قال و قد ذكر صاحب كتاب العين أن الفلتة الأمر الذي يقع على غير إحكام فقد صح أنها موضوعةفي اللغة لهذا و إن جاز ألا تختص به بل تكون لفظة مشتركة. و بعد فلو كان عمر لميرد بقوله توهين بيعة أبي بكر بل أراد ما ظنه المخالفون لكان ذلك عائدا عليهبالنقص لأنه وضع كلامه في غير موضعه و أراد شيئا فعبر عن خلافه فليس يخرج هذاالخبر من أن يكون طعنا على أبي بكر إلا بأن يكون طعنا على عمر. و اعلم أنه لا يبعدأن يقال إن الرضا و السخط و الحب و البغض و ما شاكل ذلك من الأخلاق النفسانية و إنكانت أمورا باطنة فإنها قد تعلم و يضطر الحاضرون إلى تحصيلها بقرائن أحوال تفيدهمالعلم الضروري كما يعلم خوف الخائف و سرور المبتهج و قد يكون الإنسان عاشقا لآخرفيعلم المخالطون لهما ضرورة أنه يعشقه لما يشاهدونه من قرائن الأحوال و كذلك يعلممن قرائن أحوال العابد المجتهد في العبادة و صوم الهواجر و ملازمة الأوراد و سهرالليل أنه يتدين بذلك فغير منكر أن يقول قاضي القضاة رحمه الله
[36]
تعالى إن المعلوم ضرورة من حال عمر تعظيم أبي بكر و رضاه بخلافته و تدينهبذلك فالذي اعترضه رحمه الله تعالى به غير وارد عليه و أما الأخبار التي رواها عنعمر فأخبار غريبة ما رأيناها في الكتب المدونة و ما وقفنا عليها إلا من كتابالمرتضى و كتاب آخر يعرف بكتاب المسترشد لمحمد بن جرير الطبري و ليس هو محمد بنجرير صاحب التاريخ بل هو من رجال الشيعة و أظن أن أمه من بني جرير من مدينة آملطبرستان و بنو جرير الآمليون شيعة مستهترون بالتشيع فنسب إلى أخواله و يدل على ذلك شعر مروي له و هو : بآمل مولدي و بنو جرير ** فأخوالي و يحكي المرء خاله فمن يك رافضيا عن أبيه ** فإني رافضي عن كلاله و أنت تعلم حال الأخبار الغريبة التي لاتوجد في الكتب المدونة كيف هي فأما إنكاره ما ذكره شيخنا أبو علي رحمه الله تعالىمن أن الفلتة هي آخر يوم من شوال و قوله إنا لا نعرفه فليس الأمر كذلك بل هو تفسيرصحيح ذكره الجوهري في كتاب الصحاح قال الفلتة آخر ليلة من كل شهر و يقال هي آخريوم من الشهر الذي بعده الشهر الحرام و هذا يدل على أن آخر يوم من شوال يسمى فلتةو كذلك آخر يوم من جمادى الآخرة و إنما التفسير الذي ذكره المرتضى غير معروف عندأهل اللغة. و أما ما ذكره من إفساد حمل الفلتة في الخبر على هذه الوجوه المتأولةفجيد إلا أن الإنصاف أن عمر لم يخرج الكلام مخرج الذم لأمر أبي بكر و إنما أرادباللفظة محض حقيقتها في اللغة ذكر صاحب الصحاح أن الفلتة الأمر الذي يعمل فجأة من[37]
غير تردد و لا تدبر و هكذا كانت بيعة أبي بكر لأنالأمر لم يكن فيها شورى بين المسلمين و إنما وقعت بغتة لم تمحص فيها الآراء و لميتناظر فيها الرجال و كانت كالشي ء المستلب المنتهب و كان عمر يخاف أن يموت عن غيروصية أو يقتل قتلا فيبايع أحد من المسلمين بغتة كبيعة أبي بكر فخطب بما خطب به وقال معتذرا إلا أنه ليس فيكم من تقطع إليه الأعناق كأبي بكر. و أيضا قول المرتضىقد يتفق من ظهور فضل غير أبي بكر و خوف الفتنة مثل ما اتفق لأبي بكر فلا يستحق القتلفإن لقائل أن يقول إن عمر لم يخاطب بهذا إلا أهل عصره و كان هو رحمه الله يذهب إلىأنه ليس فيهم كأبي بكر و لا من يحتمل له أن يبايع فلتة كما احتمل ذلك لأبي بكر فإناتفق أن يكون في عصر آخر بعد عصره من يظهر فضله و يكون في زمانه كأبي بكر في زمانهفهو غير داخل في نهي عمر و تحريمه.و اعلم أن الشيعة لم تسلم لعمر أن بيعة أبي بكركانت فلتة قال محمد بن هانئ المغربي : و لكن أمرا كان أبرم بينهم ** و إن قال قوم فلتة غير مبرم و قال آخر :زعموها فلتة فاجئة لا ** و رب البيت و الركن المشيد إنما كانت أمورا نسجت ** بينهم أسبابها نسج البرود و روى أبو جعفر أيضا في التاريخ أن رسولالله (ص) لما قبض اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة و أخرجوا سعد بن عبادة ليولوهالخلافة و كان[38]
مريضا فخطبهم و دعاهم إلى إعطائهالرئاسة و الخلافة فأجابوه ثم ترادوا الكلام فقالوا فإن أبى المهاجرون و قالوا نحنأولياؤه و عترته فقال قوم من الأنصار نقول منا أمير و منكم أمير فقال سعد فهذا أولالوهن و سمع عمر الخبر فأتى منزل رسول الله (ص) و فيه أبو بكر فأرسل إليه أن اخرجإلي فأرسل أني مشغول فأرسل إليه عمر أن اخرج فقد حدث أمر لا بد أن تحضره فخرج فأعلمهالخبر فمضيا مسرعين نحوهم و معهما أبو عبيدة فتكلم أبو بكر فذكر قرب المهاجرين منرسول الله (ص) و أنهم أولياؤه و عترته ثم قال نحن الأمراء و أنتم الوزراء لا نفتاتعليكم بمشورة و لا نقضي دونكم الأمور. فقام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال يامعشر الأنصار املكوا عليكم أمركم فإن الناس في ظلكم و لن يجترئ مجترئ على خلافكم ولا يصدر أحد إلا عن رأيكم أنتم أهل العزة و المنعة و أولو العدد و الكثرة و ذووالبأس و النجدة و إنما ينظر الناس ما تصنعون فلا تختلفوا فتفسد عليكم أموركم فإنأبى هؤلاء إلا ما سمعتم فمنا أمير و منهم أمير.فقال عمر هيهات لا يجتمع سيفان فيغمد و الله لا ترضى العرب أن تؤمركم و نبيها من غيركم و لا تمتنع العرب أن توليأمرها من كانت النبوة منهم من ينازعنا سلطان محمد و نحن أولياؤه و عشيرته.فقالالحباب بن المنذر يا معشر الأنصار املكوا أيديكم و لا تسمعوا مقالة هذا و أصحابهفيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر فإن أبوا عليكم فأجلوهم من هذه البلاد فأنتم أحقبهذا الأمر منهم فإنه بأسيافكم دان الناس بهذا الدين أنا جذيلها المحكك و عذيقهاالمرجب[39]
أنا أبو شبل في عريسة الأسد و الله إن شئتملنعيدنها جذعة. فقال عمر إذن يقتلك الله قال بل إياك يقتل. فقال أبو عبيدة يا معشرالأنصار إنكم أول من نصر و آزر فلا تكونوا أول من بدل و غير. فقام بشير بن سعدوالد النعمان بن بشير فقال يا معشر الأنصار ألا إن محمدا من قريش و قومه أولى به وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر. فقال أبو بكر هذا عمر و أبو عبيدةبايعوا أيهما شئتم فقالا و الله لا نتولى هذا الأمر عليك و أنت أفضل المهاجرين وخليفة رسول الله (ص) في الصلاة و هي أفضل الدين ابسط يدك فلما بسط يده ليبايعاهسبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه فناداه الحباب بن المنذر يا بشير عققت عقاق أ نفستعلى ابن عمك الإمارة.فقال أسيد بن حضير رئيس الأوس لأصحابه و الله لئن لم تبايعواليكونن للخزرج عليكم الفضيلة أبدا فقاموا فبايعوا أبا بكر. فانكسر على سعد بنعبادة و الخزرج ما اجتمعوا عليه و أقبل الناس يبايعون أبا بكر من كل جانب ثم حمل سعدبن عبادة إلى داره فبقي أياما و أرسل إليه أبو بكر ليبايع فقال لا و الله حتىأرميكم بما في كنانتي و أخضب سنان رمحي و أضرب بسيفي ما أطاعني و أقاتلكم بأهلبيتي و من تبعني و لو اجتمع معكم الجن و الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي. فقالعمر لا تدعه حتى يبايع فقال بشير بن سعد إنه قد لج و ليس بمبايع لكم[40]
حتى يقتل و ليس بمقتول حتى يقتل معه أهله و طائفة من عشيرته و لا يضركمتركه إنما هو رجل واحد فتركوه.و جاءت أسلم فبايعت فقوي بهم جانب أبي بكر و بايعهالناس. و في كتب غريب الحديث في تتمة كلام عمر فأيما رجل بايع رجلا بغير مشورة منالناس فلا يؤمر واحد منهما تغرة أن يقتلا. قالوا غرر تغريرا و تغرة كما قالوا حللتحليلا و تحلة و علل تعليلا و تعلة و انتصب تغرة هاهنا لأنه مفعول له و معنىالكلام أنه إذا بايع واحد لآخر بغتة عن غير شورى فلا يؤمر واحد منهما لأنهما قدغررا بأنفسهما تغرة و عرضاهما لأن تقتلا. و روى جميع أصحاب السيرة أن رسول الله صلما توفي كان أبو بكر في منزله بالسنح فقال عمر بن الخطاب فقال ما مات رسول الله صو لا يموت حتى يظهر دينه على الدين كله و ليرجعن فليقطعن أيدي رجال و أرجلهم ممن أرجفبموته لا أسمع رجلا يقول مات رسول الله إلا ضربته بسيفي فجاء أبو بكر و كشف عن وجهرسول الله (ص) و قال بأبي و أمي طبت حيا و ميتا و الله لا يذيقك الله الموتتين أبداثم خرج و الناس حول عمر و هو يقول لهم إنه لم يمت و يحلف فقال له أيها الحالف علىرسلك ثم قال من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات و من كان يعبد الله فإن الله حيلا يموت قال الله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ و قالأَ فَإِنْماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ
قال عمر فو الله
[41]
ما ملكت نفسي حيث سمعتها أن سقطت إلى الأرض و علمت أنرسول الله (ص) قد مات و قد تكلمت الشيعة في هذا الموضع و قالوا إنه بلغ من قلة علمهأنه لم يعلم أن الموت يجوز على رسول الله (ص) و أنه أسوة الأنبياء في ذلك و قال لماتلا أبو بكر الآيات أيقنت الآن بوفاته كأني لم أسمع هذه الآية فلو كان يحفظ القرآنأو يتفكر فيه ما قال ذلك و من هذه حاله لا يجوز أن يكون إماما. و أجاب قاضي القضاةرحمه الله تعالى في المغني عن هذا فقال إن عمر لم يمنع من جواز موته (ع) و لا نفىكونه ممكنا و لكنه تأول في ذلك قوله تعالىهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُبِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ
و قال كيف يموتو لم يظهر (ص) على الدين كله فقال أبو بكر إذا ظهر دينه فقد ظهر هو و سيظهر دينه بعدوفاته. فحمل عمر قوله تعالى أَ فَإِنْ ماتَ
على تأخر الموت لا على نفيه بالكليةقال و لا يجب فيمن ذهل عن بعض أحكام القرآن ألا يحفظ القرآن لأن الأمر لو كان كذلكلوجب ألا يحفظ القرآن إلا من عرف جميع أحكامه على أن حفظ جميع القرآن غير واجب ولا يقدح الإخلال به في الفضل. و اعترض المرتضى رحمه الله تعالى في كتاب الشافي هذاالكلام فقال لا يخلو خلاف عمر في وفاة رسول الله (ص) من أن يكون على سبيل الإنكارلموته على كل حال و الاعتقاد أن الموت لا يجوز عليه على كل وجه أو يكون منكرا لموته في
[42]
تلك الحال من حيث لم يظهر على الدين كله فإن كان الأول فهو مما لا يجوزخلاف عاقل فيه و العلم بجواز الموت على جميع البشر ضروري و ليس يحتاج في حصول هذاالعلم إلى تلاوة الآيات التي تلاها أبو بكر و إن كان الثاني فأول ما فيه أن هذاالاختلاف لا يليق بما احتج به أبو بكر عليه من قوله إِنَّكَ مَيِّتٌلأن عمر لمينكر على هذا الوجه جواز الموت عليه و صحته و إنما خالف في وقته فكان يجب أن يقوللأبي بكر و أي حجة في هذه الآيات علي فإني لم أمنع جواز موته و إنما منعت وقوعموته الآن و جوزته في المستقبل و الآيات إنما تدل على جواز الموت فقط لا علىتخصيصه بحال معينة. و بعد فكيف دخلت هذه الشبهة البعيدة على عمر من بين سائر الخلقو من أين زعم أنه سيعود فيقطع أيدي رجال و أرجلهم و كيف لم يحصل له من اليقين لمارأى من الواعية و كآبة الخلق و إغلاق الباب و صراخ النساء ما يدفع به ذلك الوهم والشبهة البعيدة فلم يحتج إلى موقف. و بعد فيجب إن كانت هذه شبهته أن يقول في مرضالنبي (ص) و قد رأى جزع أهله و خوفهم عليه الموت و قول أسامة صاحب الجيش لم أكنلأرحل و أنت هكذا و أسأل عنك الركب يا هؤلاء لا تخافوا و لا تجزعوا و لا تخف أنتيا أسامة فإن رسول الله (ص) لا يموت الآن لأنه لم يظهر على الدين كله. و بعد فليسهذا من أحكام الكتاب التي يعذر من لا يعرفها على ما ظن المعتذر له. و نحن نقول إنعمر كان أجل قدرا من أن يعتقد ما ظهر عنه في هذه الواقعة