وقف النقود للإقراض أو المضاربة :
قال بعض الفقهاء بعدم صحة وقف الأموال النقدية كالدراهم والدنانير وغيرها ؛ وذلك لعدم وجود نفع لها إلاّ بالتصرف فيها ، وهو منافٍ للوقف المقتضي بقاء الأصل .وهناك من قال بصحة وقف الأموال ( كالدراهم والدنانير ) حيث يُفرض لها نفع مع بقائها ؛ كالتزيين بها ودفع الذل ونحوها ، فيتناولها حينئذٍ إطلاق أدلّة الوقف ، فينتفع بها بواسطة إعارتها مع بقاء عينها .
ولا تنافي بين هذين القولين ؛ لأنّ القول الأوّل افترض أنّ نفعها يكون بالتصرف بها وهو منافٍ لبقائها ، بينما افترض القول الثاني وجود نفع لها من دون أن يتصرف فيها ، وهو لا ينافي البقاء للعين .
هذا ولكن البحث المطروح هو شيء آخر غير ما تقدم ، وهو جواز وقف الأموال لأجل القرض أو المضاربة ، فتكون المالية هي الموقوفة مع تبدّل تجسيدها من عين إلي عين اُخري ، فهل يجوز مثل هذا الوقف مع أنّ فتاوي الفقهاء صرحت بأنّ الوقف إنّما يصح في الأعيان المملوكة التي ينتفع بها مع بقاء عينها ؟
وبعبارة اُخري : إنّ مشكلة حرمة تبديل العين الموقوفة تجعلنا نفكر في بديل لوقف العين بحيث يمكننا أن نوقف المالية ، ونجعل المتولي علي وقف المالية قادرا علي التبديل والبيع بما يراه صالحا في أي وقت أراد ، وهذا ما يجعل الوقف مواكبا للمناشط العصرية التي تقوم بها السوق المالية ، فيدخل المال الموقوف في المعاملات حسب ما يراه المتولي ، أو يستفيد من مالية المال الموقوف المحتاجون لقضاء حاجاتهم من المال بشرط إرجاعها لتقرض ثانيا .
وهذا الأمر جيد إن قام عليه دليل يصحح هذا الموقف ، فهل من دليل علي ذلك ؟
أقـول : قد يقال أوّلاً : إننا نتمسّك بإطلاق روايات الصدقة الجارية ( 18 ) الوارد في روايات صحيحة متعددة ؛ بمعني أنّ الجريان ليس مصداقه الوحيد هو انحباس العين وتوقيفها عن البيع ( حيث كان هو المصداق الرائج في زمن صدور النصّ ) بل هناك مصداق آخر للصدقة الجارية ؛ وهو مالية الشيء التي يمكن تجسيدها ضمن أعيان مختلفة متعاقبة ، وحينئذٍ يكون قوام الجريان بالتحبيس ولكن المحبوس قد يكون عينا وقد يكون مالية .
وهذا البيان لوقف المالية لا يعارضه ما ورد من تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة ( الثمرة ) ؛ حيث إنّ وقف المالية أيضا تحبيس لها ، وقرضها أو المضاربة بها مع كون النفع للمحتاجين هو نوع تسبيل للمنفعة المرتجاة من المالية .
وثانيا : إنّ صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج ( 19 ) ـ المارّة ـ صرّحت بجواز شرط الواقف حق البيع والتبديل للموقوف عليه ، وحينئذٍ يرجع واقع هذا الشرط إلي التصدق بالمالية القابلة للتجسيد في الأعيان المختلفة .
ويرد علي الدليل الأوّل : أنّنا نحتمل أنّ الصدقة الجارية الواردة في الروايات منحصر مصداقها في مرتكز المتشرعة في الوقف الذي لا يباع ولا يوهب ولا يبدّل ، وهذا الارتكاز يكون صالحا للقرينية الموجبة لانصراف إطلاق عنوان الصدقة الجارية إلي وقف العين .
ويرد علي الدليل الثاني : أنّ في الصحيحة جواز بيع الوقف لوفاء الدين وجواز بيع الوقف وتقسيم الثمن علي آل بني المطلب وآل أبي طالب والهاشميين ، وهذا معناه إبطال الوقف لا أنّ الوقف يكون للمالية التي تبقي ثابتة ويكون النفع منها بالقرض والمضاربة ، فهي أجنبية عن محل كلامنا .
يبقي أنّنا نتمكن أن نصل إلي نتيجة وقف المال لأجل القرض أو المضاربة مع صرف الربح في جماعة الفقراء من المسلمين بالوصية التي تنفذ بعد الموت في خصوص الثلث إن لم يرضَ الورثة بالزائد عليه ، فيوصي الإنسان بصرف مقدار معيّن من أمواله في إقراض المحتاجين أو المضاربة به علي أن يكون الربح للمحتاجين من أهل بلده مثلاً ، فبهذه العملية نصل إلي نتيجة وقف المال علي القرض أو المضاربة به علي أن يكون الربح لجماعة معيّنة ، أمّا نفس الوقف بالنقود المالية فلم يتم عليه أي دليل ( 20 ) .