ثانياً- في العولمة، أسسها، مظاهرها، أهدافها، تقنياتها:
العولمة -في الصياغة العربية للمصطلح- مصدر يحمل الدلالة على (قسرية الفعل)، وهنا تبرز دقة اللغة العربية في التمييز الفاصل قطعياً بين مفهومَيْ: العولمة، والعالمية حيث يعتبرهما كثير من الدارسين العرب دالّين على معنى واحد.فإذا كانت العالمية تشير إلى النزوع البشري للمثاقفة الندية (أي التعلم من تجربة الغير)، وهو نزوع فطري في التكوين الإنساني، وعمليات تطوره التاريخي المستمر، وبالتالي: تشير هذه "العالمية" إلى التفاهم الحرّ المتبادل على ماهو (مشترك) في طبيعة الخلق، مع الحفاظ على الهويات والخصوصيات الثقافية للشعوب والأمم، أي على "التنوع الثقافي" المتفاعل بإخصاب متبادل ضمن "الوحدة العليا" للوجود الإنساني.. فإن العولمة هي أمر مختلف عن ذلك، وبصورة جذرية كلياً.إن العولمة هي التتويج لمسيرة الفكر الليبرالي الرأسمالي الغربي في نسخته الأمريكية -ويجب دائماً أن نأخذ بالحسبان أمر العلاقة الوطيدة للصهيونية بذلك كله -وهي مسيرة تمتد بضعة قرون، ولكننا -تخفيفاً- سنحدد منطلق الفكر الممهد للعولمة من المبدأ الذي افتُتِحتْ به مرحلة الحداثة في أوروبا في القرن التاسع عشر، والذي يتخلص -بعبارة سمير أمين- بأن (الإنسان وحده هو الذي يصنع تاريخه). ولكن، أي إنسان؟! وأي تاريخ؟!إن الإنسان المقصود هنا هو: الأوروبي، وتخصيصاً هو الأوربي القادر على تحصيل الثروة بأية وسيلة، وعلى إدخال تلك الثروة في الدورة الرأسمالية الربوية!.. أما التاريخ فهو تاريخ أوربا الذي تنتجه تلك الدورة الرأسمالية، وتعيد معه إنتاج تاريخ العالم!! ويتعالق ذلك كله -مقدماتٍ ونتائجَ- بما يمكن صياغته موجزاً كما يلي:اً- بما أن (الإنسان) يصنع تاريخه، فإن ذلك يعني نفي أية إرادة إلهية في الخلق، ونفي أية غائية عن وجوده واستمراره. ويتناقض هذا تناقضاً جذرياً وقطعياً مع البنيان الثقافي العربي المستند إلى الإقرار بوحدة الألوهة الخالقة، والمنبثق عن هذا الإقرار.2ً- والحقيقة أن (الإنسان) الذي يصنع التاريخ -أو لنقل: يصنع الحياة -والذي هو الأوربي المترسمل كما ذكرنا قبلاً، لا يعود (هو ذاته)، بل إنه في سياق فعالية الرأسمال يتحول إلى "شيء" يحدد حجم ملكيته قيمتَه، أي إن (الإنسان) ينتفي بدوره متحولاً إلى نوع من (السلعة) المتعالقة عقلياً وروحياً ونفسياً وجسدياً برأس المال وحركته، حيث هذا الأخير يحقق استقلالية خاصة متعالية حتى على من يعتبرون (مالكيه!!). وبذلك، وعليه، ينشا "نظام قيمي" يمكن وصفه بأنه لا إنساني.