عذاب الله إن اتبع الشيطان وخاطبه في جميع ذلك بقوله يا أَبَتِ
استعطافا و استدراجا كقول علي (ع) يقول لك ابنخالك فلم يجبه أبوه إلى ما أراد و لا قال له يا بني بل قال
أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْآلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ
فخاطبه بالاسم و أتاه بهمزة الاستفهام المتضمنة للإنكارثم توعده فقال لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا.
قالوا و من هذا الباب ما روي أن الحسين بن علي (ع) كلم معاوية في أمر ابنه يزيد ونهاه عن أن يعهد إليه فأبى عليه معاوية حتى أغضب كل واحد منهما صاحبه فقال الحسينع في غضون كلامه أبي خير من أبيه و أمي خير من أمه فقال معاوية يا ابن أخي أما أمكفخير من أمه و كيف تقاس امرأة من كلب بابنة رسول الله (ص) و أما أبوه فحاكم أباك إلىالله تعالى فحكم لأبيه على أبيك.
[172]
قالوا و هذا من بابالاستدراج اللطيف لأن معاوية علم أنه إن أجابه بجواب يتضمن الدعوى لكونه خيرا منعلي (ع) لم يلتفت أحد إليه و لم يكن له كلام يتعلق به لأن آثار علي (ع) في الإسلام وشرفه و فضيلته تجل أن يقاس بها أحد فعدل عن ذكر ذلك إلى التعلق بما تعلق به فكانالفلج له. ذكر هذا الخبر نصر الله بن الأثير في كتابه المسمى بالمثل السائر في بابالاستدراج.و عندي أن هذا خارج عن باب الاستدراج و أنه من باب الجوابات الإقناعيةالتي تسميها الحكماء الجدليات و الخطابيات و هي أجوبة إذا بحث عنها لم يكن وراءهاتحقيق و كانت ببادئ النظر مسكتة للخصم صالحة لمصادمته في مقام المجادلة.و مثل ذلكقول معاوية لأهل الشام حيث التحق به عقيل بن أبي طالب يا أهل الشام ما ظنكم برجللم يصلح لأخيه. و قوله لأهل الشام إن أبا لهب المذموم في القرآن باسمه عم علي بنأبي طالب فارتاع أهل الشام لذلك و شتموا عليا و لعنوه. و من ذلك قول عمر يومالسقيفة أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين قدمهما رسول الله (ص) للصلاة. و من ذلك قول علي (ع) مجيبا لمنسأله كم بين السماء و الأرض فقال دعوة مستجابة[173]
و جوابه أيضا لمن قال له كم بين المشرق و المغرب فقال مسيرة يوم للشمس و من ذلك قول أبي بكر و قد قال له عمرأقد خالدا بمالك بن نويرة سيف الله فلا أغمده. و كقوله و قد أشير عليه أيضا بأنيقيد من بعض أمرائه أنا أقيد من وزعة الله ذكر ذلك صاحب الصحاح في باب وزع. والجوابات الإقناعية كثيرة و لعلها جمهور ما يتداوله الناس و يسكت به بعضهم بعضا .[174]
32- و من خطبة له (ع) :
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا قَدْأَصْبَحْنَا فِي دَهْرٍ عَنُودٍ وَ زَمَنٍ شَدِيدٍ يُعَدُّ فِيهِ الْمُحْسِنُمُسِيئاً وَ يَزْدَادُ الظَّالِمُ فِيهِ عُتُوّاً لَا نَنْتَفِعُ بِمَا عَلِمْنَاوَ لَا نَسْأَلُ عَمَّا جَهِلْنَا وَ لَا نَتَخَوَّفُ قَارِعَةً حَتَّى تَحُلَّبِنَا وَ النَّاسُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَمْنَعُهُالْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَهَانَةُ نَفْسِهِ وَ كَلَالَةُ حَدِّهِ وَنَضِيضُ وَفْرِهِ وَ مِنْهُمْ الْمُصْلِتُ بِسَيْفِهِ وَ الْمُعْلِنُ بَشَرِّهِ وَالْمُجْلِبُ بِخَيْلِهِ وَ رَجِلِهِ قَدْ أَشْرَطَ نَفْسَهُ وَ أَوْبَقَ دِينَهُلِحُطَامٍ يَنْتَهِزُهُ أَوْ مِقْنَبٍ يَقُودُهُ أَوْ مِنْبَرٍ يَفْرَعُهُ وَلَبِئْسَ الْمَتْجَرُ أَنْ تَرَى الدُّنْيَا لِنَفْسِكَ ثَمَناً وَ مِمَّا لَكَعِنْدَ اللَّهِ عِوَضاً وَ مِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآْخِرَةِوَ لَا يَطْلُبُ الآْخِرَةَ بِعَمَلِ الدُّنْيَا قَدْ طَامَنَ مِنْ شَخْصِهِ وَقَارَبَ مِنْ خَطْوِهِ وَ شَمَّرَ مِنْ ثَوْبِهِ وَ زَخْرَفَ مِنْ نَفْسِهِلِلْأَمَانَةِ وَ اتَّخَذَ سِتْرَ اللَّهِ ذَرِيعَةً إِلَى الْمَعْصِيَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْعَدَهُ عَنْ طَلَبِ الْمُلْكِ ضُئُولَةُ نَفْسِهِ وَ انْقِطَاعُسَبَبِهِ فَقَصَرَتْهُ الْحَالُ عَلَى حَالِهِ فَتَحَلَّى بِاسْمِ الْقَنَاعَةِ وَتَزَيَّنَ بِلِبَاسِ أَهْلِ الزَّهَادَةِ وَ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي مَرَاحٍ وَلَا مَغْدًى
[175]
وَ بَقِيَ رِجَالٌ غَضَّ أَبْصَارَهُمْذِكْرُ الْمَرْجِعِ وَ أَرَاقَ دُمُوعَهُمْ خَوْفُ الْمَحْشَرِ فَهُمْ بَيْنَشَرِيدٍ نَادٍّ وَ خَائِفٍ مَقْمُوعٍ وَ سَاكِتٍ مَكْعُومٍ وَ دَاعٍ مُخْلِصٍ وَثَكْلَانَ مُوجَعٍ قَدْ أَخْمَلَتْهُمُ التَّقِيَّةُ وَ شَمِلَتْهُمُ الذِّلَّةُفَهُمْ فِي بَحْرٍ أُجَاجٍ أَفْوَاهُهُمْ ضَامِزَةٌ وَ قُلُوبُهُمْ قَرِحَةٌ قَدْوَعَظُوا حَتَّى مَلُّوا وَ قُهِرُوا حَتَّى ذَلُّوا وَ قُتِلُوا حَتَّى قَلُّوافَلْتَكُنِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِكُمْ أَصْغَرَ مِنْ حُثَالَةِ الْقَرَظِ وَقُرَاضَةِ الْجَلَمِ وَ اتَّعِظُوا بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَتَّعِظَبِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ وَ ارْفُضُوهَا ذَمِيمَةً فَإِنَّهَا قَدْ رَفَضَتْ مَنْكَانَ أَشْغَفَ بِهَا مِنْكُمْ قال الرضي رحمه اللهو هذه الخطبة ربما نسبها من لا علم له إلى معاوية و هي من كلام أمير المؤمنين (ع) الذي لا يشك فيه و أين الذهب من الرغام و أين العذب من الأجاج و قد دل على ذلكالدليل الخريت و نقده الناقد البصير عمرو بن بحر الجاحظ فإنه ذكر هذه الخطبة فيكتاب البيان و التبيين و ذكر من نسبها إلى معاوية ثم تكلم من بعدها بكلام فيمعناها جملته أنه قال و هذا الكلام بكلام علي (ع)[176]
أشبه و بمذهبه في تصنيف الناس و في الإخبار عما هم عليه من القهر و الإذلال و من التقيةو الخوف أليق قال و متى وجدنا معاوية في حال من الأحوال يسلك في كلامه مسلك الزهادو مذاهب العباد .دهر عنود جائر عند عن الطريق يعند بالضمأي عدل و جار و يمكن أن يكون من عند يعند بالكسر أي خالف و رد الحق و هو يعرفه إلاأن اسم الفاعل المشهور في ذلك عاند و عنيد و أما عنود فهو اسم فاعل من عند يعندبالضم. قوله و زمن شديد أي بخيل و منه قوله تعالىوَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِلَشَدِيدٌ
أي و إنه لبخيل لأجل حب الخير و الخير المال و قد روي و زمن كنود و هوالكفور قال تعالى إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ.
و القارعة الخطب الذييقرع أي يصيب. قوله و نضيض وفره أي قلة ماله و كان الأصل و نضاضة وفره ليكونالمصدر في مقابلة المصدر الأول و هو كلالة حده لكنه أخرجه على باب إضافة الصفة إلىالموصوف كقولهم عليه سحق عمامة و جرد قطيفة و أخلاق ثياب. قوله و المجلب بخيله ورجله المجلب اسم فاعل من أجلب عليهم أي أعان عليهم. و الرجل جمع راجل كالركب جمعراكب و الشرب جمع شارب و هذا من ألفاظ الكتاب العزيز وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ.
[177]
و أشرط نفسه أي هيأها وأعدها للفساد في الأرض. و أوبق دينه أهلكه و الحطام المال و أصله ما تكسر مناليبيس. ينتهزه يختلسه. و المقنب خيل ما بين الثلاثين إلى الأربعين. و يفرعه يعلوهو طامن من شخصه أي خفض و قارب من خطوه لم يسرع و مشى رويدا. و شمر من ثوبه قصره وزخرف من نفسه حسن و نمق و زين و الزخرف الذهب في الأصل. و ضئوله نفسه حقارتها والناد المنفرد و المكعوم من كعمت البعير إذا شددت فمه و الأجاج الملح. و أفواههمضامزة بالزاي أي ساكنة قال بشر بن أبي خازم :لقد ضمزت بجرتها سليم ** مخافتنا كما ضمز الحمار و القرظ ورق السلم يدبغ به و حثالته مايسقط منه. و الجلم المقص تجز به أوبار الإبل و قراضته ما يقع من قرضه و قطعه. فإن قيل بينوا لنا تفصيل هذه الأقسام الأربعة قيل القسم الأول من يقعد به عن طلبالإمرة قلة ماله و حقارته في نفسه. و القسم الثاني من يشمر و يطلب الإمارة و يفسدفي الأرض و يكاشف.و القسم الثالث من يظهر ناموس الدين و يطلب به الدنيا. و القسمالرابع من لا مال له أصلا و لا يكاشف و يطلب الملك و لا يطلب الدنيا[178]
بالرياء و الناموس بل تنقطع أسبابه كلها فيخلد إلىالقناعة و يتحلى بحلية الزهادة في اللذات الدنيوية لا طلبا للدنيا بل عجزا عنالحركة فيها و ليس بزاهد على الحقيقة. فإن قيل فهاهنا قسم خامس قد ذكره (ع) و همالأبرار الأتقياء الذين أراق دموعهم خوف الآخرة. قيل إنه (ع) إنما قال إن الناس علىأربعة أصناف و عنى بهم من عدا المتقين و لهذا قال لما انقضى التقسيم و بقي رجال غضأبصارهم ذكر المرجع فأبان بذلك عن أن هؤلاء خارجون عن الأقسام الأربعة .
فصل في ذكر الآيات و الأخبار الواردة فيذم الرياء و الشهرة :
و اعلم أن هذه الخطبة تتضمن الذم الكثيرلمن يدعي الآخرة من أهل زماننا و هم أهل الرياء و النفاق و لابسوا الصوف و الثيابالمرقوعة لغير وجه الله.و قد ورد في ذم الرياء شي ء كثير و قد ذكرنا بعض ذلك فيماتقدم. و من الآيات الواردة في ذلك قوله تعالى
يُراؤُنَ النَّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَاللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا. و منها قوله تعالى
فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِفَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً.
[179]
و منها قوله تعالىإِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِاللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً. و منها قوله تعالى
الَّذِينَهُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ .و من الأخبارالنبوية قوله (ص) و قد سأله رجل يا رسول الله فيم النجاة فقال ألا تعمل بطاعة الله وتريد بها الناس . و في الحديث من راءىراءى الله به و من سمع سمع الله به .و في الحديث أن اللهتعالى يقول للملائكة إن هذا العمل لم يرد صاحبه به وجهي فاجعلوه في سجين . و قال (ص) إن أخوف ماأخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا و ما الشرك الأصغر يا رسول الله قال الرياء يقولالله تعالى إذا جازى العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءونهم في الدنيافاطلبوا جزاءكم منهم .و في حديث شداد بنأوس رأيت النبي (ص) يبكي فقلت يا رسول الله ما يبكيك فقال إني تخوفت على أمتي الشركأما إنهم لا يعبدون صنما و لا شمسا و لا قمرا و لكنهم يراءون بأعمالهم .