حينما قال أحدهم قديماً: "الشعر ديوان العرب" فإن سلاسل من أسباب قد لا يمكننا حصرها كانت تؤهل هذه العبارة لمصداقية واسعة. وعمت "الكلمة" أعصراً وشاعت، وكانت- باعتبارها حكم قيمة على الفن والأدب والتاريخ والحياة الاجتماعية والاقتصادية وسواها- تميل بازدياد متواتر ومضطرد إلى أن تصير حكماً إطلاقياً شمولياً كلما ازدادت الحياة العربية تردياً وانحسار فاعلية وانحطاطاً… ذلك أن الأحكام المطلقة الجاهزة توحي أو توهم بأنها تقول كل شيء، لكنها عند التمحيص والتدقيق والتحليل والمراجعة الجادة يتضح منها أنها لا تقول شيئاً ذا قيمة.ولعل من أُطلق تلك القولة، التي لا تزال تأسر كثيرين حتى من بين النخبة المثقفة المبدعة العربية، إنما كان يقصد بها تشخيصاً لواقع الثقافة في العصر الجاهلي قبل سواه، وإذا حاولنا مط المفهوم نحو العصور الإسلامية المتعاقبة فربما أمكن تعميمه على المائة الهجرية الأولى وبعض المائة الثانية… وعلى مساحات جغرافية خاصة إما في شبه الجزيرة العربية، وإما في مناطق انتشار أعدادٍ من القبائل العربية، حيث كان لا بد من مرور وقت كاف كي يفسح الشعر مكاناً لعلوم جديدة ناشئةٍ ومتنامية بسرعة: دينية ودنيوية… لكن هذا الشعر يظل يحتفظ- إلى درجة ما- بموقع المرجعية. فتلك العلوم الجديدة ترتبط كلها بالقرآن الكريم عبر الفقه والتشريع المعتمدين على التفسير والتأويل لآيات القرآن الكريم… والقرآن (لسان عربي) كما يصفه منزله سبحانه في بضعة عشر موضعاً من سوَرِهِ. واللسانُ هو لغةٌ تحمل ثقافةً أعاد الإسلام إنتاجها في النص القرآني ونصوص الأحاديث الصحيحة… إلى آخر ما يمكن قوله في هذه القضية المعرفية الكبرى مما لا مكان له هنا. ولكن المهم هو أن الشعر- الجاهلي بخاصة- هو أيضاً لغة عصر سابق على الإسلام، أي أنه مجموع ثقافته المتداولة المتناقلة شفوياً قبل التدوين… وبسبب من الصلة الجدلية بين الإسلام والجاهلية على الصعد المعرفية والاعتقادية والقيمية والاجتماعية والاقتصادية والسلوكية… جميعاً، فإن الشعر (كلغة) قد استمد وضعه كمرجعية من ذلك كله.عبارة (الشعر ديوان العرب) ليست إذاً عبارة ذات دلالة مسطحة على التوجه العام في الإنتاج الفني كما قد يخيل لكثيرين. إنها أشد عمقاً من ذلك وأبعد غوراً في الدلالة داخل نمط متمايز من التركيب الحضاري المعقد… وهي بعد ذلك ذات تاريخ يتواصل لاحقاً بصورة تبعدها عن محتواها العميق الأول، وتميل بها إلى التسطيح مع الانحطاطات التي ستحيق بالحضارة وبالحياة العربيتين. فإذا ما بدأت حركة الإحياء عندنا منذ القرن الماضي أحيينا أيضاً هذه العبارة بكثير من السذاجة ولاستعمالاتٍ قد تقارب سطح ما وضعت له أصلاً ولكنها تظل بعيدة عن أن تكونه بدقة.ولأن العرب عموماً (هواة كلام) منذ أن أنشؤوا بدئياً مفهوم "الكلمة الخالقة" فإن اللعب اللفظي يبدو لدى الكثيرين كأنما هو "متعة خلق"، ولعلنا هنا نضع يدنا على السبب الحقيقي لاستبدال لفظة "الشعر" بلفظة "الرواية" مؤخراً، لتصبح العبارة التي نحن بصدد معالجتها… كالتالي:(الرواية ديوان العرب)لعب لفظي واضح، ويمتلك من سذاجة الدلالة ما يدفع إلى الابتسام فعلاً. من الذي أطلق هذه اللعبة اللفظية أولاً؟!… لا أدري. وأعتقد أن الإجابة على هذا السؤال لا تملك أية أهمية. ولكن بعض المثقفين- وبينهم كتاب ونقاد معروفون- (قبضوها بجد)، وأخذوا يحاورون فيها وينظِّرون لها… ويسعون إلى تعميمها (كحكم قيمة) على النتاج الإبداعي العربي، بل على التاريخ العربي وحركة الحياة العربية في هذا القرن على الأقل.