باب غضب فاطمة على أبى بكر و عمر و استمرارها على الغضب
روى العلماء: أن أبابكر أغضب فاطمة عليهاالسلام و آذاها إلى أن هجرته و صاحبه عمر حتى ماتت، بل الأخبار فى ذلك بلغت حد التواتر، بل و فى أنها أوصت بأن تدفن ليلا حتى لا يصلى عليها أحد غير على بن أبى طالب [ قال فى شرح النهج 16/ 281 حتى لا يصل الرجلان عليهما. ] و صرحت بذلك و عهدت فيه عهدا بعد أن كان أبوبكر و عمر استأذناها [ قال فى شرح النهج 16/ 281 بعد أن كانا استأذنا عليها فى مرضها ليعوداها. ] للدخول عليها ليعوداها فأبت أن تأذن لهما، فلما طالت عليهما المدافعة رغبا إلى على عليه السلام و جعلاه واسطة [ قال فى شرح النهج 16/ 281، رغبا إلى أميرالمؤمنين فى أن يستأذن لهما و جعلاها حاجة إليه. ] فكلمها على عليه السلام فى ذلك و ألح عليها، فأذنت لهما فى الدخول ثم أعرضت عنهما «عند دخولهما» و لم تكلمهم، فلما خرجت قالت لأميرالمؤمنين: هل صنعت ما أردت؟ قال: نعم، قالت: فهل أنت صانع ما آمرك به، قال: نعم، فإنى أنشدك الله أن لا يصليا على جنازتى و لا يقدما على قبرى [ شرح النهج 16/ 281. ] و أنه عليه السلام بعد دفنها محا أثر القبر حتى لا يهتديا إليه [ قال ابن أبى الحديد: و روى أنه عفى قبرها و علم عليه ورش أربعين قبرا فى البقيع، و لم يرش قبرها حتى لا يهتدى إليه، و أنهما عاتباه على ترك إعلامهما بشأنها و إحضارهما الصلاة عليها 16/ 281. ] و من صحاح أخبارهم على عقب فاطمة و هجرها لأبى بكر و عمر، ما فى كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة: أن فاطمة قالت لهما: إنى أشهد الله و ملائكته أنكما أسخطتمانى و ما أرضيتمانى، و لئن لقيت النبى صلى الله عليه و آله و سلم لأشكونكما إليه [ ص 14. ] و فى سيرة الحلبى 3/ 399: غضبت فاطمة من أبى بكر و هجرته إلى أن ماتت، فإنها عاشت بعد رسول الله ستة أشهر [يقول مرتضى الرضوى: وجدت قصاصة ورق بخط الأستاذ الكبير عبدالفتاح عبدالمقصود، و هذا نصها: «ثم تغاضيه حتى لتذهب إلى غاية المدى فى مغاضبتها و وجدها منه فلا يرى مناصا فى استرضائها لعلها ترضى... و يصحب معه رفيقه ابن الخطاب. لكنها لا تأذن أن يقابلاها، فإذا كلما عليا، و أدخلهما دارها حولت وجهها عنها إلى الحائط». «الناشر».] و فى رواية البخارى فى باب فرض الخمس من صحيحه، و مسلم فى صحيحه 5/ 154، أن أبابكر أبى أن يدفع إلى فاطمة شيئا فوجدت على أبى بكر فى ذلك، فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت و عاشت بعد النبى صلى الله عليه و آله و سلم ستة أشهر، فلما توفيت دفنها زوجها على عليه السلام ليلا ولم يؤذن بها أبابكر. و مثل ذلك ما رواه العلامة السمهودى فى «وفاء الوفا» بأخبار دار المصطفى
2/ 157 قال: و فى الصحيح (عن عروة بن الزبير عن عائشة) قالت: فغضبت فاطمة عليهاالسلام فهجرت أبابكر، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت و عاشت بعد رسول الله ستة أشهر [ قال ابن أبى الحديد فى الشرح 16/ 253، و لست أعتقد أنها انصرفت راضية، كما قال قاضى القضاة، بل أعلم أنها انصرفت ساخطة و ماتت و هى على أبى بكر واجدة. ] و نحو ما ذكرنا فى غضب فاطمة عليهاالسلام على أبى بكر و استمرارها على الوجد والغضب والهجر إلى الوفاة، أخبار «كنزالعمال»، و منتخبه، و روايات «جامع الأصول» و «مسند أبى داود»، و ما أخرجه ابن أبى الحديد المعتزلى عن أبى بكر الجوهرى فى شرح نهج البلاغة 4/ 104، و فى رواية أخرى ذكرناها فى السابق أن فاطمة قالت لأبى بكر: والله لأكلمتك أبدا، والله لأدعون الله عليك، فلما حضرتها الوفاة أوصت أن لا يصلى عليها فدفنت ليلا، و صلى عليها عباس بن عبدالمطلب [ و كان بين وفاتها و وفاة أبيها اثنتان و سبعون ليلة، شرح النهج 16/ 214 ] و إن عليا بعد دفنها محا أثر القبر. قال ابن قتيبة فى ص 14 من كتاب «الإمامة والسياسة» أنه قال عمر لأبى بكر: انطلق بنا إلى فاطمة عليهاالسلام فإنا قد أغضبناها، فانطلقا جميعا فأستأذنا على فاطمة فلم تأذن لهما، فأتيا عليا فكلماه فأدخلهما عليها، فلما قعدا عندها حولت وجهها إلى الحائط فسلما عليها فلم ترد عليهماالسلام، فتنكلم أبوبكر فقال: يا حبيبة رسول الله، والله إن قرابة رسول الله أحب إلى من قرابتى، و إنك لأحب إلى من عائشة ابنتى، ولوددت يوم مات أبوك
إنى مت و لا أبقى بعده أفترينى أعرفك و أعرف فضلك و شرفك و أمنعك حقك و ميراثك من رسول الله، إلا أنى سمعت أباك رسول الله يقول: «لا نورث ما تركناه صدقة»، فقالت: أرأيتكما إن حدثتكما حديثا من رسول الله تعرفانه و تعقلانه؟ قالا: نعم، فقالت: نشدتكما الله. ألم تسمعا رسول الله يقول: رضا فاطمة من رضاى و سخط فاطمة من سخطى، فمن أحب إبنتى فاطمة فقد أحبنى، و من أرضى فاطمة فقد أرضانى، و من أسخط فاطمة فقد أسخطنى؟ قالا: نعم سمعناه من رسول الله، قالت: فإنى أشهد الله و ملائكته أنكما أسخطمانى و ما أرضيتمانى و لئن لقيت النبى صلى الله عليه و آله و سلم لأشكونكما إليه، فقال أبوبكر: أنا عائذ بالله تعالى من سخطه و سخطك يا فاطمة، ثم انتخب أبوبكر يبكى حتى كادت نفسه أن تزهق و هى تقول: لأدعون الله عليك فى كل صلاة أصليها، ثم خرج باكيا، فاجتمع إليه الناس فقال لهم: يبيت كل رجل منكم معانقا حليلته مسرورا بأهله، و تركتمونى و ما أنا فيه لا حاجة لى فى بيعتكم أقيلونى بيعتى إلخ [ الإمامة والسياسة ص 14. ]
إقالة أبى بكر و ليست له الإقالة
انظر أيها المنصف إلى قول أبى بكر: أقيلونى فإنه ينبى ء عن عجزه و عدم تمكنه من إرضاء فاطمة، فكيف بإدارته شؤون الأمة، فإنه كان يرى من جانب أن تسليم فدك إلى على و فاطمة خلاف السياسة و خلاف رضاء، عمر كما يشهد بذلك ما ذكر من خبر شق عمر كتاب أبى بكر فى رد فدك [خبر شق عمر كتاب أبى بكر برد فدك إلى فاطمة، ذكره ابن أبى الحديد فى شرح النهج «الطبعة الأولى» 4/ 102، و فى رواية ذكرها ابن أبى الحديد فى المجلد الرابع ص 102، أن عمر بصق فى الكتاب فمحاه و خرقه. «الناشر»] و يروى من جانب آخر عدم تمكنه من إرضاء فاطمة، و أنه صار موردا لغضبها و سخطها عليه فضاق به الأمر، فاستقال من الإمارة و لا يجديه ذلك نفعا بعد إغضابه فاطمة إلا رفع يده عن فدك و لم يكن له أن يستقيل لو كان منصوبا من الله تعالى [ هذا رد على بعض المعتقدين بأن أبابكر منصوص عليه بالخلافة. ]، فإن استقالته حينئذ تكون كاستقالة النبى صلى الله عليه و آله و سلم من النبوة. نعم: لإمام الجماعة أن يستقيل ولكن ذلك حيث أنه إمام الجماعة غير منصوص عليه من الله تعالى، فلا يتوهم مقايسة المسألة بالقاضى و إمام الجماعة للصلاة، فإن من يكون له منصب معين من الله تعالى لا يجوز له الاستقالة منه لأى غرض كان أو حاجة دعت اليها، و لذا لا يجوز لأحد من المنصوبين من قبل النبى صلى الله عليه و آله و سلم أو ولى الأمر من بعده الإعراض عن المنصب المعين له والإستقاله عنه، إلا برضاء النبى صلى الله عليه و آله و سلم أو الولى. و إنى إلى الآن كلما تأملت فى قول أبى بكر: أقيلونى، لم أعرف له وجها محصلا فإنه إن كان صادقا كان ذلك إزراء بخلافته سيما مع إنضمامه إلى قوله فلست بخيركم. رواه ابن حجر المكى فى صواعقه ص 7، وابن قتيبة فى الإمامة والسياسة ص 34، و ابن أبى الحديد فى الشرح 4/ 169، و الا فلا يصح أيضا. و كيفما كان فالذى يفصح عن وقوع أبى بكر فى الندم على ما عامل به فاطمة و أدخل عليها من الوجد والغضب والأذى كلامه حين موته- لوددت
إنى لم أكشف عن بيت فاطمة [ و فى رواية: ليتنى لم أفتش بيت فاطمة بنت رسول الله و أدخله الرجال و لو كان أغلق على حرب. ]- ذكره فى منتخب «كنزالعمال» المطبوع فى حاشية المسند لأحمد فى باب الإمارة و خلافة الصديق، و ذكره المسعودى فى مروج الذهب 2/ 194، واليعقوبى فى تاريخه 2/ 195، وابن أبى الحديد فى الشرح 1/ 130، وابن تيمية الحرانى فى منهاج السنة 4/ 220، و فضل بن روزبهان فى إبطال الحق قال الشاعر:
حملوها يوم السقيفة أوزارا
ثم جاؤوا من بعدها يستقيلون
و هيهات عثرة لا تقال .
تزول الجبال و هى تزال
و هيهات عثرة لا تقال .
و هيهات عثرة لا تقال .
جواز إعطاء فدك من باب الولاية لولا الغضاضة
ثم إن أبابكر لما كان واليا مطاعا عند المسلمين لا يتصور فى حقه الوقوع فى المحذور حتى يلتجى ء إلى الاستقالة من الخلافة لأجل فدك، فإنه كان له أن يعطى فدك لفاطمة من باب الولاية، كما أنه أعطى المنقول من تركة رسول الله مثل السيف والعصا واللباس والبغلة و غيرها لعلى و فاطمة، و أعطى الحجرات للنساء، كذلك و خلى بينهن و بين مساكنهن، فإن كان ذلك لعهد من النبى صلى الله عليه و آله و سلم، فأى عهد وقع منه إلى أبى بكر أو غيره فيذلك و لم يقع فى فدك؟ مع أن الحديث المروى فى نفى الإرث عامة يشمل فدك و غير فدك، و إن كان من باب الولاية العامة كما قيل، فإعطاء فدك إلى فاطمةعليهاالسلام بعد هذه الاحتجاجات أولى من إعطاء غيرها لغيرها، و كان موفقا للإحسان و مخالفا للإساءة والسخط والبغضاء، و لذا قال قاضى القضاة حاكيا قول الشيعة: و قد كان الأجمل أن يمنعهم التكرم مما ارتكبوا منها، فضلا عن الدين [
قال العلامة المحقق المرحوم الشيخ محمود أبوريه فى كتابه شيخ المضيوة الطبعة الثالثة ص 169: كنا نشرنا كلمة بمجلة، «الرسالة المصرية» عن موقف أبى بكر من الزهراء فى هذا الميراث ننقل منها ما يلى: «إننا إذا سلنا بأن خبر الآحاد الظنى يخصص الكتاب القطعى، و أنه قد ثبت أن النبى قال: إنا لا نورث. و أنه لا تخصيص فى عموم هذا الخبر، فإن أبابكر كان يسعه أن يعطى فاطمة رضى الله عنها بعض تركة أبيها، كأن يخصها بفدك، و هذا من حقه الذى لا يعارضه فيه أحد، إذ يجوز للإمام أن يخص من يشاء بما شاء، و قد خص نفسه الزبير بن العوام و محمد بن مسلمة و غيرهما ببعض متروكات النبى، على أن فدك هذه التى منعها أبوبكر من فاطمة لم تلبث أن أقطعها الخليفة عثمان لمروان. (العدد 518 من السنة الحادية عشرة من مجلة الرسالة) (مرتضى الرضوى) و قال ابن أبى الحديد فى الشرح 16/ 286 «و هذا الكلام لا جواب عنه، و لقد كان التكرم و رعاية حق رسول الله صلى الله عليه و سلم و حفظ عهده يقتضى أن تعوض ابنته بشى ء يرضيها إن لم يستنزل المسلمون عن فدك و تسلم إليها تطييبا لقلبها، و قد يسوغ للإمام أن يفعل ذلك من غير مشاورة المسلمين إذا رأى المصلحة فيه. قال شريف مكة مشيرا إلى هذا المعنى:
جرعاها من بعد والدها الغيظ
ليت شعرى ما كان ضرهما
كان إكرام خاتم الرسل الهادى
إن فعل الجميل لم يأتياه
و لو ابتيع ذاك بالثمن الغالى
أترى المسلمين كانوا يلومونهما
كان تحت الخضراء بنت نبى
بنت من أم من جليلة من
ويل لمن سن ظلمها و أذاها
مرارا فبئسما جرعاها
الحفظ لعهد النبى لو حفظاها
البشير النذير لو أكرماها
و حسان الأخلاق ما اعتمداها
لما ضاع فى اتباع هواها
فى العطاء لو أعطياها
صادق ناطق أمين سواها
ويل لمن سن ظلمها و أذاها
ويل لمن سن ظلمها و أذاها
يعامل أبوبكر فاطمة فى فدك
مثل ما عامل النبى صلى الله عليه و آله و سلم به زينب ابنته فى التماسه من المسلمين أن يردوا إليها المال الذى بعثته لفداء زوجها أبى العاص، حيث أسر يوم بدر، و قال صلى الله عليه و آله و سلم للمسلمين: إن رأيت أن تطلقوا لها أسرها و تردوا عليها ما بعثت به من الفداء فافعلوا، فقالوا نعم يا رسول الله، نفديك بأنفسنا و أموالنا، فردوا عليها ما بعثت به من الفداء و أطلقوا أباالعاص بغير فداء، و هذا من مسلمات الحديث. قال ابن أبى الحديد المعتزلى فى الشرح عند بيان غزوة بدر: «قرأت على النقيب أبى جعفر يحيى بن أبى زيد البصرى العلوى هذا الخبر [ أى قول النبى صلى الله عليه و سلم للمسلمين: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها و تردوا عليها ما بعثت به فافعلوا. ]، فقال أترى أبابكر و عمر لم يشهدا هذا المشهد؟ أما كان يقتضى التكرم والإحسان أن يطيبا قلب فاطمة بفدك و يستوهباها من المسلمين؟ أتقصر منزلتها عند رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عن منزلة زينب أختها و هى سيدة نساء العالمين، هذا إذا لم يثبت لها حق لا بالنحلة و لا بالإرث. فقلت له: فدك بموجب الخبر الذى رواه أبوبكر قد صار حقا من حقوق المسلمين، فلم يجز له أن يأخذه منهم. فقال: و فداه أبى العاص قد صار حقا من حقوق المسلمين و قد أخذه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم منهم. فقلت: رسول الله صاحب الشريعة: والحكم حكمه و ليس أبوبكر كذلك
فقال: ما قلت هلا أخذه أبوبكر من المسلمين قهرا يدفعه إلى فاطمة عليهاالسلام، و إنما قلت: هلا استنزل المسلمين عنه و استوهبها منهم لها كما استوهب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم من المسلمين فداء أبى العاص؟ أتراه لو قال لهم: هذه بنت نبيكم قد حضرت لهذه النخيلات أفتطيبون عنها نفسا، أكانوا يمنعونها ذلك؟ فقلت له: قد قال: قاضى القضاة أبوالحسن عبدالجبارين أحمد نحو هذا قال: إنما لم يأتيا بحسن فى شرح التكرم، و إن كان ما أتياه عندنا حسنا فى الدين. قلت: إن ذلك لم يكن حسنا أيضا فى الدين، و ليس قوله هذا إلا لحسن ظنه بهما، و إلا فقواعد الشرع على الخلاف، و ذلك لما روته العامة فى كتبهم المعتبرة إلى أن بلغت حد التواتر اليقينى، من أن الله تعالى يغضب لغضب فاطمة، و يرضى لرضاها، و هو من أحاديث الحاكم فى «المستدرك» والعلامة المناوى فى «كنوز الدقائق» فى حرف الألف، و أبوبكر و عمر سمعا بالحديث من النبى صلى الله عليه و آله و سلم و شهدا بذلك عند فاطمة حسبما عرفت من كتاب «الإمامة والسياسة» لابن قتيبة، فإن فيه قالت فاطمة لهما: نشدتكما الله