أوراق مشاکسة نسخه متنی
لطفا منتظر باشید ...
في العقد الأخير من القرن العشرين ثبت أن (ثقافتنا الجديدة) كانت قد أنشئت على فراغ. وكان عليها، هي وتعبيراتها الكتابية، والوعي الأيديولوجي المتولد عنها والحامل لها، أن تأخذ في الاضمحلال والتبدد. فقد شهدت بداية العقد المذكور انتهاء الحرب الباردة بتفكك طرفها الاشتراكي، وانهيار أيديولوجيته وهزيمتها، واختلال الوضع الدولي اختلالاً شديداً، وانكشاف ألاعيب مركز الأخطبوط الامبريالي، وسفور أنياب أيديولوجيته المجدّدة عبر كتابات منظريها من أمثال فوكوياما وهنتنغتون على وجه الخصوص.لقد تمت هزيمة الأيديولوجيات جميعاً باستثناء التيار الليبرالي العولمي الجديد، وهو تيار تجاوز التيارات الليبرالية القديمة تجاوزاً هائلاً، سواء من حيث فلسفته في الهيمنة أم من حيث مرتكزاته ووسائله التقنية والعلمية والإعلامية.. أم من حيث مقدراته العسكرية والاقتصادية، وطابع فعاليتها الابتزازي التدميري الكوني الذي لا نظير له من قبل.إن هذا التيار هو التعبير الأيديولوجي والعملي لثورة (الأنفوميديا) -الثورة التكنوإلكترونية. بتسمية مبتسرة -حيث يمكن القول الآن: إن هذا، ومعطياته القائمة والمحتملة في المدى المنظور، هو أقصى ما وصل إليه التطور العام للنمط الحضاري الامبريالي، غير أن ما يعد به الأمر الواقع، وما تعد به التطورات السريعة المدوخة أو تهدَّد به البشرية على حد سواء، ربما يسمح بقول مضاف أيضاً وهو: إن ما يجري هو مقدمة غامضة، قليلاً أو كثيراً، لانتقال مجهول نحو تغيير حضاري جذري أشد غموضاً، قد يحمل للإنسانية بعضاً من آمال الإنقاذ أقل بكثير جداً مما يحمله من تهديدات كارثية شاملة.إن تغييراً شاملاً يجري الآن في وسائط تحصيل المعرفة وفي أساليب هذا التحصيل، لكن طبيعة الثقافة ذاتها تتغير بذلك. وفي الوقت ذاته يُصرَّ الباحثون -أو أكثرهم اطلاعاً على ما يجري، وموضوعية في استقراء نتائجه المحتملة- على أن الهويات القومية والخصوصيات الحضارية لمختلف الأمم قد تكون موضوعة قيد التدمير، وكذلك حال سيادات الشعوب على أرض أوطانها أو في محاولاتها الحيوية البيئية. وبعبارة أخرى: إن التنوع في كيفيات الوجود الإنساني، والذي يعبر عن غنى وحدته، هو ذاته قيد التدمير، لصالح تعميم نمط مسطح ومبتذل هو نمط الحياة الأميركي المنشبك مع أسوأ ما للصهيونية من سمات. وربما كان الهدف الأعلى للتيار الليبرالي العولمي الجديد هو خدمة مصالح حفنة ضئيلة العدد من عائلات ملوك المال عبر عزل كل كائن إنساني عن محيطه وتجريده من انتمائه إلى أية ذاكرة حضارية قومية، وإلى أي منظومة قيم باستثناء (قيم السوق) حيث يصبح منتجاً /مستهلكاً نمطياً وليس له من تطلعات رؤيوية أو اعتقادية روحية خارج ذلك، بل يصير همه ومثله الأعلى أن يشبع غرائزه في عزلته البائسة تلك عبر ما يصدر إليه من معلومات وصور تحرضه على الانعمار في البحث عن وسائل هذا الإشباع.