ما نعنيه من كلمة (الهوية) هنا ليس مبدأ الهوية الذي تتحدث الفلسفة عنه- باختلاف واتفاق- وإنما هو فكرة الهوية الحضارية لأمة من الأمم، كالأمة العربية مثلاً، حيث هي والخصوصية تتلازمان كي تجعلا الانتماء القومي متحققاً تلقائياً في وجود الأفراد داخل أطرهم الاجتماعية، وتجعلا المجتمعات يتمايز كل منها من الآخر بخصائص تنعكس في العلاقات الداخلية للمجتمع الواحد بين أبنائه وفئاته، وفي العلاقات الخارجية المتبادلة بين مجتمع ما وبقية المجتمعات الإنسانية.. فتظهر طرائق مختلفة -قليلاً أو كثيراً- في النظر إلى الأشياء الواحدة، والقضايا الواحدة، والمشكلات المعرفية الواحدة، مثلما تظهر قيم مختلفة - قليلاً أو كثيراً أيضاً- في المواقف من تلك الأمور وسواها، وفي الفعل تجاهها وردود الفعل كذلك.. إلى آخر ما يمكن ذكره في هذا السياق مما يجعل شخصية الفرد الإيطالي وشخصية المجتمع الإيطالي مختلفة -مثلاً- عن الفرنسي، والفرنسي عن الألماني، والألماني عن الروسي، والروسي عن الصيني، والصيني عن الهندي، والهندي عن الإنكليزي، والإنكليزي عن العربي.. إلى آخره، إلى آخره. ترى هل هذه أمور حقيقية (قائمة على الأرض) كما يقال، وبالتالي تدل على التمايز الذي أشرنا إليه، أم إنها (اختراع) عابر أنجزته المصالح، وتُغيّرُهُ المصالح، أو تعدله المصالح؟! وبتعبير آخر: هل ذلك قائم على ثوابت تم إنجازها واستكمالها في التجربة الأولية الاجتماعية لتكوّنِ مجتمعٍ ما، ثم جرى توريثها وتوارثها في مجموعات رموز بدئية يقع فيها -رغم خصوصيتها- ما هو مشترك إنساني حسب فرضيات عالم النفس الشهير كارل يونغ، فولدت -أو تولد منها- نظام معرفي خاص لمعنى الوجود الإنساني بذاته، ولمعنى وجوده في الطبيعة والكون، ونظام قيمي يشتغل داخلياً بضبط العلاقات التي هي تناقضية جدلية بين الأفراد والجماعات الذين من طبيعتهم ذلك التناقض وتلك الجدلية.. أم إنه ليست هنالك (ثوابت) لما نسميه (الهوية) بل هي خاضعة للتأيُّن والتزمُّن، أي إنها قابلة للتغير بشروط الزمان المتغيرة تغيراً جذرياً حتى لو لم تتغير شروط المكان؟! وعليه، هل التاريخ الحضاري برمته حاضر في طرائق تمثل أمة من الأمم لمعطيات واقع قائم، أم إن التمثل يمكنه أن يلغي حضور ذلك التاريخ الطويل غير المعروفة تفصيلاته كي يتم استبناء تاريخ جديد منقطع نهائياً عما سبقه؟!..تلك أسئلة تتبعها أو تتفرع منها أسئلة أخرى كثيرة تكاد لا تحصر. والأمر هنا هو أمر إثارتها ومقاربة الجوهري منها مقاربة بسيطة، لا الإجابة عليها إجابة وافية كافية جامعة مانعة. فذلك هو ما لا يمكن أن تستوعبه حتى مجلدات ضخمة، فكيف بمقالة صغيرة؟!في اعتقادنا أن كل وجود مجتمعي إنما قائم بدئياً، ثم "صار" ونما حتى الوقت الراهن، على نظام خاص به في معرفة ذاته ومعرفة معنى الكون والطبيعة ومعنى وجوده فيهما.. وهذا النظام الذي نسميه (أسس البنيان الثقافي) لهذا المجتمع تكوّن في إطار التجارب الأولى في الزمان والمكان المتمايزين بالنسبة له وفي إطار كيفيات التمثل الأولية لانعكاسات تلك التجارب -بصرف النظر عن محدوديتها أو سعتها -على القابليات السيكولوجية للأجداد الأوائل أو فيها، وما اختير بناء على ذلك من ترميز لتلك الانعكاسات المتأثرة بقوة -آنئذ- بالمعطيات البيئية أساساً.إن نظم الترميز تلك تعني وجود منظومات رموز أولية، وسلاسل من المنظومات التفريعية المنبثقة أو المشتقة منها.. حيث تلك النظم تقوم على هذه المنظومات. ولو تأملنا الحياة الإنسانية بمختلف تجلياتها لوجدناها قائمة على الرموز والترميز الذي يمنحه الذهن البشري للكائنات وللموجودات جميعاً.إن أساس "البنيان الثقافي" لكل مجتمع أصبح (خارج السيطرة) الإرادية في جوهره، وخارج التأيُّن والتزمُّن، ولكنه في تفرعاته وتشعباته، أي في مظاهره وتجلياته الدالة عليه، قابل لأن يعطي ويأخذ محيلاً ذلك إلى القاع السيكولوجي الجمعي حيث الجوهر يحكم ويبني التكيفات المطلوبة للمجتمع وللأفراد عبر ما لا نعرفه من عمليات معقدة. وكل هذا يحتاج إلى شرح واسع ليس مكانه هنا، وتخيّل تلك العمليات المعقدة ليس سهلاً وأحياناً ليس ممكناً بصورة وافية. ولكن ذلك كله يحدد ما هو ثابت في الهوية وما هو عرضي متغير، مثلما يحدد علاقة المتغير بما هو ثابت من حيث تبعيته له. وفي الثابت -وهذا تكرار- يقع (المشترك الإنساني) الذي يجعل البشر قابلين للتفاهم والوحدة بقدر ما هم متمايزون متنوعون. مثلما يجعلهم -في مستوى ما- يختلفون ويقتتلون بسبب من عدم المقدرة على تلقي المدلولات الحقيقية للرموز خلال التواصل بالعلاقات المتبادلة.