أوراق مشاکسة نسخه متنی
لطفا منتظر باشید ...
ويمكننا أن نعد أمثلة كثيرة أخرى على اللغو والحذلقة والتطويل لكتّاب وباحثين لا يقلون شهرة عمّن ذكرناهم. والمهم أن ما ذكرناه يبدو مؤشراً على مأزق تهدر فيه اللغة، أو إن المأزق نفسه يفرض هذا الإهدار. ولكلّ مثال ذكرناه خلفياته ومترابطاته الخاصة المشيرة بدورها إلى جوانب محددة من تمظهرات المأزق.وعموماً تبدو الموضوعات النقدية أو الفكرية التي تطرح في السوق الآن ـ مع الاحتفاظ بمكان للاستثناءات بالطبع ـ إما نقلاً ممسوخاً عن فكر ونقد (الآخر/ الغرب)، وإما ترجيعاً نوستالجياً لأفكار تراثية طافية أو منتقاة، وإما تكراراً لما صار بائتاً أو فائتاً من الأفكار التي شاعت خلال القرن العشرين مع مترابطاتها الأيديولوجية التي أصبحت تكاد لا تعني أحداً من المتلقين. إنها دائماً وبصورة إجمالية ـ موضوعات تتعالى على متطلبات واقع عربي مأزوم بمشكلات قرن تراكمت من دون حلّ حتى تحولت إلى معضلة وجود، وجاءت العولمة أخيراً فطرحت قضية بقاء أصحاب هذا الواقع أنفسهم على بساط البحث. فلجأ الفكر الدَّائخ بكل ذلك إلى هذا التعالي على تلك المتطلبات، أو لنقل ـ إن شئنا التخفيف ـ إلى مغايرتها برغم الادعاء دائماً بالإحالة إليها!.وسواء شئنا أم أبينا فإن الحقيقة الجذرية في الوجود العربي الراهن هي حقيقة (الوجود باللغة). و(خارج اللغة) لا يساهم العرب بالإنتاج الحضاري المعاصر، بل هم يستهلكون منتجات التكنولوجيا الرثة ونثار المعرفة المفوتة للغرب بشراهة فريدة!… وخلال ذلك يتم استهلاكهم، حتى لقد صارت هويتهم ذاتها موضع تشكيك وموضوع هدر محتمل مقبل. ولا أدل على ذلك مما سجله كل من الصهيونيين العتيدين: (الحمامة!!) بيريز في كتابه (الشرق الأوسط الجديد)، والذئب الصريح نتنياهو في كتابه (مكان تحت الشمس).ومعضلة (الوجود باللغة) وحدها معضلة، في إطار المأزق الحيوي المدوخ المذكور. فاللغة لا تستطيع أن تكون (لغة) إلا عبر أبنية نصية تحيل صيغتها التعبيرية إلى دلالات قابلة للتلقي… وبالتالي، لابد من أن تكون ثمة موضوعات ساخنة، معالجة بكفاءة، محمولة في تلك الأبنية النصية، ومن دون ذلك تصير اللغة لغواً أو هذراً، أو إنها تظل مجرد (كلمات، مفردات)، لم تقفز خارج المعجم بل هي مقيمة فيه: تحمل طاقاتها الكامنة وتنتظر!!…ولكن الموضوعات الساخنة التي تتولد في الاستهلاك تظل محدودة وسطحية، لأنَّها تخرج من رحم الوجود السلبي، وتصبح- بما هي قضايا مباشرة في إلحاحها على الوجدان الإبداعي والنظر التأملي ـ ممجوجة من قبل المتلقي نظراً لطول الاشتغال قبلاً في معالجتها من دون جدوى. ولتراكم المشكلات العالقة بها أصلاً كما سبق أن ذكرنا، من دون أن يتحقق أي أفق لاحتمال حلول حقيقية ومع الاختلالات الفادحة في آفاق الرؤى الإيديولوجية التي عرفناها في القرن العشرين، حيث تم أخيراً انتصار (الليبرالية الامبريالية) بكل فظاظاتها التاريخية تجاه الأمم/ موضوع النهب والابتزاز والتدمير، تبدو تلك الموضوعات للمتلقي العادي أو النمطي وكأنما هي موضوعات زائفة. وفي الموضوعات الزائفة تهدر اللغة بالطبع، وقد تكون من أمثلة الهدر في هذا المقام تلك النصوص الروائية المسطحة التي لا تزال تلتفت بحنين إلى ريف لم يعد موجوداً، في مواجهة مدينة تم ترييفها إلى درجة التآكل التمديني فيها منذ عقود. وقس على ذلك من أشكال الهروب التعبيري من مواجهة ما تجب مواجهته.. الآن!!