كلام ابن تيميه إن للقوم ذنوباً مغفورة
قال ابن تيمية الحنبلى فى ص 169 من الجزء الثانى من «منهاج السنة» أن القوم ليسوا معصومين، بل هم مع كونهم أولياء الله و من أهل الجنة لهم ذنوب يغفرها الله لهم. أقول: هذا إيقاع القوم فى المحذور الأشد، أعنى تحتم المعصية على الصحابة و لم يدر انه متى جاز أن يغفر الله لهم بعد إيقاعهم الأذى والوجد على فاطمة عليهاالسلام جاز أن يغفر لغيرهم من أهل المعاصى من غير تفاوت، فإنه تعالى يغفر الذنوب جميعا، ولكن هذا الغفران من الله تعالى لا يصحح اجتراء العبد عليه تعالى و صدور المعصية منه، و لهذا الكلام مقام آخر و إلا فأى منقبة لفاطمة أثبتها رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم بقوله: إن الله تعالى يغضب لغضب فاطمة و يرضى لرضاها.خلو الحديث عن قول ما تركناه صدقة
روى ابن أبى الحديد فى الشرح، و كذلك غيره من الرواة، أن فاطمة طلبت فدك من أبى بكر فقال: انى سمعت رسول الله يقول: إن النبى لا يورث من كان النبى صلى الله عليه و آله و سلم يعوله فأنا أعوله. و فى حديث كنزالعمال المروى فى باب خلافة الصديق من قول عمر: حدثنى أبوبكر أنه سمع النبى صلى الله عليه و آله و سلم يقول: إن النبى لا يورث و إنما ميراثه فى الفقراء والمساكين. صريح الروايتين خلوهما عن قول: ما تركناه صدقة و اشتمالهما فقط علىأن الذى سمعه أبوبكر من النبى صلى الله عليه و آله و سلم قوله صلى الله عليه و آله و سلم: لا نورث. والزيادة من قول أبى بكر: من كان النبى يعوله فأنا أعوله. و من قول عمر: و إنما ميراثه فى الفقراء والمساكين، و ذلك اجتهاد منهما، فكأنهما فهما من نفى التوريث خصوص كون التركة صدقة، والحال أن نفى التوريث أعم من كون التركة صدقة لأنه يعم صورة عدم وجود التركة حتى يورث كما هو كذلك، فإن أمواله صلى الله عليه و آله و سلم بينما ما هى صدقة حال حياته صلى الله عليه و آله و سلم كما فى حوائطه السبعة و غيرها من أموال بنى النضير، و بينما هى منقولة عنه صلى الله عليه و آله و سلم على وجه التمليك للغير، كالسيف والعمامة والبغلة والعصا بالنسبة إلى على عليه السلام والبيوتات للزوجات و فدك لفاطمة عليهاالسلام، حسبما شهد بذلك على و أم أيمن، و كانت تحت تصرفهما كما فى «الصواعق المحرقة»، فلم يبق لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم مال حتى يورث [ و على قول رجال المنطق سالبة بانتفاء الموضوع، أى قوله: «لا نورث أى لا نبقى شيئا وراءنا حتى نورثه للآخرين، و ليس معنى ذلك أنه إذا بقى شى ء فلا يورث منا كما يقال: الفقير لا يورث، أى عادة لا يبقى منه شى ء حتى يرثه أولاده منه. لذا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: فى أن العلماء ورثة الأنبياء. إن الأنبياء لم يورثوا دينارا و لا درهما ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر- ذكره الكلينى فى الكافى 1/ 34. ]
قوله تعالى يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين
قال الفخر الرازى فى التفسير مذهب أكثر المجتهدين: أن الأنبياء لا يورثون، والشيعة خالفوا فيه. روى: أن فاطمة لما طلبت الميراث و منعوها عنه واحتجوا عليها بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة، فعند هذا احتجت فاطمة بعموم قوله تعالى: يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين، و كأنها أشارت إلى أن عموم القرآن لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد الخ [ التفسير الكبير 9/ 210. ] قلت: إن فاطمة عليهاالسلام احتجت على أبى بكر بالآية، عمومها و خصوصها، و أن الرواية غير صحيحة عندها، والعجب من أنه كيف نسب الفخر الرازى الخلاف إلى الشيعة، و لم ينسبه إلى على والعباس و فاطمة و الأزواج و ذوى قرابة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فإنهم جميعا خالفوا أبابكر فى حديث ما تركناه صدقة و تمسكوا بعموم القرآن و خصوصه فى موروثيه داود و زكريا والشيعة، حيث أن مذهبهم مذهب أهل البيت و عنهم يأخذون، أنكروا على أبى بكر هذا لحديث تصديقا للعترة النبوية، إذ أمر النبى صلى الله عليه و آله و سلم بالتمسك بهم و عدم التجاوز عنهم والعدول إلى غيرهم.عدم مساس حديث نفى الإرث بأبى بكر
قال الفخر الرازى فى ذيل تفسير قوله تعالى: يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين، أن المحتاج إلى معرفة هذه المسألة ما كان إلا فاطمة و على والعباس، و هؤلاء كانوا من أكابر الزهاد والعلماء و أهل الدين، و أما أبوبكر فإنه ما كان محتاجا إلى معرفة هذه المسألة البتة لأنه ما كان ممن يخطر بباله أنه يورث من الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، فكيف يليق بالرسول أن يبلغ هذهالمسألة إلى من لا حاجة له إليها و لا يبلغها إلى من له إلى معرفتها أشد الحاجة [ قال النقيب أبوجعفر يحيى بن البصرى: إن عليا و فاطمة والعباس ما زالوا على كلمة واحدة، يكذبون رواية: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، و يقولون أنها مختلفة، قالوا: كيف كان النبى صلى الله عليه و سلم يعرف هذا الحكم غيرنا و يكتمه و نحن الورثة و نحن أولى الناس بأن يؤدى هذا الحكم إليه؟. ] قلت: و تفصيل ما أجمله الفخر الرازى، هو أن القرآن إنما ورد لبيان ما يجب على العباد الأخذ به أو الانتهاء عنه. و كان الغرض منه و من بعث الرسول هو الإنذار والتخويف من محارم الله تعالى، كما فى قوله تعالى: فاتقوا الله يا أولى الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات [ الطلاق: 10، 11 ] و قال سبحانه مخاطبا به النبى صلى الله عليه و آله: و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل: 44. ] و قال تعالى: و إنه لذكر لك و لقومك و سوف تسألون [ الزخرف: 44. ] و قوله سبحانه: و أنذر عشيرتك الأقربين [ الشعراء: 214. ] و تقتضى هذه الآيات وجوب تبليغ النبى صلى الله عليه و آله و سلم حكم عدم الإرث إلى
على و فاطمة والعباس و سائر نسائه، و لا يجوز له صلى الله عليه و آله و سلم التأخير عن بيان الحكم المختص بهم لهم، فكيف يجوز على النبى صلى الله عليه و آله و سلم أن لا يبين الحكم الجارى فيما بينه و بين وراثه، و يتركهم فى خلاف الواقع، و يبينه لرجل آخر أجنبى عنهم و عن إرثهم؟ أفلم نكن بيان الحكم لهم من الإنذار الواجب عليه صلى الله عليه و آله و سلم بنص القرآن؟ أو لم يكن تركه من الإغراء بالجهل و الإيقاع فى الضلال؟ فأى قدح أعظم من كتمان النبى صلى الله عليه و آله و سلم لذلك فى إنذاره و تبليغه و وصاياه، فلا يعرف أهله و عشيرته أنهم لا يرثونه، والعقل لا يجوز ذلك بعد أن لم يكن من الأسرار المكنونة. اللازم لذى العقل والعقلاء أن يكون تبليغ الحكم جاريا مجى المتعارف و لا تجدى الاتفاقات القهرية، مثلا لو لم يكن أبوبكر حاكما و واليا لم يفد تعريف النبى صلى الله عليه و آله و سلم له حديث ما تركناه صدقة و إعلامه إياه فائدة أصلا، و لم يكن حجة قاطعة، أما عند الخليفة والحاكم على فرض كونه غير أبى بكر فلأن شهادة الواحد الغير المنصوص على عصمته و تطهيره من الله تعالى لا تقبل، و ما عند المدعى عليه فلإنكاره ذلك مضافا إلى كونه ليس حجة عليه و له إنكاره شرعا إذا رجع إلى التداعى فى المال، فحيئنذ لا يجدى الحديث و يكون إظهاره لأبى بكر بلا فائدة و رسول الله ما ينطق عن الهوى. فلئن قيل: أن النبى صلى الله عليه و آله و سلم لما كان يعلم وقوع التشاح من بعده بين أبى بكر و بين وراثة لزمه البيان و إظهار الحق حسما لمادة الخلاف و النزاع كما لو لم يكن أبوبكر إماما، إذ ليس بيانه صلى الله عليه و آله و سلم للحكم العاجل منوطا بإمامة من بعده بنحو الأجل، و لما لم يبين الحكم لأهل بيته على منه عدم اختصاصهم بحكم خاص فى باب الإرث، و أنهم يرثون من رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم كغيرهم فلا وقع لما أظهره أبوبكر و عمر من حديث عدم توريث الأنبياء، و أنهما إنما غلبا على على عليه السلام و فاطمة بواسطة السلطة كغيرها من السلطات اللاحقة. قد جرت العادة على ضبط الأخبار خلفا عن سلف، سيما ما يتعلق بالأديان والمذاهب خصوصا عند أهلها، فإنهم مهتمون بذلك غاية الاهتمام فيرون الواجب عليهم ضبط أحوال أنبيائهم، و ضبط خصائصهم و ما يجرى من بعدهم، كما ضبطت التواريخ والكتب الدينية ما يتعلق بشأن النبى صلى الله عليه و آله و سلم من أوله إلى آخره، و كذلك المعلوم جريان العادة من يوم وفاة آدم إلى هذا الزمان على أنه يرث الميت الأقرب إليه فالأقرب من غير اختصاص بأهل ملة أو نحلة، و إنا متى راجعنا المليين و أهل النحل لما وجدنا من يظهر منه الحكم بعم وقوع التوارث بين الأنبياء و أولادهم و الأقرب من أرحامهم، و أن تركة زكريا و داود عليهماالسلام رجعت لا إلى [ أى رجعت إلى غير يحيى و سليمان. ] يحى و سليمان على خلاف القرآن، و كيف يعقل أن يخفى حكم عدم توريث الأنبياء على سائر من فى العالم من أرباب الملل والنحل و غيرهم و لم يسمعوا بذلك مع أنه أمر مهتم به عندهم و سمع بذلك أبوبكر وحده من بين الناس أن ذلك لأمر مريب.
إن فاطمة وجدت على أبى بكر حتى ماتت
دلت الكتب المعتبرة عند أهل السنة والجماعة حسبما ذكر جملة منها على أن فاطمة أتت إلى أبى بكر مرارا والتمست [ كل من روى الخبر قال: طلبت الزهراء من أبى بكر ميراثها، و ما قال التمست منه، لأنها صاحبة حق طالبت بحقها بعز ولم تنزل نفسها بالالتماس. ] منه ميراثها فدكا، و احتجتعليه. و هذا المجى ء تارة وحدها، و أخرى مع عمها العباس، حتى أنها لما رأت الإصرار من أبى بكر و عمر على أخذ فدك و هضمها حقها، هجرتهما و غضبت عليهما، و قالت: لا أكلمكما إلى أن ماتت، و هذا موافق لما فى «الصواعق المحرقة» ص 9، و صحيح البخارى فى باب فرض الخمس، و فى باب غزوة خيبر عن عروة بن الزبير عن عائشة. و مسلم فى الجزء الأول ص 154، والجمع بين الصحيحين للحميدى، و كتاب «الإمامة والسياسة، لابن قتيبة الدينورى ص 14، و كتاب «تاريخ المدينة» للعلامة السمهودى 2/ 157. و غير ذلك من الكتب التاريخية كشرح ابن أبى الحديد المعتزلى 4/ 104، و تاريخ البلاذرى، و كتاب أبى بكر الجوهرى، و فى ذلك كله دلالة واضحة على أن رواية أبى بكر لم تحسم المادة و أن فاطمة لم تقنع بكلام أبى بكر، و لذا أصرت فى الإنكار عليه حتى إذا رأت إصراره على ما قاله و ما فعله غضبت عليه و هجرته بعد أن أغلظت عليه الخطاب إلى أن ماتت لستة أشهر من وفاة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم. قال الرازى فى مقام الجواب عن معارضة الحديث بكلام فاطمة مع أنها معصومة: إنا لا نعلم أنها أصرت على المطالبة بعد أن روى أبوبكر ذلك، و إنما طالبت بالميراث قبل استماع الحديث و ذلك لا يقدح فى عصمتها [ و هذا رأى سبقه إليه قاضى القضاة عبدالجبار المعتزلى إذ قال: «لما سمعت فاطمة عليهاالسلام ذلك من أبى بكر (أى حديث: لا نورث) كفت عن الطلب فيما ثبت من الأخبار الصحيحة، فلا يمتنع أن تكون غير عارفة بذلك، فطلبت الإرث، فلما روى لها ما روى كفت، فأصابت أولا و أصابت ثانيا». شرح النهج 16/ 238 قال السيد المرتضى فى رده: فلعمرى إنها كفت عن المنازعة والمشاحة، لكنها انصرفت مغضبة متظلمه متألمه، شرح النهج 16/ 49، و قال ابن أبى الحديد: و لست أعتقد أنها انصرفت راضية كما قال قاضى القضاة، بل أعلم أنها انصرفت ساخطة و ماتت و هى على أبى بكر واجدة، شرح النهج 16/ 253. ] قلت: إن ذلك لا يليق صدوره من مثلها و خلاف للإنصاف، فإنه إن أراد الرازى أن فاطمة تركت المطالبة بسبب السلطة فهو مسلم لكنه لا يجدى فى نفى حقها شرعا، و إن كان مراده أنها تركت المطالبة بسبب وقوفها على الخطأ و إذعانها بصحة ما رواه أبوبكر و ما فعله، فهذا شى ء مردود بما عرفت من صراحة الكتب المذكورة فى أن فاطمة غضبت على أبى بكر و هجرته حتى ماتت لستة أشهر من وفاة النبى صلى الله عليه و آله و سلم.
ترك النكير على أبى بكر لا يدل على حقيقة كلامه
قيل: إنه إذا كان أبوبكر مصرا على الإنكار على فاطمة فى منعها عن الإرث بلا حجة قاطعة، فما بال الصحابة و ما الموجب لترك النكير عليه و رضاهم بما حكم به مع خطئه عن الحق؟ قلت: إنا نقتصر فعلا فى الجواب على ما حكاه ابن أبى الحديد المعتزلى فى الشرح [ 16/ 264 ] عن أبى عثمان الجاحظ قال: قال أبوعثمان فى كتاب العباسية: و قد زعم أناس أن الدليل على صدق خبرهما- يعنى أبابكر و عمر- فى منع الميراث و براءة ساحتهما ترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم النكير عليهما. ثم قال: قد يقال لهم: لئن كان ترك النكير دليلا على صدقهما ليكونن تركالنكير على المتظلمين والمحتجين [ أى على و فاطمة والعباس. ] عليهما، والمطالبين لهما دليلا على صدق دعواهم، أو استحسان مقالتهم، و لا سيما و قد طالت المناجاة، و كثرت المراجعة و الملاحاة، و ظهرت الشكية، و اشتدت الموجدة، و قد بلغ ذلك من فاطمة عليهاالسلام حتى أنها أوصت ألا يصلى عليها أبوبكر، و لقد كانت قالت له حين أتته طالبه بحقها، و محتجة لرهطها: من يرثك يا أبابكر إذا مت؟ قال: أهلى و ولدى، قالت: فما بالنا لا نرث النبى صلى الله عليه و آله و سلم، فلما منعها ميراثها و بخسها حقها، و اعتل عليها (و جلح فى أمرها [ جلح فى أمرها، أى جاهر به و كاشفها. ]) و عاينت التهضم [ و فى نسخة أخرى: و عاينت الهضم، و هو الظلم. ]، و آيست من التورع، و وجدت نشوة الضعف، و قلة الناصر، قالت: والله لأدعون الله عليك، قال: والله لأدعون الله لك، قالت: والله لا أكلمك أبدا، قال: والله لا أهجرك أبدا. فإن يكن ترك النكير على أبى بكر دليلا على صواب منعها، إن فى ترك النكير على فاطمة عليهاالسلام دليلا على صواب طلبها (و أدنى ما كان يجب عليهم فى ذلك تعريفها ما جهلت، و تذكيرها منا نسيت، و صرفها عن الخطأ، و دفع قدرها عن النداء و أن تقول هجرا، أو تجور عادلا، أو تقطع واصلا [ كذا فى شرح النهج. ]). فإذا لم تجدهم أنكروا على الخصمين جميعا فقد تكافأت الأمور و استوت الأسباب، (والرجوع إلى أصل حكم الله فى المواريث أولى بنا و بكم و أوجب علينا و عليكم)
كذا فى الشرح: «و إليكم باقى كلامه كما فى شرح النهج، قال: أى الجاحظ فإن قالوا: كيف تظن به ظلمها والتعدى عليها و كلما ازدادت عليه غلظة ازداد لها لينا ورقة حيث تقول له: والله لا أكلمك أبدا، فيقول: والله لا أهجرك أبدا، ثم تقول: والله لأدعون الله عليك، فيقول: والله لأدعون الله عليك. ثم يحتمل منها هذا الكلام الغليظ والقول الشديد فى دار الخلافة و بحضرة قريش والصحابة، مع حاجة الخلافة إلى البهاء والتنزيه و ما يجب لها من الرفعة والهيبة، ثم لم يمنعه ذلك أن قال معتذرا متقربا كلام المعظم لحقها، المكبر لمقامها، والصائن لوجهها، المتحنن عليها، ما أجد أعز على منك فقرا، و لا أحب إلى منك غنى، ولكنى سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه فهو صدقة. قيل لهم: ليس ذلك بدليل على البراءة من الظلم والسلامة من الجور، و قد يبلغ من مكر الظالم و دهاء الماكر إذا كان أريبا. و للخصومة معتادا، أن يظهر كلام المظلوم و ذلة المنتصف و حدب الوامق و مقة المحق، و كيف جعلتم ترك النكير حجة قاطعة و دلالة واضحة، و قد زعمتم أن عمر قال على منبره: متعتان كانتا على عهد رسول الله، متعة النساء، و متعة الحج. أنا أنهى عنهما و أعاقب عليهما، فما وجدتم أحدا أنكر قوله، و لا استشنع مخرج نهيه، و لا خطأه فى معناه، و لا تعجب منه، و لا استفهمه. و كيف تقضون بترك النكير و قد شهد عمر يوم السقيفة و بعد ذلك أن النبى صلى الله عليه و سلم قال: الأئمة من قريش، ثم قال فى شكاته: لو كان سالم حيا ما تخالجنى فيه شك حين أظهر الشك فى استحقاق كل واحد من الستة الذين جعلهم شورى، و سالم عبد لامرأة من الأنصار، و هى أعتقته و حازت ميراثه، ثم لم ينكر ذلك من قوله منكر و لا قابل إنسان بين قوله و لا تعجب منه، و إنما يكون ترك النكير على من لا رغبة و لا رهبة عنده دليلا على صدق قوله و صواب عمله: فأما ترك النكير على من يلك الضعة والرفعة، والأمر والنهى، والقتل، والاستحياء، والحبس و الإطلاق، فليس بحجة تشفى و لا دلالة تضى ء. قال الجاحظ: و قال آخرون بل الدليل على صدق قولهما و صواب عملهما إمساك الصحابة عن خلعهما والخروج عليهما، و هم الذين و ثبوا على عمثان فى أيسر من جحد التنزيل ورد النصوص، و لو كان كما تقولون و ما تصفون ما كان سبيل الأمة فيهما إلا كسبيلهم فيه، و عثمان كان أعز نفرا و أشرف رهطا، و أكثر عددا و ثروة، و أقوى عدة. قلنا: إنهما لم يمجدا التنزيل، و لم ينكرا النصوص، ولكنهما بعد إقرارهما بحكم الميراث و ما عليه الظاهر من الشريعة أدعيا رواية، و تحدثا بحديث لم يكن محالا كونه، و لا ممتنعا فى حجج العقول مجيئه، و شهد لهما عليه من علته مثل علتهما فيه، و لعل بعضهم كان يرى تصديق الرجل إذا كان عدلا فى رهطه، مأمونا فى ظاهره، و لم يكن قيل ذلك عرفه بفجرة، و لا جرت عليه غدرة، فيكون تصديقه له على جهة حسن الظن و تعديل الشاهد، و لأنه لم يكن كثير منهم يعرف حقائق الحجج والذى يقطع بشهادته على الغيب، و كان دلك شبهة على أكثرهم، فلذلك قل النكير و تواكل الناس فاشتبه الأمر، فصار لا يتخلص إلى معرفة حق ذلك من باطله إلا العالم المتقدم، أو المؤيد المرشد، و لأنه لم يكن لعثمان فى صدور العوام و قلوب السفلة والطغام، ما كان لهما من المحبة والهيبة، و لأنهما كانا أقل استئثارا بالفى ء، و تفضلا بمال الله منه، و من شأن الناس إهمال السلطان ما وفر عليهم أموالهم، و لم يستأثر بخراجهم، و لم يعطل ثغورهم، و لأن الذى صنع أبوبكر من منع العترة حقها، والعمومة ميراثها، قد كان موافقا لجلة قريش و كبراء العرب، و لان عثمان أيضا كان مضعوفا فى نفسه، مستخفا بقدره، لا يمنع ضيما، و لا يقمع عدوا، و لقد وثب ناس على عثمان بالشتم والقذف والتشنيع والنكير لأمور لواتى أضعافها و بلغ أقصاها لما اجترءوا على اغتيابه فضلا على مبادأته و الإغراء به و مواجهته كما أغلظ عيينة بن حصن له فقال له: أما إنه لو كان عمر لقمعك و منعك، فقال عيينة إن عمر كان خيرا لى منك، أرهبى فاتقانى. ثم قال: والعجب إنا وجدنا جميع من خالفنا فى الميراث على اختلافهم فى التشبيه والقدر والوعيد يرد كل صنف منهم من أحاديث مخالفيه و خصومه ما هو أقرب اسنادا، و أصح رجالا. و أحسن اتصالا، حتى إذا صاروا إلى القول فى ميراث النبى صلى الله عليه و سلم نسخوا الكتاب و خصوا الخبر العام بما لا يدانى بعض ما ردوه، و أكذبوا قائليه، و ذلك أن كل إنسان منهم إنما يجرى إلى هواه، و يصدق ما وافق رضاه، هذا آخر كلام الجاحظ، ذكره ابن أبى الحديد عن كتاب الشافى للسيد المرتضى. شرح النهج 16/ 264. الخ. قلت: و ذلك لقول الله تعالى: «و ما اختلفتم فيه من شى ء فحكمه إلى الله، الشورى آية 10، والقرآن حكم عدل و قول فصل، يقول بعمومه و خصوصه بالإرث و أنه ورث سليمان داود و أن زكريا سأل ربه بقوله: فهب لى من لدنك وليا يرثنى و يرث من آل يعقوب. ثم إن عليا أيام خلافته فى الكوفة كتب جهرا لعثمان بن حنيف مصارحا بقوله: بلى كانت فى أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم و سخت عنها نفوس قوم آخرين، و لم ينكر أيضا عليه أحد، و يكفى كلامه هذا فى الإنكار على أبى بكر و يبطل بذلك حديث أبى بكر عن النبى صلى الله عليه و آله و سلم و إسناده إليه صلى الله عليه و آله و سلم نفى الإرث عنه صلى الله عليه و آله و سلم.