إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَمُحَمَّداً (ص) نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ وَ أَمِيناً عَلَى التَّنْزِيلِ وَ أَنْتُمْمَعْشَرَ الْعَرَبِ عَلَى شَرِّ دِينٍ وَ فِي شَرِّ دَارٍ مُنِيخُونَ بَيْنَحِجَارَةٍ خُشْنٍ وَ حَيَّاتٍ صُمٍّ تَشْرَبُونَ الْكَدِرَ وَ تَأْكُلُونَالْجَشِبَ وَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَ تَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ الْأَصْنَامُفِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ وَ الآْثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ . يجوز أن يعني بقوله بين حجارة خشن وحيات صم الحقيقة لا المجاز و ذلك أن البادية بالحجاز و نجد و تهامة و غيرها من أرضالعرب ذات حيات و حجارة خشن و قد يعني بالحجارة الخشن الجبال أيضا أو الأصنامفيكون داخلا في قسم الحقيقة إذا فرضناه مرادا و يكون المعني بذلك وصف ما كانواعليه من البؤس و شظف العيشة و سوء الاختيار في العبادة فأبدلهم الله تعالى بذلكالريف و لين المهاد و عبادة من يستحق العبادة. و يجوز أن يعني به المجاز و هوالأحسن يقال للأعداء حيات و الحية الصماء أدهى من التي ليست بصماء لأنها لا تنزجربالصوت و يقال للعدو أيضا إنه لحجر خشن المس إذا كان ألد الخصام. و الجشب من الطعامالغليظ الخشن.
[20]
و قال أبو البختري وهب بن وهب القاضيكنت عند الرشيد يوما و استدعى ماء مبردا بالثلج فلم يوجد في الخزانة ثلج فاعتذرإليه بذلك و أحضر إليه ماء غير مثلوج فضرب وجه الغلام بالكوز و استشاط غضبا فقلتله أقول يا أمير المؤمنين و أنا آمن فقال قل قلت يا أمير المؤمنين قد رأيت ما كانمن الغير بالأمس يعني زوال دولة بني أمية و الدنيا غير دائمة و لا موثوق بها والحزم ألا تعود نفسك الترفه و النعمة بل تأكل اللين و الجشب و تلبس الناعم و الخشنو تشرب الحار و القار فنفحني بيده و قال لا و الله لا أذهب إلى ما تذهب إليه بلألبس النعمة ما لبستني فإذا نابت نوبة الدهر عدت إلى نصاب غير خوار. و قوله والآثام بكم معصوبة استعارة كأنها مشدودة إليهم. و عنى بقوله تسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم ما كانوا عليه في الجاهلية من الغارات و الحروب.وَ مِنْهَا فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَلِي مُعِينٌ إِلَّا أَهْلُ بَيْتِي فَضَنِنْتُ بِهِمْ عَنِ الْمَوْتِ وَأَغْضَيْتُ عَلَى الْقَذَى وَ شَرِبْتُ عَلَى الشَّجَا وَ صَبَرْتُ عَلَى أَخْذِالْكَظَمِ وَ عَلَى أَمَرَّ مِنْ طَعْمِ الْعَلْقَمِ .
[21]
الكظم بفتح الظاء مخرج النفس و الجمع أكظام و ضننت بالكسر بخلت و أغضيتعلى كذا غضضت طرفي و الشجا ما يعترض في الحلق .
حديث السقيفة :
اختلفت الروايات في قصة السقيفة فالذيتقوله الشيعة و قد قال قوم من المحدثين بعضه و رووا كثيرا منه أن عليا (ع) امتنع منالبيعة حتى أخرج كرها و أن الزبير بن العوام امتنع من البيعة و قال لا أبايع إلاعليا (ع) و كذلك أبو سفيان بن حرب و خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس والعباس بن عبد المطلب و بنوه و أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب و جميع بني هاشمو قالوا إن الزبير شهر سيفه فلما جاء عمر و معه جماعة من الأنصار و غيرهم قال فيجملة ما قال خذوا سيف هذا فاضربوا به الحجر و يقال إنه أخذ السيف من يد الزبيرفضرب به حجرا فكسره و ساقهم كلهم بين يديه إلى أبي بكر فحملهم على بيعته و لميتخلف إلا علي (ع) وحده فإنه اعتصم ببيت فاطمة (ع) فتحاموا إخراجه منه قسرا و قامتفاطمة (ع) إلى باب البيت فأسمعت من جاء يطلبه فتفرقوا و علموا أنه بمفرده لا يضرشيئا فتركوه.و قيل إنهم أخرجوه فيمن أخرج و حمل إلى أبي بكر فبايعه و قد روى أبوجعفر محمد بن جرير الطبري كثيرا من هذا. فأما حديث التحريق و ما جرى مجراه منالأمور الفظيعة و قول من قال إنهم أخذوا عليا (ع) يقاد بعمامته و الناس حوله فأمربعيد و الشيعة تنفرد به على أن جماعة من أهل الحديث قد رووا نحوه و سنذكر ذلك.
[22]
و قال أبو جعفر إن الأنصار لما فاتها ما طلبت منالخلافة قالت أو قال بعضها لا نبايع إلا عليا و ذكر نحو هذا علي بن عبد الكريمالمعروف بابن الأثير الموصلي في تاريخه. فأما قوله لم يكن لي معين إلا أهل بيتيفضننت بهم عن الموت فقول ما زال علي (ع) يقوله و لقد قاله عقيب وفاة رسول الله (ص) قاللو وجدت أربعين ذوي عزم. ذكر ذلك نصر بن مزاحم في كتاب صفين و ذكره كثير من أربابالسيرة. و أما الذي يقوله جمهور المحدثين و أعيانهم فإنه (ع) امتنع من البيعة ستةأشهر و لزم بيته فلم يبايع حتى ماتت فاطمة (ع) فلما ماتت بايع طوعا. و في صحيحي مسلم و البخاري كانت وجوه الناس إليه و فاطمة باقية بعد فلما ماتت فاطمة (ع) انصرفت وجوهالناس عنه و خرج من بيته فبايع أبا بكر و كانت مدة بقائها بعد أبيها (ع) ستة أشهر. وروى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ عن ابن عباس رضي الله عنه قال قال ليعبد الرحمن بن عوف و قد حججنا مع عمر شهدت اليوم أمير المؤمنين بمنى و قال له رجلإني سمعت فلانا يقول لو قد مات عمر لبايعت فلانا فقال عمر إني لقائم العشية فيالناس أحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن
[23]
يغتصبواالناس أمرهم قال عبد الرحمن فقلت يا أمير المؤمنين إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم و هم الذين يقربون من مجلسك و يغلبون عليه و أخاف أن تقول مقالة لا يعونهاو لا يحفظونها فيطيروا بها و لكن أمهل حتى تقدم المدينة و تخلص بأصحاب رسول اللهفتقول ما قلت متمكنا فيسمعوا مقالتك فقال و الله لأقومن بها أول مقام أقومهبالمدينة.قال ابن عباس فلما قدمناها هجرت يوم الجمعة لحديث عبد الرحمن فلما جلس عمر على المنبر حمد الله و أثنى عليه ثم قال بعد أن ذكر الرجم و حد الزناء إنهبلغني أن قائلا منكم يقول لو مات أمير المؤمنين بايعت فلانا فلا يغرن امرأ أن يقولإن بيعة أبي بكر كانت فلتة فلقد كانت كذلك و لكن الله وقى شرها و ليس فيكم من تقطعإليه الأعناق كأبي بكر و إنه كان من خبرنا حين توفي رسول الله (ص) أن عليا و الزبيرتخلفا عنا في بيت فاطمة و من معهما و تخلفت عنا الأنصار و اجتمع المهاجرون إلى أبيبكر فقلت له انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار فانطلقنا نحوهم فلقينا رجلان صالحانمن الأنصار قد شهدا بدرا أحدهما عويم بن ساعدة و الثاني معن بن عدي فقالا لناارجعوا فاقضوا أمركم بينكم فأتينا الأنصار و هم مجتمعون في سقيفة
[24]
بني ساعدة و بين أظهرهم رجل مزمل فقلت من هذا قالوا سعد بن عبادة وجع فقامرجل منهم فحمد الله و أثنى عليه فقال أما بعد فنحن الأنصار و كتيبة الإسلام و أنتميا معشر قريش رهط نبينا قد دفت إلينا دافة من قومكم فإذا أنتم تريدون أن تغصبوناالأمر. فلما سكت و كنت قد زورت في نفسي مقالة أقولها بين يدي أبي بكر فلما ذهبتأتكلم قال أبو بكر على رسلك فقام فحمد الله و أثنى عليه فما ترك شيئا كنت زورت فينفسي إلا جاء به أو بأحسن منه و قال يا معشر الأنصار إنكم لا تذكرون فضلا إلا وأنتم له أهل و إن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لقريش أوسط العرب دارا و نسبا و قدرضيت لكم أحد هذين الرجلين و أخذ بيدي و يد أبي عبيدة بن الجراح و الله ما كرهت منكلامه غيرها إن كنت لأقدم فتضرب عنقي فيما لا يقربني إلى إثم أحب إلى من أن أؤمرعلى قوم فيهم أبو بكر. فلما قضى أبو بكر كلامه قام رجل من الأنصار فقال أنا جذيلهاالمحكك و عذيقها المرجب منا أمير و منكم أمير
[25]
و ارتفعت الأصوات و اللغط فلما خفت الاختلاف قلت لأبي بكر ابسط يدك أبايعك فبسط يدهفبايعته و بايعه الناس ثم نزونا على سعد بن عبادة فقال قائلهم قتلتم سعدا فقلتاقتلوه قتله الله و أنا و الله ما وجدنا أمرا هو أقوى من بيعة أبي بكر خشيت إنفارقت القوم و لم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة فإما أن نبايعهم على ما لا نرضىأو نخالفهم فيكون فساد. هذا حديث متفق عليه من أهل السيرة و قد وردت الروايات فيهبزيادات روى المدائني قال لما أخذ أبو بكر بيد عمر و أبي عبيدة و قال للناس قدرضيت لكم أحد هذين الرجلين قال أبو عبيدة لعمر امدد يدك نبايعك فقال عمر ما لك فيالإسلام فهة غيرها أ تقول هذا و أبو بكر حاضر ثم قال للناس أيكم يطيب نفسا أنيتقدم قدمين قدمهما رسول الله (ص) للصلاة رضيك رسول الله (ص) لديننا أ فلا نرضاكلدنيانا ثم مد يده إلى أبي بكر فبايعه. و هذه الرواية هي التي ذكرها قاضي القضاةرحمه الله تعالى في كتاب المغني.و قال الواقدي في روايته في حكاية كلام عمر والله لأن أقدم فأنحر كما ينحر البعير أحب إلى من أن أتقدم على أبي بكر. و قال شيخنا أبو القاسم البلخي قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ إن الرجل الذي قال لو قد ماتعمر لبايعت فلانا عمار بن ياسر قال لو قد مات عمر لبايعت عليا (ع) فهذا القول هوالذي هاج عمر أن خطب بما خطب به. و قال غيره من أهل الحديث إنما كان المعزوم علىبيعته لو مات عمر طلحة بن عبيد الله.
[26]
فأما حديثالفلتة فقد كان سبق من عمر أن قال إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها فمن عادإلى مثلها فاقتلوه. و هذا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس و عبد الرحمن بن عوف فيهحديث الفلتة و لكنه منسوق على ما قاله أولا أ لا تراه يقول فلا يغرن امرأ أن يقولإن بيعة أبي بكر كانت فلتة فلقد كانت كذلك فهذا يشعر بأنه قد كان قال من قبل إنبيعة أبي بكر كانت فلتة. و قد أكثر الناس في حديث الفلتة و ذكرها شيوخنا المتكلمونفقال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى الفلتة ليست الزلة و الخطيئة بل هي البغتة وما وقع فجأة من غير روية و لا مشاورة و استشهد بقول الشاعر : من يأمن الحدثان بعد ** صبيرة القرشي ماتا سبقت منيته المشيب ** و كان ميتته افتلاتا يعني بغتة. و قال شيخنا أبو علي رحمهالله تعالى ذكر الرياشي أن العرب تسمي آخر يوم من شوال فلتة من حيث إن كل من لميدرك ثأره فيه فاته لأنهم كانوا إذا دخلوا في الأشهر الحرم لا يطلبون الثأر و ذوالقعدة من الأشهر الحرم فسموا ذلك اليوم فلتة لأنهم إذا أدركوا فيه ثأرهم فقدأدركوا ما كان يفوتهم فأراد عمر أن بيعة أبي بكر تداركها بعد أن كادت تفوت. و قولهوقى الله شرها دليل على تصويب البيعة لأن المراد بذلك أن الله تعالى دفع شرالاختلاف فيها .
[27]
فأما قوله فمن عاد إلى مثلها فاقتلوهفالمراد من عاد إلى أن يبايع من غير مشاورة و لا عدد يثبت صحة البيعة به و لاضرورة داعية إلى البيعة ثم بسط يده على المسلمين يدخلهم في البيعة قهرا فاقتلوه. قال قاضي القضاة رحمه الله تعالى و هل يشك أحد في تعظيم عمر لأبي بكر و طاعته إياهو معلوم ضرورة من حال عمر إعظامه له و القول بإمامته و الرضا بالبيعة و الثناءعليه فكيف يجوز أن يترك ما يعلم ضرورة لقول محتمل ذي وجوه و تأويلات و كيف يجوز أنتحمل هذه اللفظة من عمر على الذم و التخطئة و سوء القول. و اعلم أن هذه اللفظة منعمر مناسبة للفظات كثيرة كان يقولها بمقتضى ما جبله الله تعالى عليه من غلظ الطينةو جفاء الطبيعة و لا حيلة له فيها لأنه مجبول عليها لا يستطيع تغييرها و لا ريبعندنا أنه كان يتعاطى أن يتلطف و أن يخرج ألفاظه مخارج حسنة لطيفة فينزع به الطبعالجاسي و الغريزة الغليظة إلى أمثال هذه اللفظات و لا يقصد بها سوءا و لا يريد بهاذما و لا تخطئة كما قدمنا من قبل في اللفظة التي قالها في مرض رسول الله (ص) وكاللفظات التي قالها عام الحديبية و غير ذلك و الله تعالى لا يجازي المكلف إلا بمانواه و لقد كانت نيته من أطهر النيات و أخلصها لله سبحانه و للمسلمين و من أنصفعلم أن هذا الكلام حق و أنه يغني عن تأويل شيخنا أبي علي. و نحن من بعد نذكر ماقاله المرتضى رحمه الله تعالى في كتاب الشافي لما تكلم في هذا الموضع قال أما ماادعي من العلم الضروري برضا عمر ببيعة أبي بكر و إمامته فالمعلوم ضرورة بلا شبهةأنه كان راضيا بإمامته و ليس كل من رضي شيئا
[28]
كانمتدينا به معتقدا لصوابه فإن كثيرا من الناس يرضون بأشياء من حيث كانت دافعة لماهو أضر منها و إن كانوا لا يرونها صوابا و لو ملكوا الاختيار لاختاروا غيرها و قدعلمنا أن معاوية كان راضيا ببيعة يزيد و ولاية العهد له من بعده و لم يكن متدينابذلك و معتقدا صحته و إنما رضي عمر ببيعة أبي بكر من حيث كانت حاجزة عن بيعة أميرالمؤمنين (ع) و لو ملك الاختيار لكان مصير الأمر إليه أسر في نفسه و أقر لعينه و إنادعي أن المعلوم ضرورة تدين عمر بإمامة أبي بكر و أنه أولى بالإمامة منه فهذا مدفوعأشد دفع مع أنه قد كان يبدر من عمر في وقت بعد آخر ما يدل على ما أوردناه روىالهيثم بن عدي من عبد الله بن عياش الهمداني عن سعيد بن جبير قال ذكر أبو بكر وعمر عند عبد الله بن عمر فقال رجل كانا و الله شمسي هذه الأمة و نوريها فقال ابنعمر و ما يدريك قال الرجل أ و ليس قد ائتلفا قال ابن عمر بل اختلفا لو كنتم تعلمونأشهد أني كنت عند أبي يوما و قد أمرني أن أحبس الناس عنه فاستأذن عليه عبد الرحمنبن أبي بكر فقال عمر دويبة سوء و لهو خير من أبيه فأوحشني ذلك منه فقلت يا أبت عبدالرحمن خير من أبيه فقال و من ليس بخير من أبيه لا أم لك ائذن لعبد الرحمن فدخلعليه فكلمه في الحطيئة الشاعر أن يرضى عنه و قد كان عمر حبسه في شعر قاله فقال عمرإن في الحطيئة أودا فدعني أقومه بطول حبسه فألح عليه عبد الرحمن و أبى عمر
[29]
فخرج عبد الرحمن فأقبل علي أبي و قال أ في غفلة أنت إلى يومك هذا عما كانمن تقدم أحيمق بني تيم علي و ظلمه لي فقلت لا علم لي بما كان من ذلك قال يا بنيفما عسيت أن تعلم فقلت و الله لهو أحب إلى الناس من ضياء أبصارهم قال إن ذلك لكذلكعلى رغم أبيك و سخطه قلت يا أبت أ فلا تجلي عن فعله بموقف في الناس تبين ذلك لهمقال و كيف لي بذلك مع ما ذكرت أنه أحب إلى الناس من ضياء أبصارهم إذن يرضخ رأسأبيك بالجندل قال ابن عمر ثم تجاسر و الله فجسر فما دارت الجمعة حتى قام خطيبا فيالناس فقال أيها الناس إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها فمن دعاكم إلىمثلها فاقتلوه. و روى الهيثم بن عدي عن مجالد بن سعيد قال غدوت يوما إلى الشعبي وأنا أريد أن أسأله عن شي ء بلغني عن ابن مسعود أنه كان يقوله فأتيته و هو في مسجدحيه و في المسجد قوم ينتظرونه فخرج فتعرفت إليه و قلت أصلحك الله كان ابن مسعوديقول ما كنت محدثا قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة قال نعم كانابن مسعود يقول ذلك و كان ابن عباس يقوله أيضا و كان عند ابن عباس دفائن علميعطيها أهلها و يصرفها عن غيرهم فبينا نحن كذلك إذ أقبل رجل من الأزد فجلس إلينافأخذنا في ذكر أبي بكر و عمر فضحك الشعبي و قال لقد كان في صدر عمر ضب على أبي بكرفقال الأزدي و الله ما رأينا و لا سمعنا برجل قط كان أسلس قيادا لرجل
[30]
و لا أقول فيه بالجميل من عمر في أبي بكر فأقبل علىالشعبي و قال هذا مما سألت عنه ثم أقبل على الرجل و قال يا أخا الأزد فكيف تصنعبالفلتة التي وقى الله شرها أ ترى عدوا يقول في عدو يريد أن يهدم ما بنى لنفسه فيالناس أكثر من قول عمر في أبي بكر فقال الرجل سبحان الله أنت تقول ذلك يا أبا عمروفقال الشعبي أنا أقوله قاله عمر بن الخطاب على رءوس الأشهاد فلمه أو دع فنهض الرجلمغضبا و هو يهمهم في الكلام بشي ء لم أفهمه قال مجالد فقلت للشعبي ما أحسب هذاالرجل إلا سينقل عنك هذا الكلام إلى الناس و يبثه فيهم قال إذن و الله لا أحفل بهو شي ء لم يحفل به عمر حين قام على رءوس الأشهاد من المهاجرين و الأنصار أحفل بهأنا أذيعوه أنتم عني أيضا ما بدا لكم. و روى شريك بن عبد الله النخعي عن محمد بنعمرو بن مرة عن أبيه عن عبد الله بن سلمة عن أبي موسى الأشعري قال حججت مع عمرفلما نزلنا و عظم الناس خرجت من رحلي أريده فلقيني المغيرة بن شعبة فرافقني ثم قالأين تريد فقلت أمير المؤمنين فهل لك قال نعم فانطلقنا نريد رحل عمر فإنا لفيطريقنا إذ ذكرنا تولى عمر و قيامه بما هو فيه و حياطته على الإم و نهوضه بما قبلهمن ذلك ثم خرجنا إلى ذكر أبي بكر فقلت للمغيرة يا لك الخير لقد كان أبو بكر مسددافي عمر لكأنه ينظر إلى قيامه من بعده و جده و اجتهاده و غنائه في الإسلام فقالالمغيرة لقد كان ذلك و إن كان قوم كرهوا ولاية عمر ليزووها عنه و ما كان لهم فيذلك من حظ فقلت له لا أبا لك و من القوم الذين كرهوا ذلك لعمر فقال المغيرة لله أنت كأنك
[31]
لا تعرف هذا الحي من قريش و ما خصوا به من الحسد فو الله لو كان هذا الحسديدرك بحساب لكان لقريش تسعة أعشاره و للناس كلهم عشر فقلت مه يا مغيرة فإن قريشابانت بفضلها على الناس فلم نزل في مثل ذلك حتى انتهينا إلى رحل عمر فلم نجدهفسألنا عنه فقيل قد خرج آنفا فمضينا نقفو أثره حتى دخلنا المسجد فإذا عمر يطوفبالبيت فطفنا معه فلما فرغ دخل بيني و بين المغيرة فتوكأ على المغيرة و قال من أينجئتما فقلنا خرجنا نريدك يا أمير المؤمنين فأتينا رحلك فقيل لنا خرج إلى المسجدفاتبعناك فقال اتبعكما الخير ثم نظر المغيرة إلي و تبسم فرمقه عمر فقال مم تبسمتأيها العبد فقال من حديث كنت أنا و أبو موسى فيه آنفا في طريقنا إليك قال و ما ذاكالحديث فقصصنا عليه الخبر حتى بلغنا ذكر حسد قريش و ذكر من أراد صرف أبي بكر عناستخلاف عمر فتنفس الصعداء ثم قال ثكلتك أمك يا مغيرة و ما تسعة أعشار الحسد بل وتسعة أعشار العشر و في الناس كلهم عشر العشر بل و قريش شركاؤهم أيضا فيه و سكت ملياو هو يتهادى بيننا ثم قال أ لا أخبركما بأحسد قريش كلها قلنا بلى يا أمير المؤمنينقال و عليكما ثيابكما قلنا نعم قال و كيف بذلك و أنتما ملبسان ثيابكما قلنا ياأمير المؤمنين و ما بال الثياب قال خوف الإذاعة منها قلنا له أ تخاف الإذاعة منالثياب أنت و أنت من ملبس الثياب أخوف و ما الثياب أردت قال هو ذاك ثم انطلق وانطلقنا معه حتى انتهينا إلى رحله فخلى أيدينا من يده ثم قال لا تريما و دخل فقلتللمغيرة لا أبا لك لقد عثرنا بكلامنا معه و ما كنا فيه و ما نراه حبسنا إلاليذاكرنا إياها قال فإنا لكذلك إذ أخرج إذنه إلينا فقال ادخلا فدخلنا فوجدناهمستلقيا على برذعة برحل فلما رآنا تمثل بقول كعب بن زهير :لا تفش سرك إلا عند ذي ثقة ** أولى و أفضل ما استودعت أسرارا
[32]
صدرا رحيبا و قلبا واسعا قمنا ** ألا تخاف متى أودعت إظهارا فعلمنا أنه يريد أن نضمن له كتمان حديثهفقلت أنا له يا أمير المؤمنين الزمنا و خصنا و صلنا قال بما ذا يا أخا الأشعرينفقلت بإفشاء سرك و أن تشركنا في همتك فنعم المستشاران نحن لك قال إنكما كذلكفاسألا عما بدا لكما ثم قام إلى الباب ليعلقه فإذا الآذن الذي أذن لنا عليه فيالحجرة فقال امض عنا لا أم لك فخرج و أغلق الباب خلفه ثم أقبل علينا فجلس معنا وقال سلا تخبرا قلنا نريد أن يخبرنا أمير المؤمنين بأحسد قريش الذي لم يأمن ثيابناعلى ذكره لنا فقال سألتما عن معضلة و سأخبركما فليكن عندكما في ذمة منيعة و حرز مابقيت فإذا مت فشأنكما و ما شئتما من إظهار أو كتمان قلنا فإن لك عندنا ذلك قال أبوموسى و أنا أقول في نفسي ما يريد إلا الذين كرهوا استخلاف أبي بكر له كطلحة و غيرهفإنهم قالوا لأبي بكر أ تستخلف علينا فظا غليظا و إذا هو يذهب إلى غير ما في نفسيفعاد إلى التنفس ثم قال من تريانه قلنا و الله ما ندري إلا ظنا قال و ما تظنانقلنا عساك تريد القوم الذين أرادوا أبا بكر على صرف هذا الأمر عنك قال كلا و اللهبل كان أبو بكر أعق و هو الذي سألتما عنه كان و الله أحسد قريش كلها ثم أطرق طويلافنظر المغيرة إلي و نظرت إليه و أطرقنا مليا لإطراقه و طال السكوت منا و منه حتىظننا أنه قد ندم على ما بدا منه ثم قال وا لهفاه على ضئيل بني تيم بن مرة لقدتقدمني ظالما و خرج إلي منها آثما فقال المغيرة أما تقدمه عليك يا أمير المؤمنينظالما فقد عرفناه كيف خرج إليك منها آثما قال ذاك لأنه لم يخرج إلي منها إلا بعديأس منها أما و الله لو كنت أطعت يزيد بن الخطاب و أصحابه لم يتلمظ من حلاوتهابشي ء أبدا و لكني قدمت و أخرت و صعدت و صوبت و نقضت و أبرمت فلم أجد إلا الإغضاءعلى ما نشب به منها و التلهف على نفسي و أملت إنابته و رجوعه فو الله ما فعل حتى نغر بها بشما
[33]
قال المغيرة فما منعك منها يا أميرالمؤمنين و قد عرضك لها يوم السقيفة بدعائك إليها ثم أنت الآن تنقم و تتأسف قالثكلتك أمك يا مغيرة إني كنت لأعدك من دهاة العرب كأنك كنت غائبا عما هناك إن الرجلماكرني فماكرته و ألفاني أحذر من قطاة إنه لما رأى شغف الناس به و إقبالهم بوجوههمعليه أيقن أنهم لا يريدون به بدلا فأحب لما رأى من حرص الناس عليه و ميلهم إليه أنيعلم ما عندي و هل تنازعني نفسي إليها و أحب أن يبلوني بإطماعي فيها و التعريض ليبها و قد علم و علمت لو قبلت ما عرضه علي لم يجب الناس إلى ذلك فألفاني قائما علىأخمصي مستوفزا حذرا و لو أجبته إلى قبولها لم يسلم الناس إلي ذلك و اختبأها ضغناعلي في قلبه و لم آمن غائلته و لو بعد حين مع ما بدا لي من كراهة الناس لي أ ماسمعت نداءهم من كل ناحية عند عرضها علي لا نريد سواك يا أبا بكر أنت لها فرددتهاإليه عند ذلك فلقد رأيته التمع وجهه لذلك سرورا و لقد عاتبني مرة على كلام بلغهعني و ذلك لما قدم عليه بالأشعث أسيرا فمن عليه و أطلقه و زوجه أخته أم فروة فقلتللأشعث و هو قاعد بين يديه يا عدو الله أ كفرت بعد إسلامك و ارتددت ناكصا علىعقبيك فنظر إلي نظرا علمت أنه يريد أن يكلمني بكلام في نفسه ثم لقيني بعد ذلك فيسكك المدينة فقال لي أنت صاحب الكلام يا ابن الخطاب فقلت نعم يا عدو الله و لكعندي شر من ذلك فقال بئس الجزاء هذا لي منك قلت و علام تريد مني حسن الجزاء قاللأنفتي لك من اتباع هذا الرجل و الله ما جرأني على الخلاف عليه إلا تقدمه عليك وتخلفك عنها و لو كنت صاحبها لما رأيت مني خلافا عليك قلت لقد كان ذلك فما تأمرالآن قال إنه ليس بوقت أمر بل وقت صبر و مضى و مضيت و لقي الأشعث الزبرقان بن بدرفذكر له ما جرى بيني و بينه فنقل ذلك إلى أبي بكر فأرسل إلي بعتاب مؤلم فأرسلت إليه أما و الله
[34]
لتكفن أو لأقولن كلمة بالغة بي و بك في الناس تحملها الركبان حيث ساروا وإن شئت استدمنا ما نحن فيه عفوا فقال بل نستديمه و إنها لصائرة إليك بعد أيامفظننت أنه لا يأتي عليه جمعة حتى يردها علي فتغافل و الله ما ذاكرني بعد ذلك حرفاحتى هلك. و لقد مد في أمدها عاضا على نواجذه حتى حضره الموت و أيس منها فكان منهما رأيتما فاكتما ما قلت لكما عن الناس كافة و عن بني هاشم خاصة و ليكن منكما بحيثأمرتكما قوما إذا شئتما على بركة الله فقمنا و نحن نعجب من قوله فو الله ما أفشيناسره حتى هلك. قال المرتضى و ليس في طعن عمر على أبي بكر ما يؤدي إلى فساد خلافتهإذ له أن يثبت إمامة نفسه بالإجماع لا بنص أبي بكر عليه و أما الفلتة فإنها و إنكانت محتملة للبغتة كما قاله أبو علي رحمه الله تعالى إلا أن قوله وقى الله شرهايخصصها بأن مخرجها مخرج الذم و كذلك قوله فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه و قوله المرادوقى الله شر الاختلاف فيها عدول عن الظاهر لأن الشر في الكلام مضاف إليها دونغيرها و أبعد من هذا التأويل قوله إن المراد من عاد إلى مثلها من غير ضرورة و أكرهالمسلمين عليها فاقتلوه لأن ما جرى هذا المجرى لا يكون مثلا لبيعة أبي بكر عندهم لأنكل ذلك ما جرى فيها على مذاهبهم و قد كان يجب على هذا أن يقول فمن عاد إلى خلافهافاقتلوه. و ليس له أن يقول إنما أراد بالمثل وجها واحدا و هو وقوعها من غير مشاورةلأن ذلك إنما تم في أبي بكر خاصة بظهور أمره و اشتهار فضله و لأنهم بادروا إلىالعقد خوفا من الفتنة و ذلك لأنه غير منكر أن يتفق من ظهور فضل غير أبي بكر واشتهار أمره و خوف الفتنة ما اتفق لأبي بكر فلا يستحق قتلا و لا ذما على أن قولهمثلها يقتضي وقوعها على الوجه الذي وقعت عليه فكيف يكون ما وقع من غير مشاورةلضرورة داعية و أسباب موجبة مثلا لما وقع بلا مشاورة و من غير ضرورة و لا أسباب والذي رواه عن أهل اللغة
[35]
من أن آخر يوم من شوال يسمىفلتة من حيث إن من لم يدرك فيه الثأر فإنه قول لا نعرفه و الذي نعرفه أنهم يسمونالليلة التي ينقضي بها آخر الأشهر الحرم و يتم فلتة و هي آخر ليلة من ليالي الشهرلأنه ربما رأى الهلال قوم لتسع و عشرين و لم يبصره الباقون فيغير هؤلاء على أولئكو هم غارون فلهذا سميت تلك الليلة فلتة على أنا قد بينا أن مجموع الكلام يقتضي ماذكرناه من المعنى لو سلم له ما رواه عن أهل اللغة في احتمال هذه اللفظة.