هذه نماذج من أدوار فكرية ساهمت ـ وتساهم ـ في صنع الرؤيات العربية لحركة العالم ولموقع العرب فيه. والأمثلة المشابهة كثيرة ولكن تساؤلنا هنا ينصب على أثر صناعة هذا (الزيف الرؤيوي) في قضية اللغة وهدرها بما هي متشكلة في أبنية نصية إبداعية تخاطب وجدانات المتلقين أصلاً، ويفترض أنها مترابطة مع مقتضيات الوجود الاجتماعي ومعطياته، ومع التحديات الملحة التي يواجهها.ولقد أشرنا قبلاً إلى أن الموضوعات الحقيقية المهمة التي تستطيع اللغة أن تحملها راهنياً لابد لها من أن تنبع من مستوى مقبول من المساهمة في الإنتاج الحضاري: تقنياً ومعرفياً… ولعل (الزيف الرؤيوي) يترابط ترابطاً صميمياً مع آليات الابتذال الاستهلاكي… ذلك أن الفعل الحضاري المنتج يخلق (مناخاً) فكرياً ومعرفياً حقيقياً راسخاً، لأنه يقوم على يقينيات التجربة والتطبيق المبدعين… أما الابتذال الاستهلاكي فإنه ـ بحكم التبعية المتزايدة لمركز الفعل ـ يخلق هذا الزيف الرؤيوي المتولدمن السيكولوجية التهميشية، حيث أقصى ما يذهب إليه الوعي المهمّش هو تقليد الآخر بما يكفي من العمى عن الرؤية الصحيحة للذات. وهنا يقع الاكتفاء بالتأمل الواهم، والتلقي المنفصل لشذرات من منتوجه الإبداعي، منتزعة أو مقتطعة من سياقاتها التاريخية الإجمالية ضمن تجاهل لمستجرات الهيمنة المفروضة بمختلف أشكال القوة.وكل هذا بالطبع يدخل في عمليات إنتاج الإبداع بما هو لغة.. مع اعترافنا بما للأدب عموماً من استقلالية نسبية داخل السياق الإجمالي لعمليات الواقع الاجتماعي الموضوعي.حداثتنا الأدبية صيغها ـ ترابطاتهاالأيديولوجية ـ مصائرهافرضت التبعية إذاً زيفاً رؤيوياً متواتراً حول طبيعة (الذات) وحقيقة العلاقة بينها وبين (الآخر) الابتزازي والنهاب، وتم الاكتفاء ـ عموماً ـ بالتلقي الواهم لشذرات من إبداعه بتعام أو تجاهل للسياقات التاريخية العامة التي تم فيها ذلك الإبداع ولوظيفته أيضاً. وترك ذلك كله آثاراً على (لغتنا) بمعنى كونها منجزات نصية إبداعية.ونظراً لغياب فعلنا في الإنتاج الحضاري الكلي المعاصر، ولموقعنا الاستهلاكي الهامشي فإن انزياح لغتنا عن مستويات وأنماط أداء قديم إلى مستويات جديدة كان انزياحاً قسرياً ومحدوداً، مثلما كان محكوماً بروح منافسة قاصرة، ورغبة باللحاق (بهذا الآخر) بتقليده في ما حصلناه من (معرفة) بإبداعه.