ربما من طرائف ما سوف يحكى عن كتابة هذه الأيام أن كُتَّاب العربية وشعراءها ماعادوا يفتقدون الموضوعات الجديدة التي يكتبون فيها وحسب ـ برغم كثرتها تحت أنوفهم! ـ بل إنهم قد افتقدوا (اللغة الصحيحة) أو إنهم ضيعوها وفقدوها.ويعني هذا الافتقاد أو الفقدان غياب القدرة على إنشاء ماهو قابل للتلقي تلقياً يحرض الرغبة بالمزيد منه، ويحرض المزيد من الإيجابية الوجدانية والعقلية والروحية في مواجهة ترديات الواقع التي هي جوهر المأزق الاجتماعي الحيوي العام.إن المتابع المتبصر قليلاً في العمق الكامن خلف عموم ما ينشر من كتابات: إبداعية، ونقدية… وحتى فكرية، لا بد له إلا أن يلاحظ كيف تهدر (اللغة): إما باللغو وإما بالحذلقة وإما بالتطويل الذي قد ينشئ فيه أحدهم صفحات طوالاً ليقول لقارئه فكرة صغيرة يمكن إيجازها بأسطر.ومن أمثلة ما يمكن عدَّه لغواً في الكتابات الفكرية كتاب (القرآن والكتاب) الذي أصدره د.محمد شحرور في مطلع التسعينيات حيث كان الكتاب المذكور ـ في هيكليته العامة ـ محاولة لمركسة القرآن انتهت إلى إعادة إنتاج (الغيبيات) بجدارة!!… ومن أمثلة الحذلقة في الكتابة النقدية ما قدمته خالدة سعيد ومحمد بنيس وغيرهما. وسنعود إلى (نموذج) من الحذلقة الفكرية في القسم الثاني من هذه المقالة. أما مثال التطويل فأقرب مايمكن للمرء أن يجده فيه هو مقالات د.جابر عصفور في جريدة "الحياة" وغيرها من المجلات والصحف التي يكتب فيها بغزارة واضحة.ويمكننا أن نعد أمثلة كثيرة أخرى على اللغو والحذلقة والتطويل لكتّاب وباحثين لا يقلون شهرة عمّن ذكرناهم. والمهم أن ما ذكرناه يبدو مؤشراً على مأزق تهدر فيه اللغة، أو إن المأزق نفسه يفرض هذا الإهدار. ولكلّ مثال ذكرناه خلفياته ومترابطاته الخاصة المشيرة بدورها إلى جوانب محددة من تمظهرات المأزق.وعموماً تبدو الموضوعات النقدية أو الفكرية التي تطرح في السوق الآن ـ مع الاحتفاظ بمكان للاستثناءات بالطبع ـ إما نقلاً ممسوخاً عن فكر ونقد (الآخر/ الغرب)، وإما ترجيعاً نوستالجياً لأفكار تراثية طافية أو منتقاة، وإما تكراراً لما صار بائتاً أو فائتاً من الأفكار التي شاعت خلال القرن العشرين مع مترابطاتها الأيديولوجية التي أصبحت تكاد لا تعني أحداً من المتلقين. إنها دائماً وبصورة إجمالية ـ موضوعات تتعالى على متطلبات واقع عربي مأزوم بمشكلات قرن تراكمت من دون حلّ حتى تحولت إلى معضلة وجود، وجاءت العولمة أخيراً فطرحت قضية بقاء أصحاب هذا الواقع أنفسهم على بساط البحث. فلجأ الفكر الدَّائخ بكل ذلك إلى هذا التعالي على تلك المتطلبات، أو لنقل ـ إن شئنا التخفيف ـ إلى مغايرتها برغم الادعاء دائماً بالإحالة إليها!.وسواء شئنا أم أبينا فإن الحقيقة الجذرية في الوجود العربي الراهن هي حقيقة (الوجود باللغة). و(خارج اللغة) لا يساهم العرب بالإنتاج الحضاري المعاصر، بل هم يستهلكون منتجات التكنولوجيا الرثة ونثار المعرفة المفوتة للغرب بشراهة فريدة!… وخلال ذلك يتم استهلاكهم، حتى لقد صارت هويتهم ذاتها موضع تشكيك وموضوع هدر محتمل مقبل. ولا أدل على ذلك مما سجله كل من الصهيونيين العتيدين: (الحمامة!!) بيريز في كتابه (الشرق الأوسط الجديد)، والذئب الصريح نتنياهو في كتابه (مكان تحت الشمس).ومعضلة (الوجود باللغة) وحدها معضلة، في إطار المأزق الحيوي المدوخ المذكور. فاللغة لا تستطيع أن تكون (لغة) إلا عبر أبنية نصية تحيل صيغتها التعبيرية إلى دلالات قابلة للتلقي… وبالتالي، لابد من أن تكون ثمة موضوعات ساخنة، معالجة بكفاءة، محمولة في تلك الأبنية النصية، ومن دون ذلك تصير اللغة لغواً أو هذراً، أو إنها تظل مجرد (كلمات، مفردات)، لم تقفز خارج المعجم بل هي مقيمة فيه: تحمل طاقاتها الكامنة وتنتظر!!…