أوراق مشاکسة نسخه متنی
لطفا منتظر باشید ...
(أشهدني الحق بمشهد نور الشعور، وطلوع نجم التنزيه وقال لي: خفيت في البيان، والشعور لأهل الستور. ثم قال لي: النظم محصور. وهو موضع الرمز ومحل اللغز للأشياء. ولو علموا أن في شدة الوضوح لغز الأشياء ورمزها لسلكوه. أنزلت الآيات النيرات دلائل لمعان لا تفهم أبداً)وإذا تأملنا هذه العبارات في أحد مستويات دلالاتها، وأقصد المستوى الدلالي الإبلاغي الذي يهدف إليه إنشاء النص -والنص معبر عنه هنا بوجهين: بشري وهو (النظم)، وإلهي وهو (الآيات)- متجاوزين بذلك استهدافات الصوفية عموماً، والشيخ الأكبر و "الكبريت الأحمر/ كما كان ابن عربي يلقب نفسه" خصوصاً: من محاولات كشف وتوحد وحلول عبر الوجد وبقية الأحوال المصوغة كلها في (نصوص) أيضاً، فإننا سنجد ابن عربي هنا ناقداً فذاً ومتجاوزاً: لا لعصره الذي يعبر بلغته ومنطقه من موقع (العارف.. المكاشف) باعتباره (خاتم الأولياء) كما قال عن نفسه، بل أيضاً لعصرنا الذي تطورت مناهج النقد فيه من النقد البلاغي والتاريخي الوصفي إلى الشكلانية فالألسنية فالبنيوية والسيمولوجية والسيميوطيقية والنفسية والتوليدية والتفكيكية، وما بعد التفكيكية.. في تواتر مضطرب لا نعلم أين سيصل بهذا النقد بعد التكاملية التي جاءت كرد على ذلك الاضطراب، وكحل للمتناقضات بين المناهج.ولنلاحظ العبارة الأولى: (أشهدني الحق بمشهد نور الشعور) إنها تحتوي المفتاح الجوهري والكلي لعملية التلقي الناتج عن الإبلاغ في النص، وهو ما تدلنا عليه العبارة الأخيرة في المقبوس السابق. والإشهاد هو إبلاغ كلي بدئي يقوم به مبلغ هو (الحق). وكثيراً ما تسميه طوائف المتصوفة: المعنى القديم الأزل، الذي هو غاية لا تدرك، وهذه الغاية هي الحقيقة الكلية المنزهة فوق (وحدة الوجود)- أساس فلسفة ابن عربي- والتي يسعى المتلقي (ياء المتكلم في أشهدني) لمقاربة ما تفيض به من معنى تمنح به بعض الدلالة عليها عبر طبيعة (الموجود) المعاين، حيث هذا (الموجود) يتشكل ترميزياً (كنص/ مشهد) لا ينفتح إلا (بنور الشعور) الإنساني الذي عاين صاحبه.. فاعتبر وأدرك، ثم حدس فقارب.. وهو هنا متنور بنوم نجم التنزيه: تنزيه الحقيقة المطلقة المتعالية عن أن تدرك بذاتها وفي ذاتها كما هي، بل إن أقصى ما يمكن أن يكون من إدراك لها إنما هو حدس بواسطة البيان (اللغة/ النص) حيث الشعور يقر بسترها كماهية ويعترف بإمكانية مقاربة تجليها بالدلالة الكامنة في البناء الرمزي الذي يحمل (لغز الأشياء).وهذا كله تلخيص مكثف جداً. وبإحكام مدهش. للأساس الفلسفي النقدي لدى ابن عربي.وسواء رضي نقاد اليوم بمذهب (وحدة الوجود) في ذلك الأساس الفلسفي أم رفضوه، فإن علينا أن نذكر هنا بأن كل منهج نقدي قد انطلق من موقف فلسفي أعلى لأصحابه في نهاية كل تحصيل.وإذاً فلنتابع مع الشيخ الأكبر.إنه يقول على لسان (الحقيقة المطلقة): خفيت في البيان، والشعور لأهل الستور.وتحمل عبارة (خفيت في البيان) ذلك التناقض الظاهري اللفظي المدهش مثلما تحمل الاعتراف بالقيمة العليا للنص الأصيل من حيث هو دليل وسبيل إلى إدراك (الخفي) بالمكابدة والمجاهدة والدرس والحدس في آن واحد، وتلك مهمة إنسانية تحتفي بملاحقة (مفردات) البيان لاستكناه الكليات التي يحملها.. وهنا أساس عملية (القراءة والنقد) أو التلقي والكشف عن آليات الإرسال التي بها يقوم بنيان (الخطاب) وعن غايات النص التي هي دلالات مجمولة فيه بواسطة الرموز. وما (الشعور لأهل الستور). إلا تعبير عن وجوب الاعتراف بقيمة الحدس الذي يحتوي أساس التذوق الجمالي النصي (الكوني/ البياني) حيث المعرفة المتحصلة بالتجربة تُقوِّمُ على هذا الأساس بنيان رؤيتها. ورؤياها- معترفة، باستمرار، بالقصور، إذ الرمز النصي ليس إلا متواليات من الستور التي لا يمكن إزاحتها كلياً فتظل القراءة مفتوحة.. وتظل مقدرة أي متلقٍ في أي زمان غير مصادرة بفهم واحد. ومع ملاحظة أن الستور النصية هي (بنيات) تؤلفها الترميزات باللغة كي تندرج فيها الرموز الدالة؛ فإننا إذاً -مع الشيخ الأكبر- نكون هنا أمام أهم ما أنجزته البنيوية المعاصرة المتطورة عن كل من الشكلانية والألسنية وسواهما من معطيات إيجابية في النقد المعاصر.