الفصل الرابع: في وقت الامساك عن الامور المذكورة
و مبدؤه: طلوع الفجر الثاني، بالكتاب و السنة و الاجماع، بل الضرورة...الا في
الجماع، فمن زمان يبقى الى طلوع الفجر زمان لم يعلم عدم اتساعه للوقاع و
الاغتسال، بل و لم يظن ايضا، على القول الاصح من بطلان الصوم بتعمد البقاء على
الجنابة، و ياتي على القول الآخر جوازه الى الفجر. و منتهاه: دخول الليل، بالثلاثة ايضا، و ان اختلفوا فيما به يتحقق دخوله من
استتار القرص او ذهاب الحمرة المشرقية، و قد تقدم تحقيقه في بحث مواقيت الصلاة
مفصلا، و انه الاستتار على الحق المختار (1) . و قد مر الكلام في الافطار بظن الليل و الاكل باستصحابه في الفصل الثاني (2) .
مسالة:
يستحب تقديم الصلاة على الافطار، الا ان يكون هناك من ينتظر افطاره او لا يقوى
على الصلاة قبله، للمعتبرة: كصحيحة الحلبي: عن الافطار قبل الصلاة او بعدها؟ قال: «ان كان معه قوم يخشى ان
يحبسهم عن عشائهم فليفطر معهم، و ان كان غير ذلك فليصل و ليفطر» (3) . و موثقة زرارة و الفضيل: «في رمضان تصلي ثم تفطر الا ان تكون مع قوم ينتظرون
الافطار، فان كنت معهم فلا تخالف عليهم و افطر ثم صل، و الا فابدا بالصلاة » (4) . و مرسلة ابن بكير: «يستحب للصائم-ان قوي على ذلك-ان يصلي قبل ان يفطر» (5) . و قد يشترط في استحباب تقديم الصلاة عدم منازعة نفسه، لان معها ينتفي الحضور
المطلوب في الصلاة، و تدل عليه مرسلة المقنعة ايضا (6) . و المراد بالصلاة المامور بتقديمها: صلاة المغرب وحدها لا مع العشاء ايضا، لان
وقتها هو الذي يصادم وقت الافطار دون العشاء، سيما مع ما كانوا عليه من
التفريق بين الصلاتين.
الفصل الخامس: فيمن يصح منه الصوم
اي بيان شرائط التكليف به وجوبا او ندبا، فانه مع انتفاء التكليف لا امر فلا
صحة، لانها موافقة المامور به، و هي امور: الاول: البلوغ. فلا يصح الصوم شرعا من الصبي الغير المميز، و لا يقع منه اجماعا، و كذا من
المميز عند جماعة، كالمختلف و الايضاح و البيان و الروضة (7) ، و هو ظاهر الفقيه و
المحقق الثاني (8) ، و قواه في المنتهى (9) . للاصل، فان الصحة الشرعية هي موافقة امر الشارع، و الاصل عدم تعلق امر بالصبي. و
عموم رفع القلم الشامل للندب ايضا (10) ، و تخصيصه بالوجوب و المحرم-كما قيل (11) -غير
واضح الوجه. و لان الامر تكليف، و هو بالبلوغ مشروط. و لظاهر الاخبار، كرواية
الزهري الطويلة، و فيها: «الصوم على اربعين وجها، فعشرة اوجه منها واجبة كوجوب
شهر رمضان، و عشرة اوجه منها صيامهن حرام، و اربعة عشر وجها منها صاحبها فيها
بالخيار ان شاء صام و ان شاء افطر، و صوم الاذن، و صوم التاديب » ثم ذكر
عليه السلام الاقسام و عد من اقسام ما فيها بالخيار كثيرا من اقسام
المندوب، الى ان قال: «و اما صوم التاديب فان يؤخذ الصبي اذا راهق بالصوم
تاديبا، و ليس ذلك بفرض، و كذلك من افطر لعلة من اول النهار ثم قوي بقية يومه
امر بالامساك عن الطعام يومه تاديبا، و ليس بفرض، و كذلك المسافر اذا اكل
من اول النهار ثم قدم اهله، و كذلك الحائض اذا طهرت » (12) ، و قريب منها الخصالي (13)
و الرضوي (14) ، فان الظاهر من جعل صومه قسيم المندوب و مثل صوم الحائض و المسافر
عدم كونه شرعيا، و يؤكده ما في المستفيضة من اخذه بالصوم بعض اليوم (15) . خلافا للشيخ و المحقق (16) و الفاضل في جملة من كتبه (17) و اللمعة و الدروس (18) . لان الولي مامور شرعا بامره، و الامر بالامر امر، و اذا تحقق الامر تحققت
الصحة. و لاطلاق الاوامر و شمولها له. و تدل عليه ايضا الاخبار المجوزة لعتقه و وصيته و امامته (19) . و لان شرعية صومه مما لا شك فيها، فان النبي صلى الله عليه و آله امر ولي الصبي
به، و عن ائمتنا: «انا نامر صبياننا بالصيام ما اطاقوا» (20) ، و مع ذلك فيه
تمرين على الطاعة، فشرعيته ثابتة من الشارع، فيكون صحيحا، و اذ لا وجوب عليه
فينوي الندب. اقول: اما الاولون، فان كان مرادهم عدم صحة الصوم منه مطلقا -سواء كان من شهر
رمضان او غيره من الواجبة و المستحبة و كون كل صوم منه محض التمرين و
التاديب-فكلامهم غير صحيح، اذ المقتضي لصحة صومه في الجملة و شرعيته موجود، و
المانع مفقود. اما الاول، فلعموم بعض الاخبار في الصوم المستحب، كما في مرسلة سهل في سبعة
و عشرين من رجب: «فمن صام ذلك اليوم كتب الله له صيام ستين شهرا» (21) ، و
مثلها من الاخبار كثيرة جدا (22) . و القول: بان الاوامر الاستحبابية منساقة لبيان اصل الاستحباب، فاما من
يستحب له فالمتضمن للمستحبات بالنسبة اليه مجمل، و بان المتبادر منها
من عدا الصبيان. ففاسد جدا، لان شيئا منهما لا يجري في مثل ما ذكرنا، و ان امكن في بعض آخر. و اما الثاني، فللاصل، و عدم تصور مانع غير الادلة التي ذكروها. و الكل مردود: اما الاصل، فبالعموم المذكور. و اما حديث رفع القلم، فبمنع العموم فيه، اذ ليس المراد بالقلم و لا برفعه
حقيقته، و مجازه متعدد، فلعله قلم التكليف، او قلم المؤاخذة، او قلم كتابة السيئات،
كما ورد في حديث يوم الغدير: «انه يوم يامر الله سبحانه الكتبة ان يرفعوا
القلم عن محبي اهل البيت الى ثلاثة ايام، و لا يكتبوا خطا و لا معصية » (23) . و اما كون الامر تكليفا، فهو ممنوع باطلاقه، و انما هو في الايجابي، و لو سلم
فاشتراط مطلق التكليف بالبلوغ ممنوع. و اما الاخبار، فلان الظاهر منها هو صيام شهر رمضان، و هو الذي يحتاج الى
التاديب. و اما الآخرون، فان كان مرادهم: ان كل صوم منه شرعي مندوب في حقه، فهو مما لا دليل
عليه. و كون الامر بالامر امرا ممنوع. و اطلاق الاوامر مخصوص ببعض المستحبات و ان تعدى الى الباقي بالاجماع
المركب، و اما الايجابيات فمخصوصة بالمكلفين، اذ لا وجوب على الصبي. و تعميم الاوامر الوجوبية، و رفع المنع في الصبي فيبقى الندب، استعمال اللفظ في
الحقيقة و المجاز، و هو غير جائز. و المراد بشرعية صومه ان كان: رضاء الشارع به، فهو غير الامر، بل هو كرضائه بذهاب
الحمار من الطريق الفلاني اذا قال لصاحبه: اذهب به من هذا الطريق.و ان كان:
امره به، فهو غير متحقق في جميع افراد الصيام. و بما ذكر ظهر ان الحق: شرعية صومه المستحب مطلقا، و تمرينية الواجب-لا
شرعيته-و صحته. و ان اريد بالشرعية: مطلق رضاء الشارع او انه امر الولي بتمرينه عليه، فلا مشاحة،
كما انه لا مضايقة في ان يوصف بالصحة بمعنى الموافقة للامر الصادر عن امر
الشارع، او لامر من له الالزام.
فرعان:
ا: قالوا: يتفرع على الخلاف ما لو بلغ في اثناء النهار قبل الزوال بغير المبطل،
فعلى الصحة يجب الاتمام، و على عدمها فلا. اقول: فيه نظر، اذ على فرض الندبية و الصحة فما الدليل على الوجوب في البالغ في
الاثناء؟ ! و لم يثبت علينا الوجوب الا في المستجمع للشرائط في تمام النهار. و الحمل-على من قدم اهله قبل الزوال، و نحوه-قياس باطل، و الاصل يقتضي عدم وجوب
الاتمام و لا القضاء على القولين، مع ان من القائلين بالصحة ايضا من يقول
بوجوب الاتمام تاديبا لا صوما. ثم ان للشيخ في كتاب الصوم من الخلاف و المحقق في المعتبر قولا بوجوب الصوم
على الصبي اذا بيت النية و بلغ قبل الزوال (24) ، لامكان الصوم في حقه.و هو ممنوع. ب: المصرح به في كلام كثير من الاصحاب (25) و المنصوص عليه في صحيحة الحلبي (26) و
مرسلة الفقيه (27) و الرضوي: ان مبدا تمرين الصبي اذا بلغ تسع سنين (28) ، فيؤمر بما
يطيقه من اليوم او بعض اليوم، فلا استحباب للولي قبله و لا بعده بما يعسر عليه
و يغلب معه الجوع او العطش. و اما موثقة سماعة (29) و صحيحة محمد (30) -: عن الصبي متى يصوم؟ قال: «اذا قوي على الصيام » كما في الاولى، او: «اذا اطاقه » كما في الثانية-
فمحمولتان على ما ذكر، حملا للمطلق على المقيد، او على جواز صومه بارادته، بمعنى:
عدم منع الولي له، لا على امر الولي-كما ورد في بعض الاخبار فيما قبل اربع عشرة
سنة: «فان هو صام قبل ذلك فدعه » (31) -او على الصوم المستحب، او على صيام تمام
اليوم. و عن المبسوط و الشرائع و النافع و القواعد و المختلف و الدروس و اللمعة و الروضة (32)
و غيرها (33) : ان المبدا سبع سنين، لصدر صحيحة الحلبي: «انا نامر صبياننا بالصيام
اذا كانوا بني سبع سنين بما اطاقوا» ، و ظاهره اختصاص ذلك باولادهم، كما
يستفاد من قوله في ذيلها: «فمروا صبيانكم اذا كانوا ابناء تسع سنين » . بل اطلق جماعة تمرينه قبل السبع (34) ، و جعلوه بعده مشددا، جمعا بين صدر الصحيحة و بين
ما تحدده بالطاقة.و يظهر ما فيه مما ذكرنا. ثم ان الاخبار مخصوصة بالصبي، و لا تعرض فيها للصبية، بل في الرضوي صرح بالغلام،
و لذا توقف فيها بعض مشايخنا الاخباريين، بل قال: و من الجائز اختصاص هذا
الحكم بالصبي خاصة (35) .انتهى. الا ان كثيرا من الاصحاب قد عمموا الحكم فيهما (36) ، و حيث ان المقام مقام
الاستحباب على الولي فلا باس باثباته، للتسامح، الا انه لا مبدا معينا فيها،
بل يقال: يستحب تمرينها، فتامل. ثم الممرن للصيام ينوي القربة ايضا تمرينا لا شرعا، و لو نوى الوجوب ايضا
لذلك جاز. الثاني: العقل. فلا يصح الصوم من المجنون بلا خلاف ظاهر، قالوا: لقبح تكليف غير العاقل (37) . قالوا: و لا يمرن المجنون و لا يؤمر بالصوم كما يؤمر الصبي، بلا خلاف، لانه غير
مميز، بخلاف الصبي، فانه مميز، فكانت للتكليف في حقه فائدة، بخلاف المجنون (38) . قيل: و يشكل ذلك في بعض المجانين، لوجود التمييز فيهم (39) ، بل ربما كان اكثر من
تمييز الصبي المميز، فان كان جنونهم دوريا او كانت الافاقة منهم مرجوحة كان
ينبغي تمرينهم على ما تمرن عليه الصبيان. الا ان يقال: ان وجوب التمرين او استحبابه حكم شرعي لا يثبت الا بدليل، و لا دليل
هنا كما يوجد في الصبي، فالمناط عدم الدليل لا عدم التمييز. و يظهر منه القدح في الاستناد في نفي تكليف المجنون بقبح تكليف غير العاقل، فان من
المجانين من يعقل تكليفه، فانا راينا منهم من يضرب الناس و يشتمهم و يضحك و
يبكي بلا سبب و يتلف ماله، و كانت له دقة في صلاته و صيامه، و كان يتعقل التكليف و
الثواب و العقاب، و يحفظ آداب عبادته و احكامها و مسائلها. بل في دلالة حديث: «و عن المجنون حتى يفيق » (40) على رفع تكليف مثل ذلك ايضا تامل، اذ
ظاهره رفع القلم فيما جن فيه، كما في المكره و الناسي لا مطلقا، فلو ثبت فيه
الاجماع و الا فنفي التكليف عن مثله مشكل، فان الجنون فنون، و من فنونه ما لا يعقل
بعض الامور و يعقل بعضها.
فروع:
ا: حكي عن الفاضل (41) و غيره (42) : ان الجنون اذا عرض في اثناء النهار لحظة ابطل صومه.و عن الشيخ: انه حكم بالصحة
مع سبق النية (43) . قال في المدارك: و لا يخلو من قرب (44) .و ياتي تحقيقه في المغمى عليه. ب: لا يصح صوم المغمى عليه على الحق المشهور، كما صرح به جماعة (45) ، لرواية ابن
سنان: «كلما غلب الله عليه فليس على صاحبه شي ء» (46) ، فلا صوم عليه، و لان الصحة فرع
الامر، الذي هو فرع العقل ضرورة و اجماعا و نصا. و النقض بالنائم مردود بالفرق، فان له العقل دون المغمى عليه، و لو سلم فكون حكم شي ء
خلاف الاصل بالدليل لا يوجب التعدي الى غيره، لا بمعنى ان النائم مكلف حال النوم
على خلاف الاصل، بل بمعنى صحة صوم من بعض يومه في النوم و كفاية سائر الاجزاء مع
سبق النية، بل كفاية مطلق سبق النية و لو نام في تمام الاجزاء. ثم انه لا فرق فيما ذكرنا بين ما اذا سبقت منه النية او لا، طراه الاغماء في
جميع النهار او بعضه، في اوله او اثنائه او آخره، لما ذكر بعينه. خلافا للمحكي عن المقنعة و المبسوط و الخلاف و السيد و الديلمي و القاضي، فحكموا بصحة
صومه مع سبق النية (47) ، و لا دليل يعتد به لهم سوى القياس على النائم، و فساده ظاهر،
او جعل سبق النية موجبا لبقاء النية الحكمية مع الاغماء، و يضعف بان النية الحكمية
انما تفيد مع وجود التكليف. و قيل: الحق ان الصوم ان كان عبارة عن مجرد الامساك عن الامور المخصوصة مع
النية وجب حكمنا بصحة صوم المغمى عليه اذا سبقت منه النية. و ان اعتبر مع ذلك وقوع جميع اجزائه على وجه الوجوب او الندب -بحيث يكون كل جزء من
اجزائه موصوفا بذلك-تعين القول بفساد ذلك الجزء الواقع في حال الاغماء، و
يلزم منه فساد الكل، اذ الصوم لا يتبعض، الا ان ذلك منفي بالاصل، و منقوض بالنائم (48) .
و فيه: انا نختار الاول، و لا تلزم منه صحة صوم المغمى عليه.. اما اولا: فلعدم تحقق الامساك منه حال الاغماء، لانه فرع الشعور، و مطلق عدم
تحقق الامور المخصوصة ليس امساكا و لا صوما. و اما ثانيا: فلعدم تحقق النية حال الامساك، لا الفعلية منها و لا الحكمية. و اما ثالثا: فلان الصوم هو امساك المكلف عما ذكر، و المغمى عليه ليس مكلفا. ج: السكران كالمغمى عليه حتى في عدم الوجوب و ان كان السكر بفعله، لما مر من
قبح تكليف غير العاقل. د: لا خلاف في صحة صوم النائم اذا سبقت منه النية و ان استمر نومه جميع النهار، و
عليه الاجماع مستفيضا، و تدل عليه-بعد الاجماع، و تحقق الامساك مع
النية-المتواترة من الاخبار، المتضمنة لنحو: «ان الله يطعم الصائم و يسقيه في
و: «ان نوم الصائم عبادة » (50) : و: «ان الصائم في عبادة و ان كان نائما في
فراشه » (51) . و المراد بصومه: كونه بحيث ينعقد قلبه و جوارحه عليه قبل النوم و بعده، بحيث لو سئل
عنه في الحالين يجيب باني صائم، و هذه نيته الحكمية كالساهي. و المراد بصحته: كونه مامورا بذلك العقد المتقدم و المتاخر، لا انه مكلف به
حال النوم، و لم يثبت اشتراط النية ازيد من ذلك، فان هذه نيته الحكمية. و لا ينتقض بالمغمى عليه، لا لانه لا عقل له حال الاغماء، فلا تكليف حينئذ، فلا امر
فلا صوم، لعدم تبعضه، بخلاف النوم، فان عقله باق و ان كانت حواسه الظاهرية
مغطاة، اذ لم يثبت لنا فرق بين عقل النائم و المغمى عليه، بحيث يصلح احدهما
للتكليف معه دون الآخر.. بل للنصوص و الاجماع، فان مقتضى الاصل و قاعدة عدم تكليف غير الشاعر حين عدم
الشعور و عدم تبعض الصوم: بطلان صومهما معا. الا ان الدليل اخرج النائم، بمعنى: ان الدليل جعل صومه عقد القلب و الجوارح في طرفي
النوم من النهار، فهو صوم النائم، و جعل صوما من جانب الشارع، فمن كان كذلك
فهو صائم و لا قضاء عليه اجماعا. بخلاف المغمى عليه و نحوه، لفقد الدليل المخرج عن الاصل. الثالث: الاسلام. بالاجماع، فلا يصح من الكافر بانواعه، لعدم تاتي قصد القربة و امتثال الامر به
منه، لانكاره له، مع انه شرط في الصحة اجماعا. نعم، يجب عليه عندنا، بناء على انه مكلف بالفروع، كما حققناه في محله. و مما يدل على عدم الصحة منه المروي في العلل: «انما يتقبل الله من العبادات
العمل بالفرائض التي افترضها الله على حدودها مع معرفة من دعا اليه » قال: «و ان
صلى و زكى و حج و اعتمر و فعل ذلك كله بغير معرفة من افترض الله عليه طاعته،
فلم يفعل شيئا من ذلك، لم يصل و لم يصم و لم يزك و لم يحج و لم يعتمر و لم يغتسل من
الجنابة و لم يتطهر و لم يحرم لله حراما و لم يحل له حلالا، و ليس له صلاة و ان ركع
و ان سجد، و لا له زكاة و لا حج، و انما ذلك كله بمعرفة رجل امر الله تعالى على خلقه
بطاعته و امر بالاخذ عنه، فمن عرفه و اخذ عنه اطاع الله » (52) . و لا فرق في ذلك بين الكفر في تمام اليوم او بعضه، فلا يصح ممن اسلم في اثناء
النهار في ذلك النهار، كما صرح به في صحيحة العيص: عن قوم اسلموا في شهر رمضان و
قد مضى منه ايام، هل عليهم ان يقضوا ما مضى منه او يومهم الذي اسلموا فيه؟ فقال:
«ليس عليهم قضاء و لا يومهم الذي اسلموا فيه، الا ان يكونوا اسلموا قبل طلوع الفجر» (53) .
خلافا للمحكي عن المبسوط و المعتبر، فاوجبا صوم يوم اسلم قبل زواله (54) ،
لاطلاق الامر بالصوم و بقاء وقت النية.و الصحيحة المذكورة ترده. و لا يجب على الكافر قضاء ما فاته حال الكفر ايضا، للمعتبرة من الاخبار،
كالصحيحة المتقدمة، و صحيحة الحلبي (55) ، و رواية مسعدة (56) ، و مرسلة الفقيه (57) .و اما موثقة
الحلبي الآمرة بالقضاء (58) فمحمولة على الاستحباب. الرابع: الخلو عن الحيض و النفاس. بالاجماع المحقق، و المحكي مستفيضا (59) ، و استفاضت عليه الروايات، بل تواترت
ايضا (60) ، فلا يصح الصوم منهما و لو رات الدم في اول جزء من النهار او آخره، كما
نطقت به الاخبار و اتفقت عليه كلمات الاصحاب.و رواية ابي بصير (61) -الظاهرة في
الاعتداد بالصوم لو رات الدم بعد الزوال-متروكة، و الى الوهم منسوبة. الخامس: الخلو عن السفر. فلا يصح صوم واجب مطلقا-منذورا كان او غيره-و لا مندوب في السفر، الا ما استثني
منهما، فها هنا ثلاثة مقامات: المقام الاول: عدم صحة صوم واجب غير ما استثني. و لا ريب فيه، بل هو اجماعي مدلول عليه بالاخبار المتواترة.. و هي بين ما يدل على الحكم في مطلق الصوم، كصحيحتي صفوان و الحلبي: الاولى: عن الرجل يسافر في شهر رمضان فيصوم، فقال: «ليس من البر الصيام في
السفر» (62) ، فان الجواب عام و ان كان المورد خاصا. و الثانية: رجل صام في السفر، فقال: «ان كان بلغه ان رسول صلى الله عليه و آله
نهى عن ذلك فعليه القضاء، و ان لم يكن بلغه فلا شي ء عليه » (63) . و موثقة زرارة: «لم يكن رسول الله صلى الله عليه و آله يصوم في السفر في شهر
رمضان و لا غيره » (64) . و رواية محمد بن حكيم: «لو ان رجلا مات صائما في السفر ما صليت عليه » (65) . و مرسلة الفقيه: «ليس من البر الصيام في السفر» (66) . و موثقة سماعة: عن الصيام في السفر، فقال: «لا صيام في السفر، قد صام اناس على
عهد رسول الله صلى الله عليه و آله فسماهم العصاة، فلا صيام في السفر الا
الثلاثة الايام التي قال الله تعالى في الحج » (67) . و موثقة عمار: عن الرجل يقول: لله علي ان اصوم شهرا او اكثر من ذلك او اقل، فعرض
له امر لا بد له من ان يسافر، ايصوم و هو مسافر؟ قال: «اذا سافر فليفطر، فانه لا يحل له الصوم في السفر فريضة كان او غيره، و
الصوم في السفر معصية » (68) الى غير ذلك. و بين ما يدل عليه في صيام شهر رمضان، و هي كثيرة جدا. و ما يدل عليه في قضائه، كصحيحة علي: عن رجل يكون عليه ايام من شهر رمضان و هو
مسافر يقضي اذا اقام في المكان؟ قال: «لا، حتى يجمع على مقام عشرة ايام » (69) . و ما يدل عليه في النذر، كخبر كرام: اني جعلت على نفسي[ان اصوم]حتى يقوم القائم،
فقال: «صم، و لا تصم في السفر» الحديث (70) . و رواية مسعدة: في الرجل يجعل على نفسه اياما معدودة مسماة في كل شهر، ثم يسافر
فتمر به الشهور، انه «لا يصوم في السفر و لا يقضيها اذا شهد» (71) . و موثقة زرارة: ان امي جعلت على نفسها لله عليها نذرا-الى ان قال-: «لا تصوم في
السفر، و قد وضع الله عنها حقه في السفر» (72) . و رواية ابن جندب: عن رجل جعل على نفسه صوم يوم يصومه فحضرته نية في زيارة ابي
عبد الله عليه السلام، قال: «يخرج و لا يصوم في الطريق، فاذا رجع قضى ذلك » (73) . و رواية الصيقل: رجل نذر ان يصوم يوما من الجمعة دائما ما بقي، فوافق ذلك
اليوم عيد فطر او اضحى او ايام التشريق او سفر او مرض، هل عليه صوم ذلك
اليوم، او قضاؤه، او كيف يصنع؟ فكتب عليه السلام: «قد وضع الله الصيام في هذه
الايام كلها» (74) . و ما يدل عليه في صوم الظهار، كموثقتي محمد (75) و زرارة (76) ، الى غير ذلك من
الاخبار. خلافا للمحكي عن المفيد فيما عدا صوم شهر رمضان (77) ، لوجه ضعيف غايته.و قيل: لم
يجوز غير الثلاثة الايام لدم المتعة، فمذهبه مطابق للمشهور. المقام الثاني: في عدم صحة الصوم المندوب. ، و جماعة من المتاخرين (80) ، بل هو المشهور
عند القدماء كما صرح به المفيد، بل يظهر منه ان عليه عمل فقهاء العصابة (81) ، و قال الحلي:
انه مذهب جملة المشيخة الفقهاء من اصحابنا المحصلين (82) . و نسبه في المدارك الى المفيد (83) ، و هو الذي صرح به في اول كلامه، حيث قال: لا يجوز
ذلك الا ثلاثة ايام للحاجة عند قبر النبي صلى الله عليه و آله او مشهد من مشاهد
الائمة (84) .و لكن المستفاد من آخره الجواز، كما ان كلام الديلمي بالعكس (85) . للاطلاقات المتقدمة، و صريح موثقة عمار السابقة (86) ، و صحيحة البزنطي: عن الصيام
بمكة و المدينة و نحن بسفر، قال: «فريضة؟ » فقلت: لا، و لكنه تطوع كما يتطوع بالصلاة، فقال: «تقول اليوم و غدا؟ » قلت: نعم، فقال «لا
تصم » (87) . و المروي في تفسير العياشي: «لم يكن رسول الله صلى الله عليه و آله يصوم في السفر
تطوعا و لا فريضة » (88) . خلافا لجماعة-كالتهذيبين (89) و النهاية و الوسيلة و الشرائع و الشهيد (90) ، و جمع آخر (91) ،
، او بدونها كآخر (94) ، لمرسلتي
اسماعيل بن سهل و الحسن بن بسام: الاولى: خرج ابو عبد الله عليه السلام من المدينة في ايام بقين من شعبان و
كان يصوم، ثم دخل شهر رمضان و هو في السفر فافطر، فقيل له: تصوم شعبان و تفطر
شهر رمضان؟ ! فقال: «نعم، شعبان الي ان شئت صمت و ان شئت لا، و شهر رمضان عزم من
الله على الافطار» (95) . و قريبة منها الثانية، و فيها: فقال: «ان ذلك تطوع و لنا ان نفعل ما شئنا، و هذا
فرض فليس لنا ان نفعل الا ما امرنا» (96) . و صحيحة الجعفري: «كان ابي عليه السلام يصوم عرفة في اليوم الحار في الموقف »
الحديث (97) . و لصحيحة البزنطي المتقدمة، من جهة سؤاله في مقام الجواب عن كون صومه ايهما، و
لو لا الفرق لاتجه الجواب ب «لا تصم » (98) مطلقا من غير استفسار مفهم منه الفرق بين
الفريضة و التطوع، و ليس الا كون النهي في التطوع للكراهة، اذ لا فارق بينهما غيره
اجماعا. و الجواب، اما عن المرسلتين: فبانهما معارضتان مع خصوص صحيحة البزنطي و
موثقة الساباطي (99) ، و الاخيرتان راجحتان بوجوه عديدة من المرجحات المنصوصة و
غيرها.. من المخالفة لمذهب العامة، فان ترك الصوم في السفر و المنع منه من شعار الخاصة. و الموافقة لسنة رسول الله صلى الله عليه و آله، كما عرفت في الروايات المتقدمة (100) ،
حتى ورد في رواية ابان انه «قال رسول الله صلى الله عليه و آله: خيار امتي
الذين اذا سافروا افطروا» (101) . و الاحدثية، حيث ان الصحيحة مروية عن ابي الحسن عليه السلام. و الاصحية سندا. و الاعتضاد بشهرة القدماء المحكية، بل المحققة. و الموافقة للاصل. و لو قطع النظر عن الترجيح يجب الرجوع الى عمومات المنع و اطلاقاته، مع انه لو
لا ما ذكرنا لزم طرح الصحيحة و الموثقة، و هو مما لا وجه له. و اما حملهما على الكراهة فبعيد غايته، اذ المراد منها ان كان اقلية الثواب و
المرجوحية الاضافية فهي مما لا تصلح تجوزا لقوله: «لا يحل » و: «معصية » كما في الموثقة، بل لا وجه للامر بالافطار كما فيها، و النهي عن
الصوم كما في الصحيحة. و ان كان الكراهة المصطلحة المطلوب تركه فلا يلائم اطلاق التطوع عليه، كما في
احدى المرسلتين، و يبعد ارتكاب الامام له سيما مع ترك رسول الله صلى الله عليه
و آله له. و اما عن صحيحة الجعفري: فباحتمال كون الصيام لاجل عدم بلوغ المسافة
المعتبرة في تحتم الافطار كما هو كذلك، او استثناء صوم يوم عرفة. و اما عن الاخير: فبانه يمكن ان يكون الاستفسار لامر آخر غير ما ذكر، مثل ان
يكون غرضه انه لو كان فريضة يامره بالمقام و الصيام ان امكن، سيما ان كانت
الفريضة مما يتضيق وقتها كواجب معين، او كان غرضه انه ان اجاب بالفرض يستفسر
عن انه هل هو النذر المقيد ام غيره. المقام الثالث: فيما استثني من الصيام الواجب و المندوب في السفر. اما المستثنى من الواجب: فبعض الصيام المتعلقة بمناسك الحج، و ياتي في
كتابه. و صوم النذر مع التقييد بالسفر اما فقط او مع الحضر، و استثناؤه و صحة صومه هو
الحق المشهور بين الاصحاب، بل في المنتهى نفى الخلاف عنه (102) ، و في الحدائق: ان
الحكم اتفاقي عندهم (103) . لصحيحة ابن مهزيار: نذرت ان اصوم كل يوم سبت، فان انا لم اصمه ما يلزمني من
الكفارة؟ فكتب عليه السلام و قراته: «لا تتركه الا من علة، و ليس عليك صومه في سفر
و لا مرض الا ان تكون نويت ذلك » (104) . و ردها في المعتبر بالضعف، و لذلك لم يفت بمضمونها، و اكتفى بجعله قولا مشهورا (105) .
و كانه اراد الاضمار.. او اشتمالها على ما لم يقل به احد من وجوب الصوم في المرض اذا نوى ذلك، و
الا فهي صحيحة السند، غاية الامر جهالة الكاتب، و هي غير مضرة بعد اخبار الثقة
بقراءة المكتوب. و الاول: مردود بعدم ضرر الاضمار بعد ظهور انه من الامام، سيما في هذه
الرواية المشتملة على قوله: يا سيدي. و الثاني: بمنع الاشتمال عليه، اذ ليس معناه الا ان مع النية ينتفي الحكم المذكور
بقوله: «و ليس عليك صومه في سفر و لا مرض » و يكفي في صدق ذلك انتفاؤه في السفر خاصة. و اما احتمال ان يكون المراد بقوله: «الا ان تكون نويت ذلك » : ان يكون نوى
الصوم ثم سافر، ففي غاية البعد، مع انه على فرض الاحتمال يحصل في المخصص
الاجمال، و العام المخصص بالمجمل ليس حجة في موضعه، فعمومات المنع من الصوم
او المنذور منه في السفر لا تكون حجة في المورد، و تبقى عمومات الوفاء بالنذر
فارغة عن المعارض فيه. و اختصاص عدم حجية المخصص بالمجمل-عند التحقيق بما اذا كان مخصصا بالمنفصل-غير
ضائر، اذ ليس متصل سوى هذه المكاتبة المعارضة-بعد طرح جزئها المجمل-مع رواية
ابراهيم بن عبد الحميد: عن الرجل يجعل لله عليه صوم يوم مسمى، قال: «يصومه ابدا في السفر و الحضر» (106)
بالتساوي، فلا تبقى الا العمومات المخصصة بالمجمل. و عن السيد: استثناء النذر المعين مطلقا و ان لم يقيده بالسفر (107) ، و حكي عن المفيد
و الديلمي ايضا (108) ، لرواية ابراهيم المتقدمة. و يرد بالمعارضة مع اخبار اخر اكثر و اصح، و منها الاخص مطلقا، و هي صحيحة ابن
مهزيار، فيجب تخصيصها، و لولاه ايضا لسقطت بالمعارضة، فيرجع الى عمومات المنع
عن الصوم في السفر مطلقا. و اما المستثنى من الصيام المندوب: فصوم ثلاثة ايام للحاجة بالمدينة
المشرفة، على التفصيل الذي تتضمنه صحيحة معاوية بن عمار، و لعلها تاتي في كتاب
الحج ان شاء الله. و هاهنا مسائل:
المسالة الاولى:
السفر الذي يجب فيه الافطار هو الذي يجب فيه التقصير، كما مر مفصلا في بحث
الصلاة، فمن ليس كذلك فحكمه حكم الحاضر، مثل: كثير السفر، و العاصي به، و ناوي
العشرة، و غير ذلك، فيجب عليه الصيام اجماعا فتوى و نصا. ففي صحيحة ابن وهب: «هما-يعني التقصير و الافطار-واحد، اذا قصرت افطرت، و اذا
افطرت قصرت » (109) . و رواية سماعة: «من سافر و قصر الصلاة افطر» (110) . و الاخرى: «ليس يفترق التقصير و الافطار، فمن قصر فليفطر» (111) . و تدل عليه ايضا رواية ابان: «خيار امتي الذين اذا سافروا قصروا و افطروا» (112) .
و رواية عمار بن مروان: «من سافر قصر و افطر» الحديث (113) . بل تدل عليه جميع مطلقات افطار المسافر (114) . و يستثنى منه: سفر الصيد للتجارة على الاظهر، فيتم الصلاة و يفطر الصوم، كما
مر بيانه في كتاب الصلاة، و الله العالم.
المسالة الثانية:
من صام مع فرض الافطار في السفر عالما عامدا بطل صومه و وجب عليه قضاؤه،
اجماعا محققا، و محكيا مستفيضا (115) ، له، و للنهي المفسد للعبادة، و الاخبار: كصحيحة ابن عمار: «اذا صام الرجل رمضان في السفر لم يجزه، و عليه الاعادة » (116) .
و الحلبي: رجل صام في السفر، فقال: «ان كان بلغه ان رسول الله صلى الله عليه و
آله نهى عن ذلك فعليه القضاء، و ان لم يكن بلغه فلا شي ء عليه » (117) . و مرسلتي ابي بصير و المقنع الآتيتين، و مفاهيم الشرط في صحاح العيص و المرادي و
البصري الآتية جميعا، و غير ذلك من الاخبار الواردة في موارد الحرمة (118) . و لو كان جاهلا بالحكم اجزاه و لا قضاء عليه، بالاجماعين ايضا (119) ، و الاخبار: منها: صحيحة الحلبي السابقة، و صحيحة العيص: «من صام في السفر بجهالة لم يقضه » (120) .
و المرادي، و فيها: «و ان صامه بجهالة لم يقضه » (121) . و البصري: عن رجل صام شهر رمضان في السفر، فقال: «ان كان لم يبلغه ان رسول الله
صلى الله عليه و آله نهى عن ذلك فليس عليه القضاء، و قد اجزا عنه الصوم » (122) . و هل الحكم مختص بما اذا جهل اصل الحكم، كما اخترناه في الصلاة؟ او يشمل الجهل ببعض خصوصياته ايضا، كما اذا ظن ان سفرا يعصى فيه يوجب
الاتمام و لو لم يكن اصل السفر معصية؟ اختار بعض الاجلة: الثاني، و نسبه الى اطلاق الاصحاب.و هو الاظهر، لاطلاق
الجهالة في صحيحتي العيص و المرادي. لا يقال: مقتضى صحيحتي الحلبي و البصري: القضاء و عدم الاجزاء، اذ العالم باصل
الحكم يصدق عليه انه بلغه ان رسول الله صلى الله عليه و آله نهى عن ذلك، اي الصوم
في السفر. لانا نقول: هذا يتم اذا جعل المشار اليه الصوم في السفر، و يحتمل ان يكون فعله،
اي نهى عن صومه الذي صامه. و هل يلحق الناسي بالجاهل؟ فيه قولان: احدهما: نعم، لاشتراكهما في العذر، و فوات الوقت، و عدم التقصير، و رفع الحكم عنه.
و ثانيهما: لا، و هو الاصح، لاطلاق النصوص، سيما صحيحة ابن عمار المتقدمة (123) .و
دعوى تبادر العامد ممنوعة. و لو علم الجاهل و الناسي في اثناء النهار افطرا و قضيا، لزوال العذر
الموجب-لكون الجزء المتاخر ان فعله معصية، و المعصية لا تجزئ عن الصوم
الواجب-و لخروجه عن النصوص المثبتة، لانها فيمن صام، و الصوم هو الامساك
تمام اليوم.