هذا هو الاقليم الذي افتخر به فرعون على الورى، وقام على يد يوسف بأهل الدنيا. فيه آثار الأنبياء، والتيه وطور سيناء. ومشاهد يوسف وعجائب موسى، وإليه هاجرت مريم بعيسى. وقد كرر الله في القرآن ذكره، وأظهر للخلق فضله. أحد جناحي الدنيا، ومفاخره فلا تحصى. مصره قبة الإسلام ونهره أجل الأنهار وبخيراته تعمر الحجاز وبأهله يبهج موسم الحاج وبره يعم الشرق والغرب قد وضعه الله بين البحرين، وأعلى ذكره في الخافقين. حسبك أن الشام على جلالتها رستاقه، والحجاز مع أهلها عياله. وقيل أنه هو الربوه، ونهره يجري عسلاً في الجنة. قد عاد فيه حضرة أمير المؤمنين، ونسخ بغداد إلى يوم الدين، وصار مصره أكبر مفاخر المسلمين. غير أن جدبه سبع سنين متوالية، والأعناب والاتيان به غالية. ورسوم القبط به عالية، وفي كل حين تحل بهم الداهية. عمره مصر بن حام بن نوح عم، وهذا شكله ومثاله.وقد جعلنا اقليم مصر على سبع كور، ست منها عامرة ولها أيضاً أعمال واسعة ذات ضياع جليلة ولم تكثر مدائن مصر لأن أكثر أهل السواد قبط، ولا مدينة في قياس علمنا هذا إلا بمنبر. فاولها من نحو الشام الجفار ثم الحوف ثم الريف ثم إسكندرية ثم مقدونية ثم الصعيد والسابعة الواحات. فأما الجفار فقصبتها الفرما ومدنها: البقارة الورادة العريش. وأما الحوف فقصبتها بلبيس ومن مدنها: مشتول جرجير فاقوس غيفا دبقو تونة بريم القلزم. وأما الريف فقصبتها العباسية ومن مدنها: شبرو، دمنهور، سنهور، بنهاالعسل، شطنوف، مليج، محلة سدر، محلة كرمين، المحلة الكبيرة، سندفا، دميرة، بورة، دقهلة، محلة زيد، محلة حفص، محلة زياد، سنهور الصغرى، برلس. وأما اسكندرية فهي القصبة أيضاً ومن مدنها: الرشيد، مريوط، ذات الحمام، برلس. وأما مقدونية فقصبتها الفسطاط وهو المصر ومن مدنها: العزيزية، الجيزة، عين شمس. وأما الصعيد فقصبتها أسوان ومن مدنها: حلوان، قوص، إخميم، بلينا، علاقي، اجمع، بوصير، الفيوم، أشمونين، سمسطا، تندة، طحا، بهنسة، قيس. وبازاء الحوف جزيرتان في بحيرتين فيهما تنيس ودمياط.الفرما: على ساحل بحر الروم وهي قصبة الجفار على فرسخ من البحر، عامرة آهلة عليها حصن ولها أسواق حسنة، وهي في سبخة وماؤها مالح وحولها مصايد السلوى، معدن الاسماك الجيدة، وبها اضداد عدة وخيرات كثيرة، وهي مجمع الطرق مذكورة سرية غير أن ماءها مالح وطيرها مزمن. وهذه الكورة كلها رمال ذهبية، والمدن التي ذكرناها وسطها، وفيها طرق ونخيل وآبار وعلى كل بريد حانوت، إلا أن الريح ربما لعبت بالرمال فغطت الطريق والسير فيها صعب. بلبيس: قصبة الحوف، كبيرة كثيرة القرى والمزارع عامرة، بنيانهم من طين. المشتول: كثيرة الطواحين ومنها يحمل أكثر ميرة الحجاز من الدقيق والكعك، واحصيت في وقت من السنة فإذا هو يبلغ ثلاثة آلاف حمل جمل في كل ا أسبوع، كلها حبوب ودقيق. القلزم: بلد قديم على طرف بحر الصين يابس عابس لاماء ولاكلأ ولازرع ولاضرع ولاحطب ولاشجر ولاعنب ولاثمر، يحمل إليهم الماء في المراكب، ومن موضع على بريد يسمى سويس على الجمال، ماء آجن ردي، ومن أمثالهم ميرة أهل القلزم من بلبيس، وشربهم من سويس، يأكلون لحم التيس، ويقدون سقف البيت، هي أحد كنف كة الدنيا مياه حماماتهم زعاق وحشة ملولة، والمسافة إليها صعبة، غير أن مساجدها حسنة وبها قصور جليلة ومتاجر مفيدة، هي خزانة مصر وفرضة الحجاز ومعونة الحاج، واشترينا يوماً بدرهم حطباً فاحتجنا له بدرهم حطباً. وهذه الكورة غير طيبة ولا أرى في ذكر بقية مدائنها فائدة.العباسية: هي قصبة الريف، عامرة طيبة قديمة، شربهم من النيل موضع الريف والخصب، بنيانهم افرج من بنبان مصر، بها اضداد تحمل إليها وجامع حسن من الآجر، رفقة سرية. المحلة الكبيرة: ذات جانبين اسم الجانب الآخر سندفا، بكل جانب جامع، وجامع المحلة وسطها وجامع تلك علعى الشط لطيف، وهذه أعمر وبها سوق زيت حسن، والناس يذهبون ويجيئون في الزواريق، شبهتها بواسط. دميرة: أيضاً على الشط طويلة عامرة بها بطيخ نادر. الإسكندرية: قصبة نفيسة على بحر الروم، عليها حصن منيع، وهو بلد شريف كثير الصالحين والمتعبدين، شربهم من النيل يدخل عليهم أيام زيادته في قناةٍ فيملأ صهاريجهم، وهي شامية الهواء والرسوم، كثيرة الأمطار، جامعة للاضداد، جليلة الرستاق، جيدة الفواكه والأعناب طيبة نظيفة، بناؤهم من الحجارة البحرية، معدن الرخام وبها جامعان، وعلى جبابهم أبواب تغلق بالليل كيلا يصعد منها اللصوص. وسائر المدن عامرات طيبات وفي نواحيها خرنوب وزيتون ولوز ومزارع على البعل، وثم يصب النيل في بحر الروم وهي مدينة ذي القرنين ولها قصبة عجيبة.الفسطاط: هومصرفي كل قول لأنه قد جمع الدواوين، وحوى أمير المؤمنين. وفصل بين المغرب وديار العرب واتسع بقعته وكثر ناسه وتنضر اقليمه وأشتهر اسمه وجل قدره فهو مصر مصر وناسخ بغداد ومفخر الإسلام ومتجر الأنام، وأجل من مدينة السلام. خزانة المغرب ومطرح المشرق وعامر الموسم ليس في الأمصار آهل منه، كثير الاجلة والمشايخ، عجيب المتاجر والخصائص حسن الأسواق والمعايش، إلى حماماته المنتهى، ولقياسيره لباقة وبهاء. ليس في الإسلام أكبر مجالس من جامعه، ولا أحسن تجملاً من أهله، ولا أكثر مراكب من ساحله. آهل من نيسابور واجل من البصرة وأكبر من دمشق، به أطعمة لطيفة، وأدامات نظيفة، وحلاوات رخيصة، كثير الموز والرطب، غزير البقول والحطب. خفيف الماء، صحيح الهواء. معدن العلماء، طيب الشتاء. أهل سلامةٍ وعافية، ومعروف كثير وصدقة. نغمتهم بالقرآن حسنه، ورغبتهم في الخير بينة. وحسن عبادتهم في الآفاق معروفة قد استراحوا من أذى الأمطار، وأمنوا من غاغة الأشرار. ينتقدون الخطيب والإمام ولا يقدمون إلا طيباً وإن بذلوا الأموال قاضيهم ابداً خطير، والمحتسب كالأمير، ولا ينفكون أبداً من نظر السلطان والوزير. ولولا عيوب له كثير، ما كان له في العالم من نظير. وهو نحو ثلثي فرسخ طبقات بعضها فوق بعض وكانت جانبين الفسطاط والجيزة ثم شق بعض الخلفاء من ولد العباس خليجاً على قطعة منها فسميت تلك القطعة الجزيرة لأنها بين العمود والخليج وسمي خليج أمير المؤمنين، منه شربهم، ودورهم أربع طبقات وخمس كالمناير يدخل إليهم الضياء من الوسط، وسمعت أنه يسكن الدار الواحدة نحو مائتي نفس، وأنه لما صار إليها الحسن بن أحمد القرمطي خرج الناس إليه فرآهم مثل الجراد فهاله ذلك وقال ما هذا قيل هؤلاء نظارة مصر ومن لم يخرج أكثر. وكنت يوماً أمشي على الساحل وأتعجب من كثرة المراكب الراسية والسائرة، فقال لي رجل منهم من أين أنت، قلت: من بيت المقدس، قال: بلد كبير أعلمك يا سيدي اعزك الله أن على هذا الساحل وما قد أقلع منه إلى البلدان والقرى من المراكب ما لو ذهبت إلى بلدك لحملت أهلها وآلاتها وحجارتها وخشبها حتى يقال كان ههنا مدينة. وسمعتهم يذكرون أنه يصلي قدام الامام يوم الجمعة نحو عشرة الآف رجل، فلم أصدق حتى خرجت مع المتسرعة إلى سوق الطير فرأيت الأمر قريباً مما قالوا. وأبطأت يوماً عن السعي إلى الجمعة، فالفيت الصفوف في الأسواق على أكثر من ألف ذراع من الجامع، ورأيت القياسير والمساجد والدكاكين حوله مملؤة من كل جانب من المصلين، وهذا الجامع يسمى السفلاني من عمل عمرو بن العاص وفيه منبره، حسن البناء في حيطانه شيء من الفسيفس على أعمدة رخام أكبرمن جامع فى دمشق والإزدحام فيه أكثر من الجوامع الست، قد التفت عليه الأسواق إلا أن بينها وبينه من نحو القبلة دار الشط وخزائن وميضأة، وهو أعمر موضع بمصر، وزقاق القناديل عن يساره، وما يدريك ما زقاق القناديل، والجامع الفوقاني من بناء بني طيلون أكبر وأبهى من السفلاني على أساطين واسعة مصهرجة وسقوفه عالية، في وسطه قبة على عمل قبة زمزم فيها سقاية، مشرف على فم الخليج وغيره وله زيادات وخلفه دار حسنة ومنارته من حجر صغيرة درجها من خارج، والحد بين أسفل وفوق مسجد عبدالله قد بنى على مساحة الكعبة. ويطول الوصف بنعت أسواقه وجلالته، غير أنه أجل أمصار المسلمين وأكبر مفاخرهم وآهل بلدانهم، ومع هذه الكثرة اشتريت به الخبز الحواري ولا يخبزون غيره ثلاثين رطلاً بدرهم، والبيض ثمانية بدانق، والموز والرطب رخيص، يجيء ابداً إليه ثمرات الشام والمغرب، وتسير الرفاق إليه من العراق والمشرق، ويقطع إليه مراكب الجزيرة والروم، تجارته عجيبة ومعايشه مفيدة وأمواله كثيرة، لا ترى أحلى من مائه ولا أوطأ من أهله ولا أحسن من بهره ولا أبرك من نهره إلا أنه ضيق المنازل كثير البراغيث عفن كرب البيوت قليل الفواكه مياه كدرة وآبار وضرة ودور قذرة وبق منتن وجرب مزمن ولحوم غزيرة وكلاب كثيرة ويمين فظيعة ورسوم وحشة. أبداً على خوف من القحط وانقطاع النهر وأشرافٍ على الجلاء وتربص بالبلاء. لا يتورع مشايخهم عن شرب الخمور، ولا نساؤهم عن الفجور. للمرأة زوجان، وترى الشيخ سكران. وفي المذهب حزبان، مع سمرة وقبح لسان. والجزيرة خفيفة لأهل، الجامع والمقياس على طرفها عند الجسرمما يلي المصر. وفيها بساتين ونخيل ومتنزه أمير المؤمنين عند الخليج بموضع يسمى المختارة. يلي المصر. وفيها بساتين ونخيل ومتنزه أمير المؤمنين عند الخليج بموضع يسمى المختارة.الجيزة: مدينة خلف العمود كانت الطريق إليها من الجزيرة. علي جسر، إلى أن قطعه الفاطمي، بهاجامع وهي أعمر وأكبر من الجز يرة، والجادة منها إلى المغرب، ويلقي الخليج العمود تحت الجزيرة عند المختارة. القاهرة: مدينة بناها جوهر الفاطمي لما فتح مصر وقهر من فيها. كبيرة حسنة بها جامع بهي وقصر السلطان وسطها، محصنة بأبواب محددة، على جادة الشام، ولا يمكن أحداً دخول الفسطاط إلا منها لأنهما بين الجبل والنهر، ومصلى العيد من ورائها والمقابر بين المصر والجبل. العزيزية: قد اختلت وخربت عامتها، وكانت المصر في القديم وبها كان ينزل فرعون، وثم قصره ومسجد يعقوب ويوسف. عين شمس: مدينة على جادة الشام، كثيرة المزارع بها مسد النيل أيام زيادته، جامعهم في السوق. المحلة: مدينة على نهر الإسكندرية، بها جامع لطيف وليس بها كثير أسواق، غيرأنها عامرة نزيهة الشط حسنة النهر، يقابلها صندفا به جامع، عامرة شبهتها بواسط، إلا أنه ليس بينهما جسر يعبرون في المراكب. حلوان: مدينة من نحو الصعيد ذات مغاير ومقاطع وعجائب، بها حمام من فوقه حمام آخر. وسائر المدن على عمود النيل وخليجيه.أسوان: قصبة الصعيد على النيل، عامرة كبيرة بها منارة طويلة ولها نخيل وكروم كثيرة وخيرات وتجارات وهى من الأمهات. إخميم: مدينة كثيرة النخيل على بعض شعب النيل، ذات كروم ومزارع، منها كان ذو النون الزاهد، وهذه الكورة أعلى أرض مصر وفيها يخرج النيل. الفيوم: جليل به مزارع الأرز الفائق والكتان الدون، ولها قرى سرية تسمى الجوهريات. العلاقي: مدينة في آخر الكورة على طريق عيذاب. وأما الواحات فإنها كانت كورة جليلة ذات أشجار ومزارع وإلى اليوم يوجد فيها صنوف الثمار وأغنام ونعم، قد توحشت متصلة بأرض السودان تمس طرف إقليم المغرب وبعض يجعلونها منه. تنيس: بين بحر الروم والنيل، بحيرة فيها جزيرة صغيرة قد بنيت كلها مدينة وأي مدينة هي بغداد الصغرى، وجبل الذهب ومتجر الشرق والغرب، أسواق ظريفة وأسماك رخيصة وبلد مقصودة ونعم ظاهرة وساحل نزيه وجامع نفيس وقصور شاهقة ومدينة مفيدة رفقة، إلا أنها في جزيرة ضيقة والبحر علها كحلقة ملولة قذرة، والماء في صهاريج مغلقة، أكثر أهلها قبط، والبلاذات تطرح إلى الطرق، وبها يعمل الثياب والأردية الملونة، وثم موضع قد نضد فيه موتى الكفار بعض على بعض، ومقابر المسلمين وسط البلد. دمياط: تسير في هذه البحيرة يوماً وليلة، ربما لقيك ماء حلو وأزقة ضيقة، إلى مدينة أخرى، وهي أطيب وأرحب وأوسع وأفسح وأحزب وأكثر فواكه وأحسن بناء وأوسبع ماءً وأحذق صناعاً وأرفع بزاً وأنظف عملاً وأجود حمامات وأوثق جدارات وأقل اذايات من تنيس، عليها حصن من الحجارة كثيرة الأبواب، وفيها رباطات كثيرة حزبة ولهم موسم كل سنة يقصدها المرابطون من كل جانب، وبحر الروم منها على صيحة، دور القبط على ساحله، وثم يفيض النيل في البحر. شطا: قرية بين المدينتين على البحيرة يسكنها القبط وإليها ينسب هذا البز. طحا: قرية بالصعيد يعمل بها ثياب الصوف الرفيعة، ومنها كان الفقيه الإمام أبو جعفر الأزدي. ويصنع ببهنسة الستور والأنماط، والكتان الرفيع مزارعه ببوصير.