ولوقت غير قصير ـ قياساً إلى عمر (حداثتنا الشعرية) -اختفى مصطلح (تفجير اللغة)، مخلفاً بعض الأصداء الباهتة هنا وهناك، لكن الدكتور كمال أبو ديب، الأستاذ في جامعة لندن والناقد البنيوي المعروف / (صاحب جدلية الخفاء والتجلي)، و(في البنية الإيقاعية للشعر العربي)، و(الرؤى المقنعة ـ نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي)، و(نظرية الصورة الشعرية عند عبد القاهر الجرجاني)/ يعمد إلى استعادة مصطلح (تفجير اللغة) في الفقرة /20/ من المقدمة التي كتبها لترجمته كتاب إدوار سعيد (الثقافة والإمبريالية) إلى اللغة العربية. وهو ـ وإن كان يستعيد هذا المصطلح في سياق العمل في الترجمة ـ يحاول إعطاءه أبعاداً محددة تتعلق (بعلم اللغة) مرة، و(بفقه اللغة) مرة أخرى، و(بالعلاقة بين اللغة والفكر) مرة ثالثة… الأمر الذي يجعل لتلك الاستعادة قيمة معرفية على مستوى (الأداء التعبيري) كما على المستوى النقدي. وهو يقدم أطروحات) في ذلك لا تحتاج إلى مناقشة وحسب، بل تحتاج غالباً إلى تصحيح وتصويب… مع التقدير الكامل لما قدمه في أعماله كلها إذ هو (يعد من أصحاب الدور الرائد في نقل الفكر الجديد والنقد الجديد إلى ثقافتنا العربية المعاصرة) كما يقول عنه د.حامد أبو حامد في كتابه (نقد الحداثة) الصادر في سلسلة كتاب (الرياض) العام 1994، ومع التقدير الكامل أيضاً لجهوده الكبيرة والهامة في نقل كتابي إدوار سعيد: (الاستشراق)، و(الثقافة والامبريالية) إلى اللغة العربية.
ـ 2 ـ
يقول أبو ديب في مستهل الفقرة /20/ سابقة الذكر، بعد استعادة لجزء من مقدمة ترجمة (الاستشراق) تتوضح فيه بعض المبادئ التي اعتمد عليها نهجه في تلك الترجمة، والتي يرى فيها أيضاً ضرورة تفجير اللغة لتطوير الحضارة:(نحن، إذاً، بحاجة إلى تفجير حدود اللغة…. من بناها الصرفية خاصة إلى أنساقها النظمية التركيبية، وقواعد الأداء التوليدية فيها. لكن هذا التفجير ينبغي أن يتم من الداخل متحركاً باتجاه الخارج، لتحتفظ اللغة بمقوماتها الجوهرية ونهج تجسيدها للبنى الأساسية في الثقافة والتاريخ العربيين تحديداً).وبمراجعة الفقرات /17 و18 19/ من مقدمة ترجمته (الثقافة والامبريالية) هذه، نجد مسوغات هذا التفجير وأسبابه وغاياته، ـ بصرف النظر عما يراه في قيامه بهذه الترجمة كما جاءت من أنه فعل صراع ضد الغزو اللغوي وفعل مقاومة، رغم المعاظلات الكثيرة فيها والتي هي جزء من ذلك التفجير ـ فهو يقول في الفقرة /19/ : (لن يتم هذا التفجير، في تصوري، إلاّ بالمغامرة الرائدة، بالجرأة لا على نقل الفكر من العالم وحسب، بل على اللغة أيضاً، على بناها العميقة والسطحية، وعلى مكوناتها الصوتية والمورفولوجية والنظمية جرأة تهدف في النهاية إلى إنجاز جوهري وهو توسيع اللغة، وتوسيع اللغة. شرط أساسي في مراحل الصدام الحضاري)… وهو بعد هذا يورد أمثلة تاريخية من (الجرأة على اللغة)، ولكن يفوته أمر الشرط التاريخي العميق والفرق بينه وبين الشرط الراهن وهو: أن منتجي اللغة في عصر سيادة الحضارة العربية الإسلامية كانوا في موقع (الفعل) لا في موقع الانفعال، أو ردّ الفعل -الاستهلاكي على وجه الدقة)- وسنرى لاحقاً كيفيات جرأته هو على اللغة!.ويحمل (الكلام الناري) الذي يورده أبو ديب بعد مقبوسنا الأول من الفقرة /20/ تناقضات غير منظورة بينه وبين مافي الفقرتين /17 و19/ ولسنا هنا في مجال عرض هذه التناقضات تفصيلاً ولكننا سنشير إلى خطأ نعتبره أساسياً بخصوص علاقة اللغة بتطور الحضارة. فأبو ديب يرى أن (تطور الحضارة مشروط، أولاً، بتطور اللغة)، وهذا ما يجعله يحمّل اللغة العربية في الفقرة /20/ مسؤولية الدور الأساسي في ما يسميه (زندقة) مختلف ظواهر الحياة العربية الراهنة (لأن اللغة المزندقة، الهجينة، النغولية، لا يمكن ـ تبعاً لهذه المنظومةـ أن تنتج إلا فكراً مزندقاً هجيناً)…وهذا الاستنتاج المقلوب لعلاقة اللغة بالحياة يقدم تسويغاً مناسباً لما يطلبه:تفجير اللغة إذن فعل لابد منه، لأن البنى اللغوية الراهنة، كما تطورت تاريخياً لم تعد قادرة على استيعاب العالم العربي الراهن كما تطور هو أيضاً تاريخياً. بيد أن هذا التفجير، كما قلت، لا ينبغي أن يتم من الخارج، بل من الداخل).