بداية، ربما يتعين علينا أن نقارب موضوعنا هذا -موضوع: مستقبل الصناعات الثقافية العربية والسوق الثقافية العربية المشتركة -داخل إطار نظري نقترحه هنا، ونرى أنه ذو طبيعة استراتيجية وله طابع الضرورة الحيوية الملحة على المستوى القومي في الظروف العالمية والإقليمية الراهنة، وذلك الإطار النظري المقترح هو -باختصار- وجوب البحث الجدي في (نظرية للأمن الثقافي العربي). وفي اعتقادنا أن (الأمن الثقافي العربي) قضية ملحة، وتستلزم لا الدراسة الموضوعية الجادة وحدها وحسب، بل أيضاً (صياغة الأسس) واعتمادها، وتوقيع جملة من (المعاهدات والاتفاقيات) للعمل العربي المشترك المتكامل بهذا الخصوص، حيث يتناول "المتَّفق عليه" -بناء على تلك الأسس- مختلف الأمور الإجرائية المفصلة التي تتعلق بتنظيم التعاون والتكامل في سائر ميادين التصنيع الثقافي العربي و (الصناعات الثقافية العربية)، وتنظيم شؤون التسويق الناجع لهذه الصناعات على مستوى الأقطار العربية جميعها أولاً تنظيماً يكفل تحقيق (الأمن الثقافي) المشار إليه، وإن يكن ذلك في أدنى الحدود المقبولة.. كخطوة أولى.و(الأمن الثقافي العربي)، الذي نقترح اعتماد نظرية له هنا يعالج في إطارها موضوعنا هذا وبقية الموضوعات الأخرى الموازية، ليس -حسبما نراه- (صيغة انغلاق) على الذات، أو (مصادرة على عملية المثاقفة) المتبادلة مع بقية ثقافات العالم، من جهة.. كما إنه لا ينحصر جوهره برد الفعل على أي وضع إقليمي خاص أو عام، من جهة أخرى، إنه (صيغة وعي وفعل) يتوجهان أساساً إلى إرساء (قواعد) للتعامل التبادلي العربي مع المستجدات العالمية، وتمظهرات حركتها المتغيرة السريعة والقلقة، بما تنطوي عليه تلك المستجدات والحركة التي تحكم الآن أوضاع العالم كله من احتمالات مفتوحة قد تحمل أفدح الأضرار (للهوية الحضارية العربية) المنجزة كمحصلة لثقافتها الإسلامية، وأفدح الأضرار للتاريخ العربي و (للبنيان الثقافي العربي الإسلامي) في أسسه الرؤيوية الفلسفية والاعتقادية، وفي أنماط (حدوسه) الفكرية /الفنية وما يتولد عن ذلك كله من أمزجة جمالية وقيم تحكم أنماط السلوك والعلاقات التبادلية الداخلية.. وبالتالي: إن تلك الاحتمالات التي تنطوي عليها المستجدات العالمية وحركتها واستهدافاتها قد تحمل لا الخطر على النظامين الاعتقادي والقيميّ العربيين وحدهما وحسب -وهما ما ترتبط به كل من: الهوية، والخصوصية- بل الخطر على الوجود العربي برمته أيضاً، وفي سائر مستويات هذا الوجود وميادينه.وفي إطار ماهو عالمي يجب أن يُرى ماهو إقليمي، باعتبار أن سمات التوجه الخاصة بهذا الإقليمي ليست إلا بعضاً، أو تفصيلاً، من الاستجابات لمحمولات ذلك العالمي.. وهذه مسألة صارت أقرب إلى البديهية، من وجهة معرفتنا الخاصة بها.ويمكننا تلخيص ذلك (العالمي) بكلمة واحدة أصبحت الميدان المفضل للمفكرين والدارسين العرب في السنوات القليلة الأخيرة بينما كبار مفكري العالم منشغلون بها منذ عقد ونيف.. إنها: (العولمة) التي أخذت الآراء تتضارب وتتقاطع وتتناقض بخصوص فوائدها ومضارّها، وإن كان (أصحاب الرأي) جميعاً يتفقون على أنها "قيد الإنجاز"، إن لم تكن قد صارت منجزة تماماً بعد.وإذا أخذنا بإحدى صيغ التعريف المختزلة -مؤقتاً- لكلمة العولمة قلنا: (إنها المحصلة لانفجار الوضع الحضاري البشري وعقله في مرحلة "ما بعد الحداثة"، بحسب التعبيرات المتداولة). لكن صيغة التعريف المختزلة هذه، والتي تبدو كأنها لا تقول شيئاً، تنطوي في الحقيقة على عدد غير قليل من الإشكاليات المعرفية والمشكلات المتعالقة المشتبكة بين المجتمعات الإنسانية -كلٍّ حسب وضعه- في إطار التطور الامبريالي: سواء في صيغته الفلسفية، أم استقطاباته وتمركزاته السياسية، أم اقتصادياته، أم متطلباته الخاصة بالتغيير الجيوبوليتيكي في العالم، أم تقنياته المستحدثة المختلفة: المدنية منها والعسكرية، أم متطلباته في الإخضاع الثقافي التام.. وربما هذا هو الأكثر أهمية وجوهرية!وبالطبع، فإنه لابد لنا هنا من مقاربة سريعة لحقيقة هذه العولمة، وإشكالياتها، ومشكلاتها التي تثيرها، لأن ذلك هو وحده الكفيل بتقديم التسويغ الحقيقي لأطروحة (الأمن الثقافي العربي)، فهو بالتالي ما يجعل معالجة موضوع (مستقبل الصناعات الثقافية العربية والسوق الثقافية العربية) معالجة ذات سمات موضوعية مستنبطة من أسس صحيحة، مثلما يجعل كيفيات النظر في هذا الموضوع إجرائياً تتحدّد بكثير من الدقة مع الربط الوظيفي الناجع لما هو إجرائي بأهداف قومية عربية وإسلامية وإنسانية صحيحة وسليمة! ولمقاربة حقيقة العولمة لابد من مراجعة مقتضبة للأصول التي انبثقت منها، أولاً بأول.