المفازة التي بين هذه أقاليم
أعلم أن بين أقاليم الأعاجم إلا الرحاب وخوزستان مفازة قد توسطتها، طولانية ليس بها نهر يجري ولا بحيرة ولا رستاق ولا مدينة، قليلة السكان كثيرة الدعار صعبة المسلك مبعضة الأعمال وحشة الجبال متباعدة القرى، مكامن ممتنعة وسبل منقطعة وعيون ضعيفة إلا أن الحياض والقباب في طرقها كثيرة وفراسخها قريبة وفي مواضع منها سباخ ورمال ومياه وغدران، قفرة مخيفة أكثرها من خراسان وبعضها من كرمان وبعض من فارس والجبال ومن بلد السند وسجستان، ومن أجل هذا كثر الدعار بها لأنهم إذا قطعوا في عمل هربوا إلى آخر وكمنوا في جبل كركسكوه أو سياه كوه حيث لا يقدر عليهم ولا يمكن الوصول إليهم، وليس بها من المدن إلا أسفيد وهي في حدود سجستان ويحيط بها من المدن المعروفة من كرمان خبيص زاور نرماسير كوه بيان، ومن فارس يزد كثة عقدة زرند، ومن أصفهان أردستان، ومن الجبال قم قاشان دزه، ومن قهستان طبس كري قاين خور، ومن الديلم بيار.ومثلها كمثل البحر كيف ما شئت فسر إذا عرفت السمك إلا أن الطرق التي قد مثلناها في الشكل قد اشتهرت وسلكت من أجل الحياض والقباب المعمولة فيها. ولو أنا ... حتى نذكر جميع طرقها ومخارجها لتعجب الناظرمن ذلك، وأن منها لطرقاً تخرج إلى بيار وخسر وجرد ومواضع لا يؤبه بها. ولقد خرجنا من طبس نريد فارس فمكثنا فيها سبعين يوماً نعدل من ناحية إلى ناحية مرة نقع في طريق كرمان وتارة نقرب من أصفهان فرأيت من الطرق والمعارج ما لا أحصيه وهي جبال كلها رمال قليلة وعقاب هينة وسباخ صعبة وسرود وجروم ونخيل وزروع، ورأيت أسهلها وأعمرها طريق الري، وأصعبها طريق فارس، وأقربها طريق كرمان، وكلها مخيفة من قوم يقال لهم القفص يسيرون إليها من جبال كرمان قوم لا خلاق لهم وجوه وحشة وقلوب قاسية وبأس وجلادة لا يبقون على أحد ولا يقنعون بالمال حتى يقتلوا من ظفروا به بالأحجار كما تقتل الحيات، تراهم يمكسون رأس الرجل على بلاطة ويضربونه بالحجارة حتى ينصدع. وسألتهم عن ذلك قالوا لا تفسد سيوفنا ولا يفلت أحد إلا ندر. ولهم مكامن وجبال يمتنعون بها وكلما قطعوا في عمل هربوا إلى آخر قتالهم بالنشاب ومعهم سيوف. وكان البلوص أشر منهم حتى أبادهم عضد الدولة وأنكى في هؤلاء أيضا وعند صاحب فارس منهم أبداً أمة رهائن يذهب قوم ويرجع آخرون وإذا كان مع القوافل بذرقة من قبل سلطان فارس لم يتعرضوا لهم. وهم اصبر خلق الله على الجوع والعطش، زادهم شيء مثل الجوزيتخذ من النبق يتقوتون به. يدعون الإسلام وهم أشد على المسلمين من الروم والترك، إذا أسروا الرجل أمروه بالعدو معهم نحو عشرين فرسخاً حافي القدم جائع الكبد. ولا يرغبون في الدواب ولا يتعاطون الركوب إنما هم رجالة وربما ركبوا الجمازات، حدثني رجل كان من أهل القرآن وقع في أيديهم. قال: وجدوا كتبا وطلبوا في الأساري رجلاً يقرأ فقلت أنا فحملوني إلى رئيسهم فلما قرأت الكتاب قربني وجعل يسألني عن أشياء إلى أن قال ما تقولون في ما نحن فيه من قطع الطريق والقتل. قال: قلت من فعل هذا أستوجب من الله المقت والعذاب الأليم في الأخرة. قال: فتنفس الصعداء وأنقلب على الأرض وقد أصفر وجهه ثم أعتقني مع جماعة. وسمعت جماعة من التجار يقولون أن عندهم أنهم لا يظفرون إلا بأموال لا تزكى ويرون أن ما يأخذونه حق لهم واجب.والجبال أعظمها وأمنعها كركسكوه إليه ينسب ما واجه الري من هذه المفازة وليس هو بالكبير غير إنه منقطع المرتقى ذو معاطف ومكامن ومخابئ خفية. ويليه فيما ذكرناه سياه كوه وهو دونه في الكبر غيرأنه منيع ويقع طريق الري بينهما عند قصر الجص وثم جوف.وبها من العجائب على فرسخين من رأس الماء نحو خراسان حجارة سود صغار نحو أربعة فراسخ. عند قبر الحاجى نحو بارسك حصى صغار بعضها في لون الكافور بياضاً وبعضها في لون الزجاج خضرة. بين خراسان وكرمان صورة لوز وتفاح وعدس وباقلى من حجارة وصورة عدة من الناس وقصرعجيب فيه تماثيل وعقود دقيقة وهو أعجوبة لم أر مثله.وأما صفة المنازل التي ابتدأنا بذكرها دير الجص: وهو من آجر كل اجرةمتل اللبنة العظيمة واسع كثير المرافق عليه أبواب حديد وعلى بابه بقال مقيم وحياض الماء خارج منه مدورة يجتمع فيها ماء المطرغير أني رايته شعثاً. كاج: كانت قرية على رابية وقد خربت وانجلى أهلها أظن من القفص، وتفترق منها الطرق واحدة هى التي ذكرنا وفيها عبرنا والأخرى إلى قم مرحلة ثم إلى قرية المجوس مرحلة. بدرة: حصن لها مزارع وبها نحو من خمسين داراً. رباط ابن رستم: به ماء جار إلى حوض في الرباط. دانجى: قرية كبيرة عامرة. وهذه أعمر طرق المفازة لأنها على تخوم الجبال. ومن كركسكوه إلى الدير أربعة فراسخ ومنه إلى سياه كوه خمسة. ولم أسلك طريق نيسابور إلى أصفهان إلا أنهم يذكرون أنها أنيسة مسلوكة وبها رمال صعبة. رباط كوران: حصن به من يحفظه وخارج منه عين مالحة يشربونه. أرزمة: ثلاثة آبار لا تفي بالقوافل الكبار. الهلبي: عين ضعيفة عندها رباط خرب. رباط آب شتران: هو معدن الخوف ومأوى الكوج به قناة عذيبية تصب إلى بركة. والرباط حسن، ما رأيت ببلدان الأعاجم أحسن منه من الحجارة والجص على عمل حصون الشام عليه أبواب حديد وهو شديد العمارة وفيه قوم يحفظونه، بناه ابن سيمجور صاحب جيش ملك المشرق. بشت باذام: شبه قرية كل شيء فيه موجود به مزارع واسعة وأغنام كثيرة وقناة غزيرة وجمال مسافر وفيه فرج ومغوثة. ساغند: قرية عامرة آهلة. خزانة: قرية فيها حصن ومزارع وزرع وضرع ونحو مائتي رجل وبساتين. الزاور: قرية عامرة عليها حصن وبها ماء جار من حد كرمان. دركوجي: بها عين ضعيفة وليس بها عمارة. شور دوازده: رباط قد خرب وثم واد فيه أشجار ونخيل بلا ساكن مخوف جدا. در بردان: صحراء بها آبار بلا أنيس وبعده منزل به حوض يمتلئ من الأمطار بلا أنيس. نابند: رباط يسكن وحوله بيوت عدة وماء يديررحى صغيرة ومزرعة ونخيل. بئر شك: بها بئر حلوة بلا أنيس وقباب متصلة وحياض عامرة وقبل نابند نخيلات وخرب قباب. دارستان: قرية فيها نخيل بلا عمارة. نيمة: رباط فيه من يحفظه. قرية سلم: بها أبنية مد البصر متهدمة ليس بها عين ولا حوض ولا أنيس وهي من كرمان. رأس الماء: به عين تنز إلى حوض وتسقي مزرعة. كوكور: قرية عامرة من قهستان. بيرة: قرية صغيرة بها نفر من الناس. معزل: عين ماء ولا ترى به دياراً ولا عمارة. جاه بر: بئر عندها قباب مثل بئر شك وثم حوض. ومعزل أخرى وهي قباب وحوض ماء. وأما أسفيد فأنها من مدن سجستان في الدواوين غير إنها في حدود هذه المفازة بها قني ومزارع كثيرة عامرة آهلة.فهذا المعروف من المنازل المشهورة في الطرق المذكورة وأن ذكرنا البنيات وما فيها من القرى والمياه طال الكتاب وأقل مرحلة مما ذكرنا إلا وفيها حياض وقباب على كل فرسخ منها حوض أو قباب على بيوت يلجأ إليها في الأمطار. ولا ترى في هذه المفازة رباطاً غير ما ذكرنا، وليس بها أهل غير بشت باذام، والخبز والعلف في غيره متعذر وإنما يجب أن يحمل ويتزود لها زاد ستة أيام. وطولها على السواء ستون فرسخاً أو نحوها. وفي طريق الري نهريخاض عظيم ينحدر إلى خوزستان وموضع شديد البرد في جميع السنة.فهذا ما عرفنا من أقاليم الإسلام وشاهدنا وسمعنا وصح عندنا من وصف البلدان نسأل الله العفو والغفران إنه رحيم منان. فرحم الله عبداً نظر في كتابنا فاستحسنه أو رضيه واستصوبه إلا دعا لنا بنية صادقة وطلبة خالصة أن لا يجعله علينا وبالاً يوم نسأل عن الصغير والكبير والدقيق والجليل، حين لا ينفع عذر ولا تذليل، ولا يغني صديق ولا خليل، إلا من أتى آلله بقلب سليم، وعمل لذلك الموقف العظيم، وخاف من ذلك الخطب الجسيم، يوم يجثو الأنبياء على الركب، وينقطع كل سبب ونسب.وقال: مصنفه في وداعه
كتاب كـالـلآلـى والـربـيع وكالعقيان والروض المـريع
أقالـيم الـبـلاد وكـل أرض وكل جزيرةٍ مثل الـصـديع
منابعها وغـدران الـقـيافـي وما في الأرض من طود منيع
فمنها مارأيت وجست فـيهـا ودخت نهارها بعد الـهـزيع
ذكرت بدائع الأمصار شـتـى وكل مدينة مثـل الـصـديع
وألسنه الورى جـيلأ فـجـيلاً لغات العرب عن لغة الشنـيع
مشاكل كـل إقـلـيم مـثـال لقد جاءوا بطوق المستـطـيع
ويعلـم قـدرة الـديان حـقـاً وإبداع المهيمن والـسـمـيع
يذيغ أيادي الرحـمـن طـرا لمفضال الـورى دأب الـذيع
وصغت أجيل فيه الفكر جهدي رجاء الخلد في يوم فـظـيع
وغفران الذنوب بعفـو ربـي و من نار ومن فـزع وجـيع
كذلك فيه ذكر الأرض طـرا بديعاً ثم سـمـي بـالـبـديع
فجاج الأرض من عدن وشـام وسوس الغرب بالنبأ الرفـيع
وأثمار الأقالم بـعـد نـخـل مع الحرف العجائب بالجمـيع
ومنها ما أثـرت لـه حـديثـاً عن الشعبي يؤثـر أو وكـيع
وميزت البحوربفضـل عـلـم ونجربة كتمـيز الـقـطـيع
متاجـر كـل إقـلـيم وأرض وهيآت الرقيق المسـتـبـيع
لئنظر في أعاجـيب الـبـرايا وما في الأرض بالوشي الوليع
ويعبده عبـاده مـسـتـكـينٍ وعبدٍ في عبـادتـه مـطـيع
فإن إذاعة الإحسـان تـنـمـو إلى الرحمن من قول المشـيع
وغفران الذنوب بعفـو ربـي و من نار ومن فـزع وجـيع
وغفران الذنوب بعفـو ربـي و من نار ومن فـزع وجـيع