و روى نصر أيضا عن عمر بنسعد قال قال معاوية لعمرو يا أبا عبد الله إني أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الذي عصىالله و شق عصا المسلمين و قتل الخليفة و أظهر الفتنة و فرق
[65]
الجماعة و قطع الرحم فقال عمرو من هو قال علي قال و الله يا معاوية ما أنت وعلي بحملي بعير ليس لك هجرته و لا سابقته و لا صحبته و لا جهاده و لا فقهه و لاعلمه و و الله إن له مع ذلك لحظا في الحرب ليس لأحد غيره و لكني قد تعودت من اللهتعالى إحسانا و بلاء جميلا فما تجعل لي إن شايعتك على حربه و أنت تعلم ما فيه منالغرر و الخطر قال حكمك فقال مصر طعمة فتلكأ عليه معاوية. قال نصر و في حديث غيرعمر بن سعد فقال له معاوية يا أبا عبد الله إني أكره لك أن تتحدث العرب عنك أنكإنما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا قال عمرو دعني عنك فقال معاوية إني لو شئت أنأمنيك و أخدعك لفعلت قال عمرو لا لعمر الله ما مثلي يخدع لأنا أكيس من ذلك قالمعاوية ادن مني أسارك فدنا منه عمرو ليساره فعض معاوية أذنه و قال هذه خدعة هل ترىفي البيت أحدا ليس غيري و غيرك. قلت قال شيخنا أبو القاسم البلخي رحمه الله تعالىقول عمرو له دعني عنك كناية عن الإلحاد بل تصريح به أي دع هذا الكلام لا أصل لهفإن اعتقاد الآخرة و أنها لا تباع بعرض الدنيا من الخرافات.و قال رحمه الله تعالىو ما زال عمرو بن العاص ملحدا ما تردد قط في الإلحاد و الزندقة و كان معاوية مثلهو يكفي من تلاعبهما بالإسلام حديث السرار المروي و أن معاوية عض أذن عمرو أين هذامن سيرة عمر و أين هذا من أخلاق علي (ع) و شدته في ذات الله و هما مع ذلك يعيبانهبالدعابة.[66]
قال نصر فأنشأ عمرو يقول : معاوي لا أعطيك ديني و لم أنل به ** منك دنيا فانظرن كيف تصنع فإن تعطني مصرا فأربح بصفقة ** أخذت بها شيخا يضر و ينفع و ما الدين و الدنيا سواء و إنني** لآخذ ما تعطي و رأسي مقنع و لكنني أغضي الجفون و إنني ** لأخدع نفسي و المخادع يخدع و أعطيك أمرا فيه للملك قوة ** و ألفي به إن زلت النعل أصرع و تمنعني مصرا و ليست برغبة ** و إني بذا الممنوع قدما لمولع قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ كانت مصر فينفس عمرو بن العاص لأنه هو الذي فتحها في سنة تسع عشرة من الهجرة في خلافة عمرفكان لعظمها في نفسه و جلالتها في صدره و ما قد عرفه من أموالها و سعة الدنيا لايستعظم أن يجعلها ثمنا من دينه و هذا معنى قوله :و إني بذا الممنوع قدما لمولع قال نصر فقال له معاوية يا أبا عبد اللهأ ما تعلم أن مصر مثل العراق قال بلى و لكنها إنما تكون لي إذا كانت لك و إنماتكون لك إذا غلبت عليا على العراق. قال و قد كان أهل مصر بعثوا بطاعتهم إلى علي ع. فلما حضر عتبة بن أبي سفيان قال لمعاوية أ ما ترضى أن تشتري عمرا بمصر[67]
إن هي صفت لك ليتك لا تغلب على الشام فقال معاوية ياعتبة بت عندنا الليلة فلما جن الليل على عتبة رفع صوته ليسمع معاوية و قال : أيها المانع سيفا لم يهز ** إنما ملت على خز و قز إنما أنت خروف ماثل ** بين ضرعين و صوف لم يجز أعط عمرا إن عمرا تارك ** دينه اليوم لدنيا لم تحز يا لك الخير فخذ من دره ** شخبه الأول و ابعد ما غرز و اسحب الذيل و بادر فوقها ** و انتهزها إن عمرا ينتهز أعطه مصرا و زده مثلها ** إنما مصر لمن عز فبز و اترك الحرص عليها ضلة ** و اشبب النار لمقرور يكز إن مصرا لعلي أو لنا ** يغلب اليوم عليها من عجز قال فلما سمع معاوية قول عتبة أرسل إلىعمرو فأعطاه مصر . فقال عمرو لي الله عليك بذلك شاهد قال نعم لك الله علي بذلك إنفتح الله علينا الكوفة فقال عمرو و اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ.فخرج عمرو منعنده فقال له ابناه ما صنعت قال أعطانا مصر طعمة قالا و ما مصر في ملك العرب قاللا أشبع الله بطونكما إن لم تشبعكما مصر. قال و كتب معاوية له بمصر كتابه و كتبعلى ألا ينقض شرط طاعة فكتب عمرو على ألا تنقض طاعة شرطا فكايد كل واحد منهماصاحبه. قلت قد ذكر هذا اللفظ أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتابه الكامل
[68]
و لم يفسره و تفسيره أن معاوية قال للكاتب اكتب علىألا ينقض شرط طاعة يريد أخذ إقرار عمرو له أنه قد بايعه على الطاعة بيعة مطلقة غيرمشروطة بشي ء و هذه مكايدة له لأنه لو كتب ذلك لكان لمعاوية أن يرجع في إعطائه مصرو لم يكن لعمرو أن يرجع عن طاعته و يحتج عليه برجوعه عن إعطائه مصر لأن مقتضىالمشارطة المذكورة أن طاعة معاوية واجبة عليه مطلقا سواء أ كانت مصر مسلمة إليه أملا. فلما انتبه عمرو إلى هذه المكيدة منع الكاتب من أن يكتب ذلك و قال بل اكتب علىألا تنقض طاعة شرطا يريد أخذ إقرار معاوية له بأنه إذا كان أطاعه لا تنقض طاعتهإياه ما شارطه عليه من تسليم مصر إليه و هذا أيضا مكايدة من عمرو لمعاوية و منع لهمن أن يغدر بما أعطاه من مصر قال نصر و كان لعمرو بن العاص عم من بني سهم أريبفلما جاء عمرو بالكتاب مسرورا عجب الفتى و قال أ لا تخبرني يا عمرو بأي رأي تعيشفي قريش أعطيت دينك و تمنيت دنيا غيرك أ ترى أهل مصر و هم قتلة عثمان يدفعونها إلىمعاوية و علي حي و أ تراها إن صارت لمعاوية لا يأخذها بالحرف الذي قدمه في الكتابفقال عمرو يا ابن أخي إن الأمر لله دون علي و معاوية فقال الفتى:ألا يا هند أخت بني زياد ** رمي عمرو بداهية البلاد رمي عمرو بأعور عبشمي ** بعيد القعر مخشي الكياد له خدع يحار العقل منها ** مزخرفة صوائد للفؤاد فشرط في الكتاب عليه حرفا ** يناديه بخدعته المنادي[69]
و أثبت مثله عمرو عليه كلا المرأين حية بطن وادألا يا عمرو ما أحرزت مصراو لا ملت الغداة إلى الرشادأ بعت الدين بالدنيا خسارا فأنت بذاك من شر العبادفلوكنت الغداة أخذت مصرا و لكن دونها خرط القتادوفدت إلى معاوية بن حرب فكنت بهاكوافد قوم عادو أعطيت الذي أعطيت منها بطرس فيه نضح من مدادأ لم تعرف أبا حسن علياو ما نالت يداه من الأعادي عدلت به معاوية بن حرب فيا بعد البياض من السوادو يابعد الأصابع من سهيل و يا بعد الصلاح من الفسادأ تأمن أن تدال على خدب يحث الخيلبالأسل الحداد ينادي بالنزال و أنت منه قريب فانظرن من ذا تعادي .فقال عمرو يا ابن أخي لو كنت عند عليلوسعني و لكني الآن عند معاوية قال الفتى إنك لو لم ترد معاوية لم يردك و لكنكتريد دنياه و هو يريد دينك و بلغ معاوية قول الفتى فطلبه فهرب فلحق بعلي (ع) فحدثهأمره فسر به و قربه. قال و غضب مروان و قال ما بالي لا أشتري كما اشتري عمرو فقالمعاوية إنما يشترى الرجال لك . فلما بلغ عليا (ع) ما صنع معاوية قال : يا عجبا لقد سمعت منكرا ** كذبا على الله يشيب الشعرا يسترق السمع و يعشي البصرا ** ما كان يرضى أحمد لو أخبرا[70]
أن يقرنوا وصيه و الأبترا ** شاني الرسول و اللعين الأخزرا كلاهما في جنده قد عسكرا ** قد باع هذا دينه فأفجرا من ذا بدنيا بيعه قد خسرا ** بملك مصر أن أصاب الظفرا إني إذا الموت دنا و حضرا ** شمرت ثوبي و دعوت قنبرا قدم لوائي لا تؤخر حذرا ** لا يدفع الحذار ما قد قدرا لما رأيت الموت موتا أحمرا ** عبأت همدان و عبوا حميرا حي يمان يعظمون الخطرا ** قرن إذا ناطح قرنا كسرا قل لابن حرب لا تدب الخمرا ** أرود قليلا أبد منك الضجرا لا تحسبني يا ابن هند غمرا ** و سل بنا بدرا معا و خيبرا يوم جعلناكم ببدر جزرا ** لو أن عندي يا ابن هند جعفرا أو حمزة القرم الهمام الأزهرا ** رأت قريش نجم ليل ظهرا قال نصر فلما كتب الكتاب قال معاوية لعمرو ما ترى الآن قال أمض الرأي الأول فبعث مالك بن هبيرة الكندي في طلب محمد بن أبي حذيفة فأدركه فقتله وبعث إلى قيصر بالهدايا فوادعه ثم قال ما ترى في علي قال أرى فيه[71]
خيرا إنه قد أتاك في طلب البيعة خير أهل العراق و من عند خير الناس فيأنفس الناس و دعواك أهل الشام إلى رد هذه البيعة خطر شديد و رأس أهل الشام شرحبيلبن السمط الكندي و هو عدو لجرير المرسل إليك فابعث إليه و وطن له ثقاتك فليفشوا فيالناس أن عليا قتل عثمان و ليكونوا أهل رضا عند شرحبيل فإنها كلمة جامعة لك أهلالشام على ما تحب و إن تعلقت بقلب شرحبيل لم تخرج منه بشي ء أبدا.فكتب إلى شرحبيل أن جرير بن عبد الله قدم علينا من عند علي بن أبي طالب بأمر مفظع فاقدم. و دعا معاوية يزيد بن أسد و بسر بن أرطاة و عمرو بن سفيان و مخارق بن الحارث الزبيدي وحمزة بن مالك و حابس بن سعد الطائي و هؤلاء رءوس قحطان و اليمن و كانوا ثقاتمعاوية و خاصته و بني عم شرحبيل بن السمط فأمرهم أن يلقوه و يخبروه أن عليا قتلعثمان فلما قدم كتاب معاوية على شرحبيل و هو بحمص استشار أهل اليمن فاختلفوا عليهفقام إليه عبد الرحمن بن غنم الأزدي و هو صاحب معاذ بن جبل و ختنه و كان أفقه أهلالشام فقال يا شرحبيل بن السمط إن الله لم يزل يزيدك خيرا منذ هاجرت إلى اليوم وإنه لا ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من الناس و إن الله لا يغير ما بقومحتى يغيروا ما بأنفسهم إنه قد ألقي إلى معاوية أن عليا قتل عثمان و لهذا يريدك فإنكان قتله فقد بايعه المهاجرون و الأنصار و هم الحكام على الناس و إن لم يكن قتلهفعلام تصدق معاوية عليه لا تهلكن نفسك و قومك فإن كرهت أن يذهب بحظها جرير فسر إلىعلي فبايعه عن شامك و قومك فأبى شرحبيل إلا أن يسير إلى معاوية فكتب إليه عياضالثمالي و كان ناسكا[72]
يا شرح يا ابن السمط إنك بالغ بود عليما تريد من الأمرو يا شرح إن الشام شامك ما بها سواك فدع عنك المضلل من فهرفإن ابنهند ناصب لك خدعة تكون علينا مثل راغية البكرفإن نال ما يرجو بنا كان ملكنا هنيئاله و الحرب قاصمة الظهرفلا تبغين حرب العراق فإنها تحرم أطهار النساء من الذعرو إنعليا خير من وطئ الثرى من الهاشميين المداريك للوترله في رقاب الناس عهد و ذمةكعهد أبي حفص و عهد أبي بكرفبايع و لا ترجع على العقب كافرا أعيذك بالله العزيز منالكفرو لا تسمعن قول الطغاة فإنهم يريدون أن يلقوك في لجة البحرو ما ذا عليهم أنتطاعن دونهم عليا بأطراف المثقفة السمرفإن غلبوا كانوا علينا أئمة و كنا بحمد اللهمن ولد الطهرو إن غلبوا لم يصل بالخطب غيرنا و كان علي حربنا آخر الدهريهون علىعليا لؤي بن غالب دماء بني قحطان في ملكهم تجري فدع عنك عثمان بن عفان إنما لكالخبر لا تدري بأنك لا تدري على أي حال كان مصرع جنبه فلا تسمعن قول الأعيور أو عمرو . قال فلما قدم شرحبيل على معاوية أمرالناس أن يتلقوه و يعظموه فلما[73]
دخل على معاوية تكلممعاوية فحمد الله و أثنى عليه ثم قال يا شرحبيل إن جرير بن عبد الله قدم علينايدعونا إلى بيعة علي و علي خير الناس لو لا أنه قتل عثمان بن عفان و قد حبست نفسيعليك و إنما أنا رجل من أهل الشام أرضى ما رضوا و أكره ما كرهوا.فقال شرحبيل أخرجفأنظر فلقيه هؤلاء النفر الموطئون له فكلهم أخبره أن عليا قتل عثمان فرجع مغضبا إلىمعاوية فقال يا معاوية أبى الناس إلا أن عليا قتل عثمان و الله إن بايعت لهلنخرجنك من شامنا أو لنقتلنك فقال معاوية ما كنت لأخالف عليكم ما أنا إلا رجل منأهل الشام قال فرد هذا الرجل إلى صاحبه إذن فعرف معاوية أن شرحبيل قد نفذت بصيرتهفي حرب أهل العراق و أن الشام كله مع شرحبيل و كتب إلى علي (ع) ما سنورده فيما بعد إن شاء الله تعالى .[74]
27- و من خطبة له (ع) :
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌمِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَتَحَهُ اللَّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ وَ هُوَلِبَاسُ التَّقْوَى وَ دِرْعُ اللَّهِ الْحَصِينَةُ وَ جُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُفَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ الذُّلِّ وَ شَمِلَهُالْبَلَاءُ وَ دُيِّثَ بِالصَّغَارِ وَ الْقَمَاءَةِ وَ ضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِبِالْإِسْهَابِ وَ أُدِيلَ الْحَقُّ مِنْهُ بِتَضْيِيعِ الْجِهَادِ وَ سِيمَالْخَسْفَ وَ مُنِعَ النَّصَفَ أَلَا وَ إِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَيْلًا وَ نَهَاراً وَ سِرّاً وَ إِعْلَاناً وَ قُلْتُلَكُمْ اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ فَوَاللَّهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّفِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا فَتَوَاكَلْتُمْ وَ تَخَاذَلْتُمْ حَتَّىشُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ وَ مُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الْأَوْطَانُ فَهَذَاأَخُو غَامِدٍ قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الْأَنْبَارَ وَ قَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَحَسَّانَ الْبَكْرِيَّ وَ أَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا وَ لَقَدْبَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِالْمُسْلِمَةِ وَ الْأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَ قُلُبَهَاوَ قَلَائِدَهَا وَ رُعُثَهَا مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلَّا بِالِاسْتِرْجَاعِ وَالِاسْتِرْحَامِ ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلًا مِنْهُمْ كَلْمٌوَ لَا أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِهَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً فَيَا عَجَباًعَجَباً وَ اللَّهِ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَ يَجْلِبُ الْهَمَّ مِنَ اجْتِمَاعِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَ تَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ فَقُبْحاًلَكُمْ وَ تَرَحاً حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى يُغَارُ
[75]
عَلَيْكُمْ وَ لَا تُغِيرُونَ وَ تُغْزَوْنَ وَ لَا تَغْزُونَ وَ يُعْصَىاللَّهُ وَ تَرْضَوْنَ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِالْحَرِّ قُلْتُمْ هَذِهِ حَمَارَّةُ الْقَيْظِ أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ عَنَّاالْحَرُّ وَ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْهَذِهِ صَبَارَّةُ الْقُرِّ أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا الْبَرْدُ كُلُّ هَذَافِرَاراً مِنَ الْحَرِّ وَ الْقُرِّ فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الْحَرِّ وَ الْقُرِّتَفِرُّونَ فَأَنْتُمْ وَ اللَّهِ مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ يَا أَشْبَاهَالرِّجَالِ وَ لَا رِجَالَ حُلُومُ الْأَطْفَالِ وَ عُقُولُ رَبَّاتِ الْحِجَالِلَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ وَ لَمْ أَعْرِفْكُمْ مَعْرِفَةً وَ اللَّهِجَرَّتْ نَدَماً وَ أَعْقَبَتْ سَدَماً قَاتَلَكُمُ اللَّهُ لَقَدْ مَلَاتُمْقَلْبِي قَيْحاً وَ شَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً وَ جَرَّعْتُمُونِي نُغَبَالتَّهْمَامِ أَنْفَاساً وَ أَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ وَالْخِذْلَانِ حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌشُجَاعٌ وَ لَكِنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ لِلَّهِ أَبُوهُمْ وَ هَلْ أَحَدٌمِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً وَ أَقْدَمُ فِيهَا مُقَاماً مِنِّي لَقَدْنَهَضْتُ فِيهَا وَ مَا بَلَغْتُ الْعِشْرِينَ وَ هَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُعَلَى السِّتِّينَ وَ لَكِنْ لَا رَأْيَ لِمَنْ لَا يُطَاعُ .هذه الخطبة من مشاهير خطبه (ع) قد ذكرهاكثير من الناس و رواها أبو العباس المبرد في أول الكامل و أسقط من هذه الروايةألفاظا و زاد فيها ألفاظا و قال في أولها إنه انتهى إلى علي (ع) أن خيلا وردتالأنبار لمعاوية فقتلوا عاملا له[76]
يقال له حسان بنحسان فخرج مغضبا يجر رداءه حتى أتى النخيلة و اتبعه الناس فرقي رباوة من الأرضفحمد الله و أثنى عليه و صلى على نبيه (ص) ، ثم قال : أما بعد فإنالجهاد باب من أبواب الجنة فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله الذل و سيما الخسف . و قال في شرح ذلك قوله و سيما الخسفهكذا حدثونا به و أظنه سيم الخسف من قوله تعالى يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ و قال فإن نصرنا ما سمعناه فسيما الخسف تأويله علامة الخسف قال الله تعالى سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ و قال يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ و سيما مقصور و في معناه سيمياء ممدود قال الشاعر :غلام رماه الله بالحسن يافعا ** له سيمياء لا تشق على البصر و نحن نقول إن السماع الذي حكاه أبوالعباس غير مرضي و الصحيح ما تضمنه نهج البلاغة و هو سيم الخسف فعل ما لم يسمفاعله و الخسف منصوب لأنه مفعول و تأويله أولي الخسف و كلف إياه و الخسف الذل والمشقة. و أيضا فإن في نهج البلاغة لا يمكن أن يكون إلا كما اخترناه لأنه بينأفعال متعددة بنيت للمفعول به و هي ديث و ضرب و أديل و منع[77]
و لا يمكن أن يكون ما بين هذه الأفعال معطوفا عليها إلا مثلها و لا يجوز أنيكون اسما. و أما قوله (ع) و هو لباس التقوى فهو لفظة مأخوذة من الكتاب العزيز قالالله سبحانهقَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى.
و الجنة ما يجتن به أي يستتر كالدرع و الحجفة. و تركه رغبة عنهأي زهدا فيه رغبت عن كذا ضد رغبت في كذا. و ديث بالصغار أي ذلل بعير مديث أي مذللو منه الديوث الذي لا غيرة له كأنه قد ذلل حتى صار كذلك. و الصغار الذل و الضيم. والقماء بالمد مصدر قمؤ الرجل قماء و قماءة أي صار قميئا و هو الصغير الذليل فأماقمأ بفتح الميم فمعناه سمن و مصدره القموء و القموءة. و روى الراوندي و ديث بالصغار و القما بالقصر و هو غير معروف. و قوله (ع) و ضرب على قلبه بالإسهابفالإسهاب هاهنا هو ذهاب العقل و يمكن أن يكون من الإسهاب الذي هو كثرة الكلام كأنهعوقب بأن يكثر كلامه فيما لا فائدة تحته. قوله و أديل الحق منه بتضييع الجهاد قديظن ظان أنه يريد (ع) و أديل الحق منه بأن أضيع جهاده كالباءات المتقدمة و هي قوله وديث بالصغار و ضرب على قلبه بالإسهاب و ليس كما ظن بل المراد و أديل الحق منه
[78]
لأجل تضييعه الجهاد فالباء هاهنا للسببية كقوله تعالى ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ.و النصف الإنصاف و عقر دارهم بالضم أصل دارهم والعقر الأصل و منه العقار للنخل كأنه أصل المال و تواكلتم من وكلت الأمر إليك ووكلته إلي أي لم يتوله أحد منا و لكن أحال به كل واحد على الآخر و منه رجل وكل أيعاجز يكل أمره إلى غيره و كذلك وكله. و تخاذلتم من الخذلان. و شنت عليكم الغاراتفرقت و ما كان من ذلك متفرقا نحو إرسال الماء على الوجه دفعة بعد دفعة فهو بالشينالمعجمة و ما كان أرسالا غير متفرق فهو بالسين المهملة و يجوز شن الغارة و أشنها.و المسالح جمع مسلحة و هي كالثغر و المرقب . و في الحديث كانأدنى مسالح فارس إلى العرب العذيب .و المعاهدة ذات العهد و هي الذمية والحجل الخلخال و من هذا قيل للفرس محجل و سمي القيد حجلا لأنه يكون مكان الخلخال ورعثها شنوفها جمع رعاث بكسر الراء و رعاث جمع رعثة فالأول مثل خمار و خمر و الثانيمثل جفنة و جفان و القلب جمع قلب و هو السوار المصمت و الاسترجاع قوله
إِنَّالِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ
و الاسترحام أن تناشده الرحم و انصرفواوافرين أي تامين وفر الشي ء نفسه أي تم فهو وافر و وفرت الشي ء متعد أي أتممته. وفي رواية المبرد موفورين قال من الوفر أي لم ينل أحد منهم بأن يرزأ في بدن أو مال.
[79]
و في رواية المبردأيضا فتواكلتم و تخاذلتم و ثقل عليكم قولي وَ اتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا . قال أي رميتم به وراء ظهوركم أي لمتلتفتوا إليه يقال في المثل لا تجعل حاجتي منك بظهر أي لا تطرحها غير ناظر إليها قال الفرزدق :تميم بن مر لا تكونن حاجتي بظهر ** و لا يعيا عليك جوابها و الكلم الجراح و في رواية المبرد أيضامات من دون هذا أسفا . و الأسف التحسر و في رواية المبرد أيضامن تضافر هؤلاء القوم على باطلهم . أي من تعاونهم و تظاهرهم و في رواية المبردأيضا و فشلكم عن حقكم . الفشل الجبن و النكول عن الشي ء فقبحالكم و ترحا دعاء بأن ينحيهم الله عن الخير و أن يخزيهم و يسوءهم. و الغرض الهدف و حمارة القيظ بتشديد الراء شدة حره و يسبخ عنا الحر أي يخف .و في الحديث أنعائشة أكثرت من الدعاء على سارق سرق منها شيئا فقال لها النبي (ص) لا تسبخي عنه بدعائك .و صبارة الشتاء بتشديد الراء شدة برده ولم يرو المبرد هذه اللفظة .و روى إذا قلت لكماغزوهم في الشتاء قلتم هذا أوان قر و صر و إن قلت لكم اغزوهم في الصيف قلتم هذه حمارة القيظ أنظرنا ينصرم عنا الحر .الصر شدة البرد قال تعالى كَمَثَلِرِيحٍ فِيها صِرٌّ. و لم يرو المبرد حلوم الأطفال و روى عوضها يا طغام الأحلام وقال الطغام من لا معرفة عنده و منه قولهم طغام أهل الشام. و رباب الحجال النساء والحجال جمع حجلة و هي بيت يزين بالستور و الثياب و الأسرة[80]
و السدم الحزن و الغيظ و القيح ما يكون في القرحة من صديدها و شحنتم ملأتم. والنغب جمع نغبة و هي الجرعة و التهمام بفتح التاء الهم و كذلك كل تفعال كالترداد والتكرار و التجوال إلا التبيان و التلقاء فإنهما بالكسر. و أنفاسا أي جرعة بعدجرعة يقال أكرع في الإناء نفسين أو ثلاثة. و ذرفت على الستين أي زدت و رواها المبردنيفت. و روى المبرد في آخرها فقام إليه رجل و معه أخوه فقال يا أمير المؤمنين إنيو أخي هذا كما قال الله تعالى رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِيفمرنا بأمرك فو الله لننتهين إليه و لو حال بيننا و بينه جمر الغضا و شوك القتادفدعا لهما بخير و قال و أين تقعان مما أريد ثم نزل .
استطراد بذكر كلام لابن نباتة في الجهاد :
و اعلم أن التحريض على الجهاد و الحضعليه قد قال فيه الناس فأكثروا و كلهم أخذوا من كلام أمير المؤمنين (ع) فمن جيد ذلكما قاله ابن نباتة الخطيب أيها الناس إلى كم تسمعون الذكر فلا تعون و إلى كمتقرعون بالزجر فلا تقلعون كأن أسماعكم تمج ودائع الوعظ و كأن قلوبكم بها استكبارعن الحفظ و عدوكم يعمل
[81]
في دياركم عمله و يبلغ بتخلفكمعن جهاده أمله و صرخ بهم الشيطان إلى باطله فأجابوه و ندبكم الرحمن إلى حقهفخالفتموه و هذه البهائم تناضل عن ذمارها و هذه الطير تموت حمية دون أوكارها بلاكتاب أنزل عليها و لا رسول أرسل إليها و أنتم أهل العقول و الأفهام و أهل الشرائعو الأحكام تندون من عدوكم نديد الإبل و تدرعون له مدارع العجز و الفشل و أنتم والله أولى بالغزو إليهم و أحرى بالمغار عليهم لأنكم أمناء الله على كتابه والمصدقون بعقابه و ثوابه خصكم الله بالنجدة و البأس و جعلكم خير أمة أخرجت للناسفأين حمية الإيمان و أين بصيرة الإيقان و أين الإشفاق من لهب النيران و أين الثقةبضمان الرحمن فقد قال الله عز و جل في القرآن بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوافاشترط عليكم التقوى و الصبر و ضمن لكم المعونة و النصر أ فتتهمونه في ضمانه أمتشكون في عدله و إحسانه فسابقوا رحمكم الله إلى الجهاد بقلوب نقية و نفوس أبية وأعمال رضية و وجوه مضية و خذوا بعزائم التشميز و اكشفوا عن رءوسكم عار التقصير وهبوا نفوسكم لمن هو أملك بها منكم و لا تركنوا إلى الجزع فإنه لا يدفع الموت عنكم
لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِيالْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا
فالجهاد الجهاد أيها الموقنون و الظفر الظفر أيها الصابرون و الجنة الجنة أيهاالراغبون و النار النار أيها الراهبون فإن الجهاد أثبت قواعد الإيمان و أوسع أبوابالرضوان و أرفع درجات الجنان و إن من ناصح الله لبين منزلتين مرغوب فيهما مجمع علىتفضيلهما إما السعادة بالظفر في العاجل و إما الفوز بالشهادة في الأجل و أكرهالمنزلتين إليكم أعظمهما نعمة
[82]
عليكم فانصروا الله فإننصره حرز من الهلكات حريزوَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَلَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.
هذا آخر خطبة ابن نباتة فانظر إليها و إلى خطبته (ع) بعين الإنصافتجدها بالنسبة إليها كمخنث بالنسبة إلى فحل أو كسيف من رصاص بالإضافة إلى سيف منحديد و انظر ما عليها من أثر التوليد و شين التكلف و فجاجة كثير من الألفاظ أ لاترى إلى فجاجة قوله كأن أسماعكم تمج ودائع الوعظ و كأن قلوبكم بها استكبار عنالحفظ و كذلك ليس يخفى نزول قوله تندون من عدوكم نديد الإبل و تدرعون له مدارعالعجز و الفشل. و فيها كثير من هذا الجنس إذا تأمله الخبير عرفه و مع هذا فهيمسروقة من كلام أمير المؤمنين (ع) أ لا ترى أن قوله (ع) أما بعد فإن الجهاد باب منأبواب الجنة قد سرقه ابن نباتة فقال فإن الجهاد أثبت قواعد الإيمان و أوسع أبوابالرضوان و أرفع درجات الجنان و قوله (ع) من اجتماع هؤلاء على باطلهم و تفرقكم عنحقكم سرقه أيضا فقال صرخ بهم الشيطان إلى باطله فأجابوه و ندبكم الرحمن إلى حقهفخالفتموه و قوله (ع) قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم إلى آخره سرقه أيضا فقال كم تسمعونالذكر فلا تعون و تقرعون بالزجر فلا تقلعون و قوله (ع) حتى شنت عليكم الغارات و ملكتعليكم الأوطان سرقه أيضا و قال و عدوكم يعمل في دياركم عمله و يبلغ بتخلفكم عنجهاده أمله و أما باقي خطبة ابن نباتة فمسروق من خطب لأمير المؤمنين (ع) أخر سيأتيذكرها.