( الجزء الثالث و العشرون من ) كتاب المبسوط لشمس الدين السرخسي و كتب ظاهر الرواية أتت ستا و بالاصول أيظا سميت صنفها محمد الشيباني حرر فيها المذهب النعماني الجامع الصغير و الكبير و السير الكبير و الصغير ثم الزيادات مع المبسوط تواترت بالسند المضبوط و يجمع ألست كتاب الكافي للحاكم الشهيد فهو الكافي أقوى شروحه الذي كالشمس مبسوط شمس الامة السرخسي ( تنبيه ) قد بأشر جمع من حضرات أفاضل العلماء تصحيح هذا الكتاب بمساعدة جماعة من ذوي الدقة من أهل العلم و الله المستعان و عليه التكلان دار المعرفة بيروت - لبنان
(2)
بسم الله الرحمن الرحيم ( كتاب المزارعة ) ( قال الشيخ الامام ) الاجل الزاهد شمس الائمة و فخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبى سهل السرخسي رحمه الله لملاء أعلم بان المزارعة مفاعلة من الزراعة و الاكتساب بالزراعة مشروع أول من فعله آدم صلوات الله و سلامه عليه على ما روى أنه لما أهبط إلى الارض أتاه جبريل عليه السلام بحنطة و أمره بالزراعة وازدرع رسول الله صلى الله عليه و سلم بالجرف و قال عليه الصلاة و السلام الزارع بتاجر ربه عز و جل و قال عليه الصلاة و السلام أطلبوا الرزق تحت خبايا الارض يعنى عمل الزراعة و العقد الذي يجرى بين اثنين لهذا المقصود يسمى مزارعة و يسمى مخابرة أيضا على ما روي عن زيد بن ثابت رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن المخابرة فقيل و ما المخابرة قال المزارعة بالثلث و الربع و انما سميت مخابرة من تسمية العرب الزارع خبيرا و قيل هذا الاشتقاق من معاملة رسول الله صلى الله عليه و سلم مع أهل خيبر فسميت مخابرة بالاضافة إليهم و بيانه في الحديث الذي بدئ الكتاب به و رواه عن أبى المطرف عن الزهرى قال حدثني من لا أتهمه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لليهود حين عاملهم على خيبر أقركم ما أقركم الله و فيه بيان ان المرسل حجة فان الزهرى رحمه الله أرسل الحديث حين لم يبين اسم الراوي و رواه محمد رحمه الله مستدلا به على جواز المزارعة و المعاملة فقد عامل رسول الله صلى الله عليه و سلم أهل خيبر على الشطر و فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم دليل الجواز و تأويل ذلك عند أبى حنيفة رحمه الله من وجهين أحدهما أن النبي صلى الله عليه و سلم حين افتتح خيبر استرقهم و تملك أراضيهم و نخيلهم ثم جعلها في أيديهم يعملون فيها للمسلمين بمنزلة العبد في نخيل مواليهم و كان في ذلك منفعة للمسلمين ليتفرغوا للجهاد بأنفسهم و لانهم كانوا أبصر بذلك العمل من
(3)
المسلمين و ما جعل لهم من الشرط بطريق النفقة لهم فانهم مماليك للمسلمين يعملون لهم في نخيلهم فيستوجبون النفقة عليهم فجعل نفقتهم فيما يحصل بعملهم و جعل عليهم نصف ما يحصل بعملهم ليكون ذلك ضريبة عليهم بمنزلة المولى يشارط عبده الضريبة إذا كان مكتسبا و قد نقل بعض هذا عن الحسين بن على رضى الله عنهما و الثاني أنه من عليهم برقابهم و أراضيهم و نخيلهم و جعل شطر الخارج عليهم بمنزلة خراج المقاسمة و للامام رأي في الارض الممنون بها على أهلها أن شاء جعل عليها خراج الوظيفة و ان شاء جعل عليها خراج المقاسمة و هذا أصح التأويلين فانه لم ينقل عن أحد من الولاة انه تصرف في رقابهم أو رقاب أولادهم كالتصرف في المماليك و كذلك عمر رضى الله عنه أجلاهم و لو كانوا عبيدا للمسلمين لما أجلاهم فالمسلم إذا كان له مملوك في أرض العرب يتمكن من إمساكه و استدامة الملك فيه فعرفنا ان الثاني أصح ثم بين لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ان ما فعله من المن عليهم بنخيلهم و أراضيهم مؤيد بقوله عليه الصلاة و السلام أقركم ما أقركم الله و هذا منه شبه الاستثناء و اشارة إلى أنه ليس لهم حق المقام في نخيلهم على التأبيد لانه علم من طريق الوحي انه يؤمر باجلائهم فتحرز بهذه الكلمة عن نقص العهد لانه كان أبعد الناس عن نقض العهد و الغدر و فيه دليل ان المن المؤقت صحيح سواء كان لمدة معلومة أو مجهولة و ان الغدر ينتفى بمثل هذا الكلام و ان لم يفهم الخصم فانهم لم يفهموا مراد رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد صح منه التحرز عن الغدر بهذا اللفظ قال و ان بني عذرة جاؤا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حين افتتح خيبر و جاءته يهود وادي القرى شركاء بين عذرة بالوادي فاعطوا بأيديهم و خشوا أن يغزوهم رسول الله صلى الله عليه و سلم و هؤلاء كانوا بالقرب من أهل خيبر و ان اليهود بالحجاز كانوا ينتظرون ما يؤل اليه حال النبي صلى الله عليه و سلم مع أهل خيبر فقد كانوا أعز اليهود بالحجاز كما روى انه كان بخيبر عشرة آلاف مقاتل فلما صاروا مقهورين ذلت سائر اليهود و انقادوا لطلب الصلح فمنهم يهود وادي القرى جاؤا رسول الله صلى الله عليه و سلم فاعطوا بأيديهم أى انقادوا له و طلبوا الامان و خشوا أن يغزوهم فكان هذا من النصرة بالرعب كما قال عليه الصلاة و السلام نصرت بالرعب مسيرة شهر فلما أعطوا بأيديهم و الوادي حين فعلوا ذلك نصفان نصف لبني عذرة و نصف لليهود فجعل رسول الله الوادي أثلاثا ثلثا له و للمسلمين و ثلثا خاصة لبني عذرة و ثلثا لليهود فكان هذا بطريق الصلح من رسول الله صلى الله عليه
(4)
و سلم فدل أن للامام أن يصالح أهل بلده على بعض الاموال و الاراضى إذا رضوا بذلك ثم كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد هم باجلاء اليهود إلى لشام على ما روى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يجتمع في جزيرة العرب دينان و قال عليه الصلاة و السلام ان عشت إلى قابل لاخرجن نجران من جزيرة العرب و كان في ذلك اظهار فضيلة رسول الله صلى الله عليه و سلم و فضيلة أمته حيث ان جزيرة العرب مولده و منشاه طهر الله تلك البقعة عن سكنى المؤمن فيها و هي أفضل البقاع لان فيها الحرم و بيت الله تعالى حرم الله تعالى نعم مشاركة المؤمن مع المؤمن في السكنى فيها الا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قبض قبل ان يتمم ذلك و لم يتفرغ أبو بكر الصديق رضى الله عنه لذلك لانه لم تطل مدة خلافته و قد كان مشغولا بقتال أهل الردة حتى إذا كان في زمن عمر رضى الله عنه و كان قد سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه و سلم أجلى اليهود من خيبر و أمر يهود الوادي أن يتجهزوا بالجلاء إلى الشام و كان المعنى في ذلك أن اليهود انما جاؤا من الشام إلى أرض الحجاز و كان مقصود رؤسائهم من ذلك طلب الحنيفية لما وجدوا في كتبهم من بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم و نعت أمته و بذلك كان يوصي بعضهم بعضا فلما بعث الله تعالى رسول الله صلى الله عليه و سلم امتنعوا من متابعته و الانقياد للحق الذي دعا اليه حسدا و كفرا قال الله تعالى و كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا الآية فجوزوا على سوء صنيعهم بان لا يمكنوا من المقام في أرض العرب و أن يعودوا إلى الموضع الذي جاء من ذلك الموضع أباؤهم فلهذا اجلاهم عمر رضى الله عنهم ثم احتج عليه يهود الوادي بقولهم انما نحن في أموالنا قد أقرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم و قاسمنا و معنى هذا الكلام الاشارة منهم إلى الفرق بينهم و بين أهل خيبر فان خيبر قد افتتحها المسلمون فصارت مملوكة لهم فاما نحن فصالحنا رسول الله صلى الله عليه و سلم على بعض الاراضى فاقرنا في أموالنا على ما كنا عليه في الاصل و لم يظهر منا خيانة فليس لك أن تجلينا من أرضنا فقال لهم عمر رضى الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لكم أقركم ما أقركم الله يعنى أن هذا اللفظ كان استثناء من رسول الله صلى الله عليه و سلم في الصلح الذي جرى بينه و بينكم فلا يمنعنى ذلك من اجلائكم و ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد عد أن لا يجمتع في أرض العرب دينان وانى مجل من لم يكن له عهد من رسول الله صلى الله عليه و سلم يعني عهدا خاصا سوى ذلك الصلح العام فقد كان ذلك مقيدا بالاستثناء و أنا
(5)
مقوم أموالكم هذه فمعطيكم أثمانها يعنى بهذا الاجلاء لا أبطل حقهم عن أموالكم و لا أتملكها عليكم مجانا و لكني أعطيكم قيمتها و فيه دليل ان الملك الذمي من الحرمة ما لملك المسلم و انه متى تعذر إيفاء العين في ملكه يجب ازالته بالقيمة و لهذا قلنا في الكافر إذا أسلم عبده يجبر على بيعه و إذا أسلمت أم ولده تخرج إلى الحرية بالسعاية في القيمة و فيه دليل ان الامام إذا أحس بالغدر من أهل بلدة من بلاد أهل الذمة و انهم يخبرون المشركين بعورات المسليمن يكون له أن يجليهم من تلك الارض إلى أرض أخرى و انه يقوم من أملاكهم ما يتعذر نقله فيعطيهم عوض ذلك من بيت المال أو من أرض أخرى ان كانت لعامة المسلمين كما فعله عمر رضى الله عنه فانه أمر بأموالهم فقومت بتسعين ألف دينار فدفعها إليهم و أجلاهم و قبض أموالهم ثم قال لبني عذرة انا لن نظلمكم و لن نستأثر عليكم أنتم شفعاؤنا في أموال اليهود فان شئتم أعطيتم نصف ما أعطيناهم و أعطيتكم نصف أموالهم و ان شئتم سلمتم لنا البيع فتولينا الذي لهم و فيه دليل أن الشفعة تستحق بالشركة في العقار فقد كانت بنو عذرة في الوادي شركاء و ان أحد الشركاء إذا اشترى فله الشفعة فيما اشترى كما للشريك الآخر و انما يشتريه الامام للمسلمين بمال بيت المسلمين ليستحق بالشفعة و لكن الاشكال في أنهم لم يطلبوا الشفعة حتى قال لهم عمر رضى الله عنه ما قال و الشفعة تبطل بترك الطلب بعد العلم بالبيع فقيل هم قد طلبوا الشفعة و أظهروا ذلك بينهم و لكنهم احتشموا عمر رضى الله عنه فلم يجاهروه بذلك فلما بلغه طلبهم قال ما قال و قيل هم عمر رضى الله عنه أن ذلك بيع شرعي و أن لهم الشفعة بذلك فعند ذلك طلبوا الشفعة و قالوا بل نعطيكم نصف الذي أعطيتم من المال و تقاسمونا أموالهم فباعت بنو عذرة في ذلك الرقيق و الابل و الغنم حتى دفعوا إلى عمر رضى الله عنه خمسة و أربعين ألف دينار فقسم عمر الوادي نصفين بين الامارة و بين بني عذرة و ذلك زمان التحظير حين حظر عمر رضى الله عنه الوادي نصفين يعنى جمع انصباء المسلمين في جانب و انصباء بن عذرة في جانب و كان ذلك أمرا عظيما قد اشتهر في العرب حتى جعلوه تأريخا و كانوا يسمون ذلك زمان التحظير فيقول بعضهم لبعضهم كنت زمان التحظير ابن كذا سنة كما يكون مثله في زماننا إذا حدث أمر عظيم في الناس يجعل التاريخ منه بمنزلة وقت الوباء و غيره و قال الزهري رحمه الله كان رسول الله صلى الله عليه و سلم حين صالح أهل خيبر أعطاهم النخل على أن يعملوا و يقاسمهم نصف الثمار و كان يبعث لقسمة ذلك عبد الله بن رواحة فيخرص عليهم فيقول ان شئتم
(6)
فلكم و ان شئتم فلنا و فى هذا الحديث بيان حكمين حكم المعاملة و قد بيناه و حكم الخرص فهو دليل على أن للامام في الاراضي التي يكون للامام خراجها خراج المقاسمة و فى الارض العشرية أن يبعث من يخرص الثمار و الزروع على أربابها الا أن عند الشافعي هذا الخرص بمنزلة الكيل حتى إذا ادعوا النقصان بعد ذلك لا يقبل قولهم الا بحجة و عندنا هذا الخرص لا يكون ملزما إياهم شيئا لان الذي يخرص انما يقول شيأ بظن و الظن لا يغنى من الحق شيئا فالقول قولهم في دعوى النقصان و على من يدعى عليهم الخيانة و السرقة إثبات ذلك بالبينة و على هذا الاصل جوز الشافعي رحمه الله بيع العرايا و هو بيع الثمر على رؤوس النخل بتمر مجدود على الارض خرصا فيما دون خمسة أوسق و قال الخرص بمنزلة الكيل و لم يجوز ذلك علماؤنا رحمهم الله و قالوا الخرص ليس بمعيار شرعي تظهر به المماثلة فيكون هذا بيع الثمر بالثمر مجازفة و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم التمر بالتمر مثلا بمثل و تأويل ما فعله عبد الله بن رواحة رضى الله عنه بامر رسول الله صلى الله عليه و سلم من وجهين أحدهما أن ذلك كان على سبيل النظر للمسلمين منه حتى يتحرز اليهود من كتمان شيء فقد كانوا في عداوة المسلمين بحيث لا يمتنعون مما يقدروا عليه من الاضرار بالمسلمين و قيل كان ابن رواحة مخصوصا بذلك حتى كان خرصه بمنزلة كيل غيره لا يتفاوت قد علم ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم من طريق الوحي أو كان له ذلك بدعاء رسول الله صلى الله عليه و سلم و بكونه مبعوث رسول الله صلى الله عليه و سلم و ذلك بين فيما رواه بعد هذا و لا يوجد مثل ذلك في حق غيره و معنى قوله ان شئتم فلكم و ان شئتم فلنا أي أن شئتم أخذتم على ما خرصت و أعطيتمونا نصف ذلك بعد الادراك و ان شئتم أخذنا ذلك و أعطيناكم نصف ذلك بعد الادراك فهذا منه بيان أنه عدل في الخرص و لم يمل إلى المسلمين و لا قصد الحيف على اليهود و عن مكحول أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دفع خيبر إلى أهلها الذين كانت لهم على أن يعملوها فإذا بلغت الثمار كان لهم النصف و للمسلمين النصف فبعث ابن رواحة رضى الله عنه فخرصها عليهم و قد بينا فائدة الحديث و فى اللفظ المذكور في هذا الحديث دليل على ما ذهب اليه أبو حنيفة رحمه الله انه من عليهم بأراضيهم و جعل عليهم نصف الخارج بطريق خراج المقاسمة و عن حجاج بن ارطاة قال سألت محمد بن على رضى الله عنه عن المزارعة بالثلث فالنصف فقال اعطي رسول الله صلى الله عليه و سلم خيبر بالشطر و أبو بكر و عثمان و علي رضى لله عنهم و أهلوهم إلى يومهم هذا يفعلونه و فيه دليل جواز