حكم الإبدال والاستبدال :
إنّ حكم جواز بيع الوقف في حالات معينة يكون استثناءً من القاعدة الأولية القائلة بعدم جواز بيع الوقف ، كما ادّعي عليه الإجماع ودلّت عليه النصوص الشرعية ، مثل معتبرة أبي علي بن راشد عن أبي الحسن عليهالسلام ( الإمام الهادي عليهالسلام ) حيث قال : « لا يجوز شراء الوقف ، ولا تُدخِل الغلّة في ملكك ، ادفعها إلي من اُوقفت عليه » ( 5 ) .ومثل ما روي من حكاية وقف علي أمير المؤمنين عليهالسلام حيث قال : « هذا ما تصدّق به علي بن أبي طالب وهو حي سويّ ؛ تصدّق بداره التي في بني زريق صدقة لا تباع ولا توهب حتي يرثها اللّه الذي يرث السماوات والأرض » ( 6 ) .
فإنّ الظاهر من الوصف « لا تباع ولا توهب » كونها صفة لنوع صدقة الوقف لا لشخص هذه الصدقة ، ويبعد كونها شرطا خارجا عن النوع مأخوذا في الشخص ؛ لأنّه لو كان كذلك لاُخّر الشرط عن ذكر من وقف عليهم .
بالإضافة إلي أنّ الظاهر من معني الوقف الذي هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة أنّه علي نحو الدوام ، وهو يقتضي الحكم بعدم جواز بيع الوقف ؛ لأنّ بيعه ينافي تحبيس الأصل الذي هو دخيل في معني الوقف .
وهذا الأصل ( الذي هو عدم جواز بيع الوقف ) لا يجوز الخروج عليه في الوقف التحريري ، ولكن يجوز الخروج عليه في الوقف التمليكي المؤبد والمنقطع ، وفيما وقف علي الأماكن العامة من فرش أو أثاث في موارد ذكرها الفقهاء ، تمّ منها عندنا أربعة موارد وهي :
المورد الأوّل : أن يخرب الوقف بحيث لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه ، فإنّ أدلّة المنع لا تأتي هنا سواء كانت إجماعا لبّيا أو أدلّة لفظية ؛ مثل : لا يجوز بيع الوقف ، حيث إنها منصرفة عن هذا المورد وناظرة إلي حالة ما إذا انتفع بها الموقوف عليهم .
أمّا في حالة عدم الانتفاع بالوقف مع بقاء عينه ، فإنّ الأمر يدور بين ثلاثة اُمور :
أحدها : تعطيله حتي يتلف بنفسه ، وهذا تضييع منافٍ لحق اللّه وحق الواقف وحق الموقوف عليهم .
ثانيها : يُباع ويستفيد منه البطن الموجود فقط بتقسيم الثمن عليهم .
ثالثها : يباع ويبدّل بما يبقي وينتفع به الموجود والذي سيوجد فيما بعد .
وبين الأمر الثاني والثالث اتفاق علي جواز البيع ، لكن الثالث هو الأوجه ؛ لأنّ الوقف مؤبد أو مشترك بين الموجود والذي سيوجد فيما بعد حسب وقفيّة الواقف ، فلابدّ أن يكون بدله أيضا كذلك ؛ لأنّه هو الموافق لقصد الواقف وإنشائه ، فيكون متبعا ، وهو المتعيّن .
وعلي هذا يشترك الموقوف عليهم ( من وجد ومن سيوجد ) في الثمن وهو مقتضي المعاوضة الحقيقية ؛ إذ لا يُعقل اختصاص العوض بمن لم يختص بالمعوّض ، فيكون حكم الثمن هو حكم الوقف في كونه ملكا للجميع وينتفع به الكل علي الترتيب ، فإن كان الثمن مما يمكن أن يبقي وينتفع منه الموجودون علي نحو المبدل وكانت مصلحة الكل ( الموجود والذي سيوجد ) في إبقائه اُبقي ، وإلاّ اُبدل مكانه ما هو أصلح لهم ؛ كأن يباع بشيء أصلح لهم .
ثمّ يتفرع علي هذه الحالة اُمور :
1 ـ لا حاجة إلي صيغة الوقف في البدل ( الثمن ) ، بل نفس البدلية تقتضي كونه كالمبدل ؛ لأنّه مملوك علي حدّ الملك الأوّل ، ويستحيل أن يملك لا علي حده .
2 ـ للولي أو الناظر أن ينظر في المبدل ويتصرف فيه بحسب مصلحة الجميع ولو بالإبدال بعين اُخري أصلح لهم ، بل قد يجب إذا كان تركه يعدّ تضييعا للحقوق ؛ وذلك : لأنّ هذا البدل ليس كالأصل الذي أنشأه الواقف حيث يكون حكمه المنع من البيع إلاّ لعذر ؛ لأنّ الأصل المنشأ من قِبل الواقف كان له حكم شرعي ، وقد زال الوقف فزال الحكم الذي يكون له . أمّا بدل الوقف فليس وقفا منشا من قِبل الواقف ، فلا تترتب عليه جميع الأحكام الابتدائية للوقف المنشأ والتي منها عدم جواز بيعه .
3 ـ يظهر عدم وجوب شراء المماثل للوقف ، بل ربما قد لا يجوز إذا كان شراء غيره أصلح ؛ لأنّ الثمن إذا صار ملكا للموقوف عليهم ( الموجودين والمعدومين ) فاللازم ملاحظة مصلحتهم ؛ وذلك : لأنّ الوقف الابتدائي إذا كان موجودا بشخصه فلا يلاحظ فيه إلاّ مدلول كلام الواقف ، وأمّا إذا بِيع « لجواز ذلك » وانتقل الثمن إلي الموقوف عليهم فلا يلاحظ فيه إلاّ مصلحة الموقوف عليهم .
أقـول : إنّ هذه الصورة الدالة علي جواز بيع الوقف إذا حصلت وبِيع الوقف ، فسوف تكون أيدي الاُمناء والأولياء علي الوقف حُرّة في تبديل الوقف ؛ لما فيه تحقيق مصلحة الوقف والواقف بطرق جديدة تراعي فيها المتطلبات العصرية في ضوء المعطيات الشرعية ، وبهذا نكون في حرية تامة من صيغة الواقف وإنشائه ، ولا يأتي هنا الحديث المعروف « الوقوف حسب ما يوقفها أهلها » ، بل نخرج عن هذا الضيق الشرعي إلي مراعاة مصلحة الوقف الجديد غير المنشأ من الواقف ، ونراعي مصلحة الموقوف عليهم باتباع الطرق الجديدة العصرية في الاستفادة من هذه الأوقاف التي تبدلت من الوقف الابتدائي إلي وقف البدل ( الثمن ) .
المورد الثاني : إذا اشترط الواقف بيع الوقف عند حاجته أو حاجة الموقوف عليهم أو إذا كان فيه مصلحة لمن هو موجود من الموقوف عليهم أو لجميع الموقوف عليهم ، أو عند مصلحة خاصة علي حسب ما يشترط في ضمن الوقف .
وهذا الشرط راجع إلي قطع الوقف وبيعه بالشرط ، وليس هو وقفا منقطعا .
ويدلّ علي صحة هذا الوقف والشرط قوله تعالي : « أوفوا بالعقود »( 7 ) ، وقوله عليهالسلام : « المؤمنون عند شروطهم » ( 8 ) ، وقوله عليهالسلام : « الوقوف تكون علي حسب ما يوقفها أهلها »( 9 ) ؛ حيث إنّ أهل الوقف قد وقفوا هذا الشيء كذلك .
وهذا الشرط ليس منافيا لمقتضي الوقف حتي يكون الشرط باطلاً فيبطل الوقف تبعا له ؛ لأنّ مفهوم الوقف ليس إلاّ تحبيس العين وتسبيل الثمرة ( المنفعة ) ، والواقف أنشأ هذا المفهوم ، فلا يجوز تصرف بعض الموقوف عليهم علي نحو الملك المطلق .
وأمّا الشرط : فهو ينافي إطلاق هذا المفهوم لا أنّه ينافي المفهوم ، ولذا يجتمع الوقف مع جواز البيع عند طروّ مسوغاته ، ولا منافاة بين كونه وقفا وبين جواز بيعه وتبديله بوقف آخر .
ولكن هل هذا الشرط ( شرط بيع الوقف ) منافٍ للسنّة ؟
والجواب : أنّ ما تقدم من عدم جواز البيع وعدم إدخال الغلّة في الملك مقيّد بما إذا اشترط الواقف بيع الوقف ؛ فإنّ صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج ـ الواردة في كيفية وقف مال أمير المؤمنين علي عليهالسلام في عين ينبع ، والتي جاء فيها : « . . . فإن أراد ـ يعني الإمام الحسن عليهالسلام ـ أن يبيع نصيبا من المال فيقضي به الدين فليفعل إن شاء لا حرج عليه فيه ، وإن شاء جعله سريّ الملك ( 10 ) . . . وإن كان دار الحسن غير دار الصدقة فبدا له أن يبيعها فليبعها إن شاء لا حرج عليه فيه ، وإن باع فإنّه يقسّمها ثلاثة أثلاث : فيجعل ثلثا في سبيل اللّه ، ويجعل ثلثا في بني هاشم وبني المطلب ، ويجعل ثلثا في آل أبي طالب ، وأنّه يضعه حيث يريد اللّه . . . » ( 11 ) ـ ظاهرة في جواز اشتراط بيع الوقف لنفس الموجودين ، فضلاً عن البيع لكل الموقوف عليهم : الموجودين ، والمعدومين الذين سيوجدون فيما بعد ، ويصرف ثمنه فيما ينتفعون به .
وظاهرها أيضا الوقف لا الوصية ؛ لأنّ الموجود في الرواية : « إن الذي كتبت من أموالي هذه صدقة واجبة بتلة ، حيّا أنا أو ميتا . . . » .
وقد عمل بهذه الصحيحة جملة من الأعاظم ، كما أشار إلي ذلك الإمام الخوئي قدسسره ( 12 ) .
وعلي ما تقدم لا يكون اشتراط بيع الوقف عند حالات معينة منافيا للسنّة ما دامت السنّة القائلة بعدم جواز بيع الوقف قد خُصصت بهذه الصحيحة .
المورد الثالث : وهو ما إذا كان الاختلاف بين أرباب الوقف مؤديا علما أو ظنا إلي تلف خصوص مال الوقف ونفوس الموقوف عليهم . وهذه الصورة هي المتيقنة عند جميع الفقهاء ؛ لأنّها أخصّ مما وردت فيه روايات تجوّز بيع الوقف إذا حصل اختلاف من بقاء الوقف أو حصل تلف النفوس أو الأموال من دون تقييدها بتلف نفس مال الوقف ونفس الموقوف عليهم .
المورد الرابع : وهو ما إذا كان الوقف علي عنوان معيّن كالبستانية ، وخرجت البستانية لغور الماء ويبس الأشجار حتي خرجت عن قابلية ذلك ، فقد جوّز هنا بعض الفقهاء ( 13 ) بيع الأرض وشراء بستان آخر ، بل هو المتعيّن كما أفتي بذلك الإمام الخوئي قدسسره ؛ إذ قال : « . . . نعم إذا فهم من القرائن أنّ الوقفية قائمة بعنوان البستان كما إذا وقفها للتنزه أو للاستظلال ( وانقطع عنها الماء حتي يبس شجرها أو انقلع شجرها وبقيت عرصة ) فإن أمكن بيعها وشراء بستان اُخري تعيّن ذلك . . . » ( 14 ) .
وعلي كل حال : هذه الموارد الأربعة التي تقدمت ، أو أي مورد آخر يجوّز بيع الوقف إذا ثبت بالدليل ، يجعل أيدي الناظرين أو المتولين أو الحاكم الشرعي حرّة في التصدي لمصلحة الوقف الذي هو بدل عن الوقف الابتدائي ، ومصلحة الموقوف عليهم حسب متطلبات العصر علي ضوء الشرع الحنيف .