وهنا نصل إلى الأمر الثالث وهو وجوب التغيير الجذري في طبيعة الرقابات العربية على المطبوعات والأفلام والمسلسلات والأعمال المسرحية وسواها، تغييراً يقوم على الاعتراف الرسمي المعلن، والمشهَرةِ قواعده ونواطمه، بحق (الرأي الآخر) في التعبير عن نفسه حيث يكون هذا الحق محمياً بقوة القانون ما دام ملتزماً (بالأمن الثقافي العربي) وغير مخلٍّ بأهدافه وسيرورة تحققه. وهذا لا يقتضي فقط فتح الحدود للأعمال الثقافية العربية وإبرام الاتفاقيات والمعاهدات الناظمة للإنتاج الثقافي وتصنيعه وتوزيعه، كما سبق أن عرضنا لبعض ذلك في مكانه من هذا البحث، بل يقتضي أساساً تغييراً جذرياً في النظر إلى (النظام السياسي)، فترفع القداسة عنه وعن ممثليه وهيئاته المختلفة، ويعترف (بدنيويتها) جميعاً، وبالتالي يُعترف بحق الناس في محاورتها من موقع النقد البناء والحوار المتبادل اللذين يهدفان إلى إيجاد أفضل الطرائق والوسائل لحماية المستقبل العربي، والوجود العربي ذاته، والهوية والخصوصية والثقافية العربية، من الاكتساح العولمي القادم. ومن غير أن يتم ذلك فإن كل ما يمكن أن يقال عن سوق ثقافية عربية مشتركة وعن (أمن ثقافي عربي)، وعن تطوير في الصناعات الثقافية، يظل عديم الجدوى.. وتظل الكتابة في شؤونه مجرد حبر على ورق.ويبقى أن نقول، ختاماً، إن الاكتساح العولمي القادم لن يعفي حاكماً ولا محكوماً من نتائجه، ولن يترك فقيراً ولا متمولاً من إلغاءاته. ولعله قد حان الوقت- بضراوة لا مثيل لها في مختلف مراحل التاريخ العربي: قديمها وحديثها- لتوظيف الطاقات والإمكانيات والثروات العربية توظيفاً جاداً وفعالاً لخدمة بقاء الأمة العربية داخل التاريخ الحضاري العام لا خارجه، وفي هذا مصلحة العرب جميعاً- حكاماً ومحكومين- على حد سواء، ومن دونه لا بقاء لعرب أو عروبة أو إسلام.. لا لأمة ولا لهوية ولا لخصوصية. وليس من حق أحد أن ينتظر نتائج الصراعات الخفية بين القوى الكبرى كي تضمن له بقاءه. فالدخول العربي العام والمشترك في الصراع الجديد لمقاومة العولمة وتفكيك الهيمنة الإمبريالية المتصهينة هو واجب ديني ودنيوي من الطراز الحيوي الأول، ومن غير العمل الكفء السريع على تخليق وعي عام، وغير زائف ولا مفروض، بالمخاطر الكارثية المحتملة خلال العقود القليلة القادمة فلن تكون هناك مقاومة عربية من أجل ضمان البقاء الناجع. وإن وجدت فإنها لن تكفي ولن تؤثر ولو بالحد الأدنى من القدر المطلوب.