فإذا ما تم الدخول بدأ الخلق /خلق جديد في هذه النعمة، وياء المتكلم في (خلقتِني) ما عادت تدل على (أنا) الشاعر وحدها بل على (المبدأ الذكوري الكلي)، حتى ليمكننا -بإفراده في التلقي- أن نقول: علينا… وخلقتِنا.. فعملية الخلق يقوم بها مبدأ الأنوثة، والخلق اكتمال قدرة، والاكتمال يشترط انشباك المبدأين حيث يكون المفعول فاعلاً والفاعل مفعولاً، في تكامل لا تضيع معه فرادة أي منهما.والخلق هنا هو خلق الحال (أو الحالة، على خطأ اللفظ): صبابات مدلَّهة. أما كلمة حنين فتفتح آفاق النعمة على مداها، ومن هذه الآفاق تولد كنوز الحنان، أو غبطة الروح في صفائها العشقي المطلق، الذي يفيض بدوره مكنونات تلك الكنوز على كل من حُرِم منها.إنها، إذاً، صيغة الفردوس النوريّ الذي خلقه هذا العشق. والعاشق/ المعشوق- بحكم طبيعة هذا الفردوس الذي لن يبلغ جلال روعته إلا من خبره في أعماقه- لا يمكنه الاستئثار بكنوزه وحده، فهي فيض من الحال، أو الحالة، يغمره ويُشع على الآخرين متجاوزاً كل أنانية وكل حساب، فتلك كنوز الروح العاشقة التي لا تحصر ولا تنفد!وينتهي الشاعر، وقد بلغ هذه الحال من ثراء النشوة الانفعالية المشعّة المتألقة، إلى شكواه من المعشوق حيث هذا يتمنَّع عليه فيصير محروماً- مع أنه هو من يعطي ويغدِقُ عطاءهُ من نور ذلك العشق على الخلق- كما لو أنه درويش من المتصوفة: كابد حتى كاشف، لكنه وهو ينغمر بكل هذا السنا يعجز عن أن يطال مصدره، فتختلط لديه الحسرة بالنشوة الجليلة!.. وهكذا، وفيما هو يُبلغ عما خبر ورأى، يجد (جواهره من العبير السكب)- الجواهر التي هي شعره/ إشعاع روحه المنتشية بالمكاشفة- تغفي متعبة وقد بلغت تلك الذروة من الروعة وهي تطوِّف في غلس العشق وهجيره. ولقد كادت تتوه عن مقصودها في ذلك الطواف، فتلك الجواهر يجب أن تزيِّن (العنق الهاني) للمعشوق الذي ارتفع من كيانه المحسوس إلى صيغة المبدأ الكلي المطلق.. ولم تكن لتُرشَد إلى مقصودها لولا أنها من نور.. وذلك العنق الهاني من نور: (فأرشدها إلى سناه حنين النور للنور).وبلغ الشاعر ختام (حالَهُ) وقصيدته في آنٍ معاً!!وإنها لحالٌ تم الإبلاغ عنها بمثل هذا البناء النصي، فهي تُعاش في التلقي، ولا تشرح ولا تُفَسَّر لولا حاجة الدَّرس إلى شيء من ذلك.وإن المرء ليلمس ذلك الإيقاعَ الهارموني الأخاذ في تلك الرحلة المشبوبة. وما البدء بالنور والاختتام به بعد ثمانية وعشرين بيتاً هي نص القصيدة كله، إلا كما القرار والجواب في الموسيقا.. وبينهما لعبت الذات الشاعرة العاشقة بالفن، عبر الصورة أو مركّب الصور، لعباً راقياً ينخطف المتلقي فيه وبه انخطافاً يكاد يقول معه:هذا ما جرى لي أيضاً وأكثر، فكيف لم أكن أنا قائلَ ما قيل.وتلك، إذا شئنا الدقة وتحرّي الحقِّ في وظيفة الشعر وصنعته، غاية الفن الشعري.. وإحدى أنماط صوغه الأسمى والأرقى.